.
ثلث تامر أبو غزالة
بحث | نقد | رأي

ثلث | تامر أبو غزالة

رفيق محفوظ ۲۰۱٦/۱۱/۲۷

كانت مرآة أبو غزالة اتجاهًا لحنيًا جديدًا غير متكملٍ، أخذ سبعة أعوام ليتبلور، ثم صدر كـ ديمو لإصدار أوسع قد يتبعه. خلال الأعوام التي تلت الإصدار كان أداء تامر أكثر تجريبية في تقديم تلك الأغاني بالعروض الحيَّة، يصيب ويخطئ أمام الحضور، يشاركهم التجدد والارتجال، فكان من الطبيعي أن تخرج قفلات غير مريحة أحيانًا، تسرُّع أو عدم ارتكاز على نقاط تساعد على إبراز الصوت.

تغيَّر هذا في إصدار أينما ارتمى مع فرقة الألف، إذ مال أبو غزالة صوب الأداء التعبيري أكثر من أي وقت مضى، يتعامل مع صوته كآلة ويطلق نبراته بحدَّة كدقه على العود. نضجت البنية الموسيقية بضم الطبول للقطع القديمة بما سمح بالتخلي جزئيًا عن الدور الإيقاعي الحاد للعود في معظم القطع، وظهرت باقي الآلات لتُجدد الموازي الموسيقي لصوت أبو غزالة، فتحولت القطع من ديمو  يتطور مع كل عرض إلى تجربة نضجت.

نحن لا نبكي إن اشتد الحنين، ولا نبكي في المشرحة

لما قد يبدو انعكاسًا لاختيارات أبو غزالة الشخصية، تعددت المصادر الشعرية، ما جعل الإصدار يحوم حول عدة بلدان وأزمنة، موازيًا لترحاله، حيث آلهة وثورات مسحوقة في سرديات تراجيكوميدية، ووطن مفقود وخيال وعروق مخلوطة بدماء الأرض، وبيداء وطبول حرب وهجر ليلى، وكوابيس مصبوبة تُغرق منام بهية، ومأساة الوجود، وزجاجة بلا عنق، أو بشري يتحول لحشرة.

يحكي تامر عن لقائه الغريب، مُعمِّرٌ عاصر تاريخ الأرض واختلطت نبتاتها بدمائه، هُجِّر منها قهرًا، فظل سجينًا بين ذكراه وواقعه المرير. تبدأ الأغنية بتمهيد العود ممرًا سريعًا ليدخل أبو غزالة وتتبعه نغمات الپيانو، ثم جواب العود الذي يطغى بدوره سريعًا، ليهبط أبو غزالة “نلاقي الدم الجاري في عروقه خليط” فترتفع ضربات طبول اللامي وتسافر مع جواب الپيانو إلى عرض المشهد من أعلى، بجملة ميلانكولية مُكمِّلة لجملة العود الذي يتبدل موضعه من الأمام للخلف، يستكمل أبو غزالة وصف الغريب “كانت إيديه تطرح جذوع / لونها حنين غامق / وأوراقها ترخي ظلال / فوق البيوت…” ويعيدها موفقًا بدرجة أعلى ويستمر في الارتفاع والهبوط بتمكن صوتي مرِّن مع تبدل الأدوار. مع انتهاء أوصاف الغريب، يفصل العود بصداه ما سبق عما هو آتٍ، لحظة اصطدام محاولة السرد الثالثة للغريب بحقيقة فقدانه هذا الوطن منذ زمن بعيد، صيحةٌ وارتعاش وغضب يسكن ما تبقى من ترابها بعروقه. ينسلخ أبو غزالة عن صوته “صار جسمه يصيح / ويعلى فوق التراب / ومن بعيد ييجي الهوا / حامل أصوات / جياد بتنوح”، تعرَّي تلك اللحظات مساحات لم نعرفها سابقًا عن قدرات تامر التعبيرية، وقدرات تلحينية ممتازة قوامها قفزات صوتية حادة وجريئة يتفرد بها مبتعدًا تمامًا عن النمط المتلاصق للحن العربي المعتاد.

في حلم، اقتبس أبو غزالة لحن آستا سيمبري لكارلوس پويبلا، وحوَّله من لحن يمر بفخر ومديح الثورة الكوبية بسرد دور قائدها الملهم تشي جيفارا، إلى لحن اللوحة الثالثة من مسرحية ياسين وبهية لنجيب سرور، حيث تسرد بهية لأمها تفاصيل الحلم الذي مات فيه ياسين. في نسخة سابقة من حلم، بدا أبو غزالة أكثر غرقًا في التماهي مع الحالة، إلى حد البكاء. أما في نسخة ثلث، فيظهر قرار أبو غزالة بتجريد صوته من الحركة، وجعله أحد عوامل الفزع. متلزمًا دور الراوي عن بهية، لم يصح أو يصرخ محاكيًا هلعها، بل دعَّم غناءه بتوظيف ممتاز للأصوات الثانوية، مجسداً أصوات بهية الداخلية وهلعها المكتوم. مرة تسمعه يردد خافتًا “حلم غريب يخوِّف”، ومرة تسمع أنفاسه ترتفع، ومرة يتهدج مقتولًا “راح بعيد يامَّا خالص”.

أخذ أبو غزالة عن قيس بن الملوح (مجنون ليلى) أبياتاً متفرقة من قصائد منفصلة، فأضاف روايةً أخرى لمأساته، فصلًا من حيرته بعد هجر ليلى له، فكانت حب. عكس نسخة مرآة من الأغنية، أتت نسخة ثلث مشحونة بمزيج من طبول الحرب ووتريات حادة تلاحق بعضها، وأصوات ثانوية متعددة تخلق عمقًا غامضاً لحيرته. بعد دقيقة وأربعين ثانية، ينتهي فصل الحيرة عند “يقولون ليلى عذبتك بحبها / ألا حبذا ذاك الحبيبُ المعذِبُ”، ليبدأ التمني والغضب “متى يشتفي منكِ الفؤاد المعذَّبُ، وسهم المنايا من وصالكِ أقربُ / فبعدٌ ووجدٌ واشتياقٌ ولوعةٌ” فيمارس البيانو ملاحقة المنايا واقترابها من قيسٍ، ويُجسِّد العود ابتعاد الوصال. يتوسع أبو غزالة بالتشبيه فوق تسارع ضربات اللامي والحسيني، قبل أن ينهيها كما بدأها “وأفردتُ قلبًا في هواكِ يعذبُ” محضراً لمخيلة المستمع صورة قيس هائمًا في الصحراء بعد أن فقد عقله من ولهه بليلى.

يبدأ عود أبو غزالة علامة لرامز فرج بالتوجه نحو حنين مطلق، ثم يسحبك في الاتجاه المعاكس بإطلاق صوته على نغمٍ مُتمنٍ وأكثر نعومةً، فيكسر الجملة اللحنية بمرونة مُربكة تجعل اللحن مُبهمًا لأول وهلة، ثم تظهر هيئته الكاملة، ليتجاوز كليشيه ادعاء زوال الألم بالكامل طالبًا علامة أو أمل “إنه البياض رح يسكن الأرواح”، ويستمر في تضرعه إلى المجهول. تتوحد أوتار عود أبو غزالة مع صوته وتستمر في مواساته بلحن يضاعف حنينه، وبالتالي يكرر “لازم أشوفك وأمحي خوفك، وأحضن بُكاك / وأسكن في ضلك هناك”. ينساب اللحن بخفة في بنية هادئة مع توزيع جنائزي الطابع، فلا تحمل علامة في طياتها سوى تصالح نهائي مع غياب الأمل، واستمرار الحنين، أو مجرد التمني بزواله.

قصص مصورة وصراصير

يسخر أبو غزالة بشكلٍ جاد، لا يسعى للفكاهة بقدر ما يمرر غضبه وازدراء عبر الغناء. ما يقصده أبو غزالة هو التصوير المُربك، المشهد العشوائي المخيف، كأنك تقرأ قصصاً مصورة. هو شيء مبهر أن يستطيع إصدار صوتي إدراك كل هذه التفاصيل البصرية.

نملة لتميم البرغوثي هي مونولوج مسرحي، بدايةً بطريقة التقديم “أنا نملة / واقعة في رغوة صابون” بهيئة أصوات خلفية مضاعفة ومتداخلة، لتُجسِّد صراع المواطن العربي نحو الفرار من موضعه المنسي وتحقيق غايته من الوجود / الثورة. مرورًا باستعراض هلاوسها السمعية بنبرات حسرة يكررها تامر ثم يقطعها بنبرة تهكمية لاذعة. حتى تعاوده الهلاوس السمعية مرة أخيرة قبل أن يعود إلى رشده ويبتعد عن احتماليات التمرد على مصيره ويقر جنونه.

تتشابه البلاعات إلى حدٍ كبير مع نملة البرغوثي. لكن الأولى تأتي أكثر تفصيلًا وعمقًا، لأنها تحوي رسمًا كاملًا للمشهد بعكس نملة التي صنفتها بمونولوج مسرحي يحكي فيه البطل مأساته دون الخروج عن جسده، ولأن البلاعات صدرت عقب أحداث مجلس الوزراء بالقاهرة، مشهد السحل والتعرية وضرب الموتى بالعصيان ورمي الجثث في مقالب القمامة، الذي يبدو أنه استفز أبو غزالة فاستلهم منه تشبيه الحشرة والبلاعة والكنَّاس. اقتبس تامر أربعة أبيات من بقرة حاحا والبقرة تنادي حاحا / وتقول يا ولادي حاحا / وولاد الشوم حاحا / رايحين ف النوم حاحا لـ أحمد فؤاد نجم / الشيخ إمام، ثم أعاد صياغتها وتحويرها، فبدَّل البيت الرابع منها، ولم يعد ولاد الشوم غارقين في النوم، بل يكسرون العظام بشومهم. يتحرك التوزيع ما بين هزلية المشهد ومرار السخرية. يبدأ أبو غزالة وصلته بمزحة، يلائمها بإيقاع لعوب وكيبورد شعبي، وكورال مصري ذو طابع ثمانيناتي مماثل لكورال أغنية إتفضل من غير مطرود للمسرحي العظيم نجاح الموجي. ثم يصحبك العود المستنفر في رحلة لحظية إلى الشارع الثورة حيث يُضرب بالشوم فيسقط عن ظهر الأرض إلى البلاعة فيتحول لحشرة. هذا ما جسده أبو غزالة صوتيًا / وتريًا مع اللامي على طبوله الصارخة لينتهي الأمر تمامًا عند العود منفردًا بمؤثراتٍ تجعله آتٍ من قاع البلاعة، حيث يمشي الصرصار محطمًا منتشيًا رائحة المجاري التي اعتاد الغرق فيها.

كما يليق بالملحمة أن تكون

سبق وأخرج غسَّان حلواني كليب رسوم مصورة للنسخة الأولى من قطعة تخَبُّط، لكن لم تكن النسخة الأولى قد أخذت شكلًا نهائيًا، فخرج عملًا سورياليًا على إيقاع واحد تتغير سرعاته فقط عند الصعود نحو الكريشندو؛ بالتالي كان منقوصًا. يبدو أن أبو غزالة أدرك لاحقًا وجوب تحرير ذلك الشكل التجريبي السوريالي وتحويله إلى قطعة ذات بنية حُرَّة غير محكومة بسرعة أو زمن أو إيقاع، فخرجت نسخة ثلث من تخبُّط ملحمية تفتح مجالات شتى لارتجال غير مكبوح، وتنقلات صوتية مرعبة لم تعرفها الموسيقى العربية في بناءٍ محدد قبلًا، حيث أن الأصوات في لحن القطعة لا تتلاصق، بل تضرب لما هو أبعد وأعلى، وتخرج عن حدود التوقع لتكشف عن توافق صوتي رهيب بين نوتات أبو غزالة العالية وضربات الحسيني على الپيانو، حدَّة إيقاعية جنونية وأصوات تبدو لي أكثر من مجرد تخبط، أكثر من تفريغ، أكثر من مجرد موسيقى، بل وأكثر حتى من محاولة ارتجال، من المذهل أنهم استطاعوا اختزال هذا الكم الضخم من التحول والطاقة خلال الضربات الأولى للقطعة، “ليلة إمبارح جاني نوم… وإحنا لسه في أول ليلة” يتوسطها وصلة پيانو تنتقل لزمن آخر حيث الشمس والقلقاس مصدر قلق وانتفاض، “ومربع كلمة تتمايل. مع كلمة ف زاوية تتهرب” يتلاعب بأعصاب المستمع بكل أدواته، يضرب نوتات عالية فأعلى بسرعة ويرد من نوتات أخرى بصوته الثانوي وتسابقه طبول اللامي بفواصل زمنية محسوبة بدقة لتنزل عليك كالصاعقة، ثم يتوحد صوته تضخمًا “تتربع كلمة مزوية” وينقلب نعومةً “ف بوسة بصل لشخصي الأكرم” مع نزول الحسيني لمصاحبة العود لتعتقد وحدك أن المشهد ليلة إمبارح حدث فجرًا، فنغمات الپانيو زرقاء، قبل أن تنخفض لاحقًا وتزداد عتمة ليخرج منها النمر الوردي ممهدًا لتصاعد حاد وسريع تدير الطبول زمنه ويوزع الپيانو فواصله يقطع حلمه السوريالي الرومانسية، حيث تحترق الشموس وتنكمش السُحب، بوصلة باستطالة يحتضر فيها لمدة عشر ثوانِ، فهل قطع الحلم الجنس؟

“أهم شي بالنسبة إلي هو قديش أخلّي الجمهور يسمع اللي أنا سامعه في راسي”

يطغى على ثُلُث بُعد مسرحي غنائي، فبعيدًا عن اختياره محاكاة حلم بهية لنجيب سرور، يحاول أبو غزالة أن يحافظ على شخصيته الساخرة الغامضة بتجنب ميلودرامية الأداء، وإدراك الفرق بين الأداء الغنائي المسرحي والأداء الغنائي الصرف باختيار الأول مَعبرًا صوتيًا له، مُجسدًا مشاهد ذات أبعاد متعددة، متلاعبًا بأدواته الصوتية والآلاتية لتؤدي الأصوات الثانوية تجسيدًا لصراع النفس والهلاوس، وبدلًا من التمثيل الحواري، اختار أبو غزالة السرديات الفردية، فمرة صوت معايش التجربة، وأخرى صوت الراوي.

استمر التأثير المسرحي حتى في التناول السياسي، حيث تجنب أبو غزالة تمامًا توثيق الأحداث أو ذكرها ذكرًا مباشرًا، بل مال إلى اقتباس مشاهد وصور منها لإدخالها في تشبيهاته ثم إسقاطها على الواقع بدون تحديد للهدف، مع إضافة جانب مشهدي صاخب، بتقنيات سردية تعتمد على صوت الراوي، حتى وإن تجسد الراوي في البطل، ما يزال راويًا لقوة حسه التهكمي وقدرته على تحويل أبشع المصائب والميتات إلى مهازل تثير السخرية.

ثُلُث هو الاكتمال الفعلي لهوية أبو غزالة الموسيقية، ورغم أنه لم يقدم غير قطعتين جديدتين الغريب وعلامة، أتى غنيًا بالتفاصيل والمرتفعات، جاءت فيه اختياراته الشعرية وتجربة تلحينها موفقة تمامًا، بحيث حافظ على وحدة الحالة في كل قطعة، ووضع أهمية لتفضيله طرح الأغاني القديمة المعاد تصورها على الأغاني التي كتبها برام الله، بعد أن نضجت البنية الموسيقية تمامًا وأخذت كل الآلات أدوارها وتمردت على شكلها التقليدي.

هي التجربة التي لطالما سعى أبو غزالة أن تبرز للجمهور المشارك بها كما يسمعها هو بداخله، وهي المرحلة الأهم والنقطة التحول الفاصلة لما هو آتٍ.

المزيـــد علــى معـــازف