.
عندما كنت صغيرة سمعت أم كلثوم تخرج عن السياق اللحني. قلت لأبي بملل طفولي: “ليكها نشزت”. ضحك وردّ: “أم كلثوم بتنشز؟! لك هَي أم كلثوم هَي”. بقيت اللحظة عالقة في ذهني، وظلت لحظات تمر علي في تسجيلات عديدة للست. بعد سنين عديدة، في سن الثانية والعشرين، لما أخذ اهتمامي بأم كلثوم يأخذ منحى أكثر جدية، تعثرت بمعلومة عدم معرفتها النوطة الموسيقية. ظننت عندها أني كشفت المستور، وأن بيدي الآن فعل المحظور، انتقاد الست والكفر بألوهيتها.
بدأت أتساءل، هل لجهلها بالنوطة الموسيقية علاقة بما سمعته من خروج عن السياق اللحني؟ هل ما أسمعه من انقطاع عزوته لوقت طويل لرداءة التسجيلات وقدمها علاقة بهذا الجهل أيضًا؟ لو صح ذلك فهو بداية مشروع بحثي يلقي الضوء على ثغرة في فن أم كلثوم فيكون نقطة للتطوير انطلاقًا منها. ثم “مين أم كلثوم يعني؟ بشر متلنا متلها” وكثيرًا ما كان تأليهها والمبالغة بتمجيدها نتيجة شعور بالنقص، وكأنّا توقفنا عن إنجاب المواهب. حملت حماسي التمردي، معرفتي الضئيلة وكلثوميات تعاد وتكرر على القنوات التلفزيونية والإذاعية، حصيلة من الأغنيات ظننتها، لجهلي، كافية إذ قارنتها مع حصيلة بنات جيلي. بدأت البحث في الموضوع، قرأت كل ما وجدته عنها شرقًا وغربًا، ما كتبه صميم الشريف في السنباطي وجيل العمالقة وما خطه فكتور سحاب في السبعة الكبار في الموسيقى العربية، ما لا تعرفونه عن أم كلثوم وما تعرفونه، قليل من الكتاب تطرق لفنها بلغة نقدية جادة، وكثيرهم مجّد سيرتها، وتغزل بروعة شخصيتها رغم دلائل كثيرة على عكس ذلك. لا يهم، هذا كله لن يثنيني عن هدفي، إيجاد الثغرات في فنها، وعدم الاكتفاء بنصف الكأس الممتلئ. أثناء بحثي استعنت بأحد الأصدقاء السميعة، حكينا عن شخصيتها واختياراتها التي لم توفق بها كـ ألف ليلة وليلة بألحانها المبسطة التي لا ترقى لصوت الست. تحدثنا عن حب الظهور لديها الذي جعلها تقول آهاتٍ مبالغًا بها كـ “آه من قيدك أدمى معصمي” في اﻷطلال. من ناحية أخرى، لفَتَ صديقي السميع والمخرج نظري إلى مزايا أخرى فيها، أرسل فيديو لها قائلًا “اسمعي وشوفي”. سمعت وشفت أداءً تمثيليًا ممتازًا صدقته، لو أطفأت الموسيقى واكتفيت بمشاهدتها لبدت كخالد تاجا مؤديًا دور الناصر في ثلاثية الأندلس.
من إن كنت أسامح وصولًا لدارت الأيام الحزينة مرورًا بأدائها وحضورها، حاولت تحقيقًا لهدفي إيقاف ما كان يتسرب منها بداخلي دون جدوى، جواباتها في مونولوجات القصبجي، تطريبها في أغاني زكريا أحمد، لغتها في قصائد السنباطي. عدت إلى أم كلثوم العشرينات والثلاثينات، عرفتها حين كانت تستعرض عضلات صوتها وتمهد لتوليها عرش الغناء، وحين كانت مختمرة تقف على العرش، لا ينازعها أحد عليه. طغى جمال المشروع الكلثومي بما شمل من ملحنين وما ضم من أشعار على مشروعي. تحول حماسي في اكتشاف ثغرة ما إلى فضول لم أجد له جوابًا. ما الذي خسرته أم كلثوم بعدم تعلمها التدوين الموسيقي؟
استمريت بالبحث، واستعنت بياسر عبد الله. قلت له إن أم كلثوم لا تعرف نوطة فرد قائلاً “آه كلهم كانوا كده”. صدمت أن الكل يعرف. كنت قد قرأت عن مواقف لأناس في وقتها تعلموا النوطة وتم تحذيرهم من كشف ذلك مخافة السخرية كما حصل مع سامي الشوا ذكر كمال النجمي في إحدى هوامش كتابه تاريخ الغناء العربي أن أمير الكمان سامي الشوا روى في مذكراته أن كبار المطربين في العقد الأول من القرن العشرين نصحوه بأن يكتم معرفته بالنوطة الموسيقية لكيلا يستخف به المطربون والملحنون أيامئذٍ، لم أكن أتوقع أم كلثوم إلا ضمن من يتعرضون لهذه السخرية ولا يأبهون. كيف لحنت ﻷم كلثوم لحنان هما طقطوقة على عيني الهجر ١٩٢٨ وقصيدة يا نسيم الفجر ١٩٣٤ إذا لم يكن باستطاعتها التدوين الموسيقي؟ لم تحتج لأكثر من تعلم المقامات والعزف على العود سماعيًا ومعرفة الإيقاعات، بالإضافة إلى أن اللحن سابق على تدوينه بالنوطة الموسيقية، والتلحين عند العرب مذاهب. بعضهم يتخيل النوطة في ذهنه، يكتبها ثم يجرب سماع صوتها، والبعض الآخر يؤلف اللحن ويوثقه بالنوطة وهم الغالبية، ويُلاحَظ أن هذه الفئة تعمل حسب الترتيب الأصلي، اللحن ثم التدوين.
ماذا عن الوقت؟ أليس التدوين تحديدًا لوقت؟ العلامة المستديرة أربعة أزمنة والبيضاء زمنين والسوداء زمن واحد؟ ألا يعني اختلال الوقت اختلال التوافق بين المطرب والفرقة؟ ألا يكون للنوطة دور آخر غير التوثيق كما ذكر مصطفى سعيد في حلقات روضة البلابل؟ ذكر أيضًا أن الحفظ سماعيًا، وعلى صعوبة الموضوع في بدايته إلا أنه يثبّت اللحن في الذهن. بظني أنّا لو حفظنا اللحن أولًا ثم قرأنا نوطته فإن هذا يساعد في تثبيت اللحن في الذهن بالإضافة لضبط زمنه دون الحد من آفاقه وحرية المطرب أو العازف في التفنن به. سيقلل من الوقوع في الاسترسال بغير مكانه ويسهل التوافق مع باقي أفراد الفرقة، فلا يكون دور النوطة سوى أنها أداة التشذيب الأخيرة، إلى جانب دورها الذي خلقت لأجله وهو التدوين. أما بالنسبة للارتجال فله مساحته وإشارة بدئه وانتهائه المتفق عليها بين المطرب والفرقة، ويخضع لقواعده الخاصة كونه جزء من ثقافة التخت الشرقي يقع ضمن ثقافة الفرقة التي لها شروطها الخاصة هي الأخرى وتحتاج لضبط أكبر إذا ما قارناها بالتخت الشرقي لتنوع الآلات وكبر عددها.
أم كلثوم لا تبتعد عن كل هذا، فمثلًا يقول فريدريك لاغرانج إن “الفرقة أثناء الارتجال تعود لحالة التخت الشرقي فلا يبقى مع صوت أم كلثوم سوى عود وقانون وكمان واحد وضابط إيقاع”، وبالنسبة للاسترسال وضبط الزمن فإن أخطاءها فيهما نادرة حتى نسبة لمن يعرفون نوطة ( كأخطائها في هو صحيح الهوى غلاب، غلبت أصالح، فكروني) ، إذ أني بعد تدريبي على الغناء سماعيًا وتعلمي للنوطة أُدركُ الآن أن الخطأ وارد دائمًا، قلة أخطاء أم كلثوم، رغم التطريب والارتجال والتعامل مع هذا الكم من الآلات، يعني ذكاءً وبذل جهد جبار في التدريب والحفظ، وحساسية في السمع وضبط الزمن تثير الدهشة.
في بحثي عرفت أيضًا أن الانقطاع الذي كنت أسمعه في التسجيلات ناتج عن المونتاج، بعض الأحيان لإخفاء الأخطاء وأكثر الأحيان لأن عند أم كلثوم الجميل والأجمل كان يتم مونتاج حفلات أم كلثوم واختيار أحلى المقاطع منها للنسخ التلفزيونية المصرية، وللأشرطة التجارية التي طرحتها صوت القاهرة فيما بعد، إذ أن حفلاتها لم تكن تبث مباشرة عبر التلفاز، وحدث أول بث تلفزيوني في رحلة المغرب في مارس ١٩٦٨، “صوتها له مزايا عشر مطربات”، كما قال عبد الوهاب مرة. لا أثق دائمًا بما يقوله، لكني الآن حين أنظر للأمر ككل أجده لا يبالغ. ما ينقص عندها من المعرفة تكمله موهبة تطغى على عثراتها، وبعض خياراتها غير الموفقة. تغيب هي، ويبقى ما تركته من جمال منتصرًا.