باد تريب إن بترا جان لويس كوستاس معازف مراجعة
مراجعات

باد تريب إن بترا | جان لويس كوستاس

هشام البستاني ۱۸/۰۹/۲۰۲۰

هناك كلمتان يمكن لنا من خلالهما أن نلخّص مجمل ما يحاول جان لويس كوستاس أن يفعله، في مشروعه الصوتيّ-التهكّمي هذا، وربما في مجمل أعماله الموسيقيّة / الأدائيّة / المسرحيّة / التصويريّة / السرديّة المتنوّعة الأخرى. الأولى هي التّضخيم-التّغبيش-التّشويش-التّشويه؛ توازي هذه الكلمة الرباعيّة المركّبة مفهوم الـ distortion في الموسيقى، والذي يعني نقلًا لجملة صوتيّة ما من حالة الوضوح والنقاء المثاليّة، إلى حالة من التّداخل المتعدّد المستويات والخشونة، مغيرًا الموجة الصوتيّة نتيجة لزيادةٍ في التحميل الواقع على جهاز صوتيّ كالمُضخّم. يسحب كوستاس هذا الأثر على مجمل المشروع الإبداعيّ برمّته: كلماته، وموضوعاته، ومعالجاته نفسها.

ثمّة تشويش متعمّد للواقع، والأدوار، والمناظر، يتفاقم أثره إذ يتقاطع مع فكرة مركزيّة عند كوستاس، تتعلّق بالحريّة المُطلقة عندما يتعلّق الأمر بالفنّ، بما في ذلك تناول الأفكار والمفاهيم والمصطلحات غير المقبولة ضمن المعايير “الليبراليّة” أو التقدميّة السائدة؛ دون أي اعتبار لإساءة الفهم والتّفسير والتأويل، ما يسبغ على العمل وقاحةً بيّنة. أضِف إلى ذلك فجاجة الكلمات البذيئة، ووقعها الذي يشبه الصّفعات المتتالية على الأذن، لندخل في سياق الكلمة الثانية التي يمكن لنا فيها أن نلخّص أعمال كوستاس: الالتباس، أو البرزخيّة، بين النقد والتهكّم من عالم استهلاكيّ شهوانيّ عنصريّ تافه، وبين التهتّك والسقوط في فخّ هذا العالم نفسه عبر تكرار أبجديّاته وصوره المُسبقة السطحيّة. ثمّة خيط لا يُرى بين مساحة النقد ومساحة التبنّي، وهذا الخيط الدّقيق هو الذي يسير عليه كوستاس كبهلوانٍ يطوّح بذراعيه في الهواء، مُجبرًا إيّانا على السّير معه على ذات الخيط، بلا عصا توازن، وبلا تدريبٍ مُسبق، واضعًا إيّانا في الموضع الذي يضع فيه نفسه: مواجهة الإنسان النيّءِ مُختصَرًا إلى غرائزه الأساسيّة: أن يستهلك، أن يأكل، أن يتغوّط، أن ينيك، أن يَقتُل؛ شاعرًا بتلك السّعادة اللحظيّة العابرة من الإشباع الآني، فاضحًا إيّاها.

لكن الأمر ليس بهذه السهولة: فعلى من يستمع إلى رحلة بائسة إلى البتراء، وإلى مجمل أعمال كوستاس، أن يعلق في ترجمات جهنميّة لتلك المواجهة، تتبلور على شكل أفخاخ صوتيّة-سمعيّة، ودوّامات من التّكرارات التي تُحاكي الروتينات اليوميّة بالغة القذارة من جانب، أو الأنانيّة من جانب آخر؛ والتي يتناساها العامة ويلقونها إلى الخلف من وعيهم اليوميّ، أو ينظّفون ذاكرتهم منها وكأنّها الطاعون، لا يكادون يلحظون وجودها: كم مرّةً تتغوّط في اليوم؟ كم مرّةً تتبوّل؟ كم مرّةً تتجشّأ؟ كم مرّة تضرط؟ كم مرّة تُمخِّط؟ أو لنتعمّق أكثر: كم مرّة تسمع عن قتلى وضحايا الحروب والصّراعات والكوارث والجرائم والمظالم، وتنساهم مباشرةً بعد أن تغلق نشرة الأخبار؟ كم مرّة تتجاهل سماع الأخبار تحديدًا لكي لا تسمع عن مآسي هذا العالم، ولتنقذ أحاسيسك البليدة من مزيد من البلادة واللامبالاة؟ كم مرّة لزمت الصّمت تجاه إهانة شخص أمامك في الطابور لتسير معاملتك دون كثير غلبة عندما يصلك الدّور بعده؟ كم قطّة هرست بعجلات سيّارتك؟ كم قطّة مهروسة على الإسفلت مررت بها دون أن تتوقّف أو تفكّر؟ كم مرّةً شبعت بينما يموت من الجوع ملايين غيرك؟

في سياقٍ ما، يبدو الفنّ المتعلّق بالبذاءة والقذارة حالةً متقدّمة من المواجهة الذاتيّة للإنسان مع نفسه المغرورة بذاتها، المقتنعة بمشروعيّة ذاتها، وحالةً من وضع الإنسان لنفسه في مكانه الصّحيح من العالم، عبر تشويش صورته النظيفة-المعقّمة-الكاذبة عن نفسه، وكأنّ الفنّ بتشويش المُشوّش يعيد الأمور إلى نصابها، مُنزلًا “الجريمة الأصليّة” من طهرانيّتها الوسواسيّة الفردوسيّة إلى دناستها البشريّة الأرضيّة.

هكذا، تبدو البذاءة (الخالية من السّفالة)، والعُري (المُفرَغ من الإيروتيكيّة)، والوقاحة (غير الملتزمة بحدود اللّياقة السياسيّة الليبراليّة / التقدميّة المعاصرة) أداةً لإعادة التعريف: ابتداءً من إعادة تعريف الفنّ، وانتهاءً بإعادة تعريف الإنسان، مرورًا بإضاءة جرائمه ونزواته وخُلاصته، بكلّ أبعادها.

تحفل مقطوعات هذا الألبوم بكلّ هذه الرّذائل/ الفضائل، بدءًا من المقطوعة الأولى، ألو مستر سَلَامْعَلِيكْ، التي تتضمّن وصول الفنان إلى المطار في الأردن، ورعبه من أن “الجميع هنا عرب” ورغبته بالعودة إلى فرنسا، وضياعه إذ لم يفهم عليه مُحدّثه المحليّ على الهاتف، وإحساسه بأنه “أرنب صغير في الصحراء”، معرّض للقتل والاغتصاب، واغتصابه فعلًا من قبل جَمَل في المقطوعة الثالثة عشرة: أوقفوا الجَمَل.

إلا أن السياق التهكّمي على وضعيّة الأوروبيّ الساذج المُستغَلّ الخائف الغائص في صوره المسبقة واستيهاماته وفيتيشاته عن “الشّرق”، واضحٌ لا يمكن القفز عنه، ومنها مثلًا أن الأوروبيّ الواصل للتوّ في المقطوعة الأولى، وحالما يشاهد أشجار النخيل (الاستيهام الصحراويّ الشرقيّ المتوسّط الذي يأخذنا بداهة إلى الجمل)، يسأل عن أشجار جوز الهند (الاستيهام الاستوائيّ الشرقيّ الأقصى الذي يأخذنا بداهة إلى القرد)، وكأن واحدهما يقود إلى الثاني بالضّرورة الاستعماريّة؛ أو أن الأوروبيّ في المقطوعة الثالثة: كُسّ عربيّ، يريد “الوصول إلى الحقيقة” بمضاجعة امرأة عربيّة. “معي دولارات، ويمكنني أن أدفع لكِ” يقول الأوروبيّ، ضمن قالب موسيقيّ قريب من موسيقى الأرجن الكنسيّة المُطعّمة بلمسات لا تكاد تُلحظ من موسيقى ألف ليلة وليلة، مولّد الاستيهام الاستشراقيّ المركزيّ في الغرب.

هناك أيضًا مقاطع تحمل إداناتٍ مزدوجة، وتقطع من الجهتين، مثل المقطوعة الخامسة، أوه لا لا ما أطيبه، حيث يشعر الأوروبيّ بالسّعادة والحريّة في جنة الشّرق المُتخيّلة المليئة بالرّقص والغناء، سائلًا باستنكار: “أين هي الحرب؟ أرى أناسًا سعداء.” هنا إدانة مزدوجة: إدانةٌ للفكرة المسبقة التي تفيد أن البلاد العربيّة هي بلاد حروبٍ ودمارٍ وخطرٍ بالمطلق، وإدانةٌ لمن يأتي إلى المنطقة فلا يرى الحروب والدمار والفقر والظّلم وأسبابها بالمطلق.

هناك مقاطع أخرى تحمل معانٍ مزدوجة، مثل المقطوعة السادسة: حليب البحر الأحمر، فالأخطبوط الكامن للأوروبيّ المسكين يأكل مؤخرته، وقضيبه، وخصيتيه، وينتهي المقطع بشكل من التفجّع: “دموعٌ في السّماء، ودماءٌ في البحر.” هنا نخوض ثانية في الالتباس والتشويش: أهي صورةٌ استشراقيّة تتعلّق بالشرق المتوحّش الجاهز لابتلاع وأكل الأوروبيّ المسكين، أم هي إدانة لهذه الصورة عبر تضخيمها داخل سياق تهكّمي أكبر، أم هي إشارة إلى أن هذا الأوروبيّ جاهز لإلقاء نفسه في ملذّاته واستيهاماته الاستشراقيّة حتّى التّهلكة؟

تتجلّى ذات النظرة المركّبة-المُتضادّة في المقطوعة السابعة: كنجر جَمَل، وفيها نعاين الالتباس ثانية بين الاستشراق ونقده. يلتبس الأمر على الأوروبيّ بين الكنجر والجَمَل (عارف وجاهل في آنٍ معًا)، وهو معزول في الصحراء، تارةً بذريعة أنه مصاب بالكورونا المستجدة ولا يريد أن يُعدي أحدًا، وتارةً لأنّه يريد الحريّة دون فيسبوك وإنترنت. يريد العُري الإنسانيّ ووحدةً مع الطبيعة (كاذبٌ ونبيلٌ في آنٍ معًا)، فيما تتجلّى العناصر الاستشراقيّة مُضخّمة ثانية: الإكزوتيكيّة المتمثّلة في الكنجر والجَمَل، ناهيك عن كونهما يجتمعان معًا في مشهد صحراويّ واحد، والطبيعة، المُرمنسة بواسطة استدعاء الحريّة والبدائيّة، والمتوحّشة عبر اغتصاب الكنجر لزوجة الأوروبيّ.

تتكر ثيمة الاغتصاب كما نرى، وهي من رواسب التمثيل الاستعماريّ للشعوب المُستعمَرة وتصويرها بأنها شبقة جنسيًّا وتريد اغتصاب النساء البيض. لكن ماذا نقول هنا وكوستاس يعرض الأوروبيّ أيضًا باعتباره شبقًا جنسيًّا، مَمْحونًا يريد مضاجعة النساء العربيّات كما مرّ معنا، أو أنه يستلذّ باغتصاب الجمل له في نهاية المقطوعة الثالثة عشرة: أوقفوا الجَمَل، التي تنتهي بعبارة: “القضيب الكبير للجَمَل حلوٌ جدًّا؟”

ماذا نقول عندما يختتم الأوروبيّ كلامه في المقطوعة الخامسة عشرة: الفرنسيّون العرب – كلامٌ هو نوبةٌ من صراخٍ طويلٍ يؤكّد بأن الفرنسيّين العرب ليسوا عربًا حقيقيّين، بل هم عربٌ مزوَّرون – بالإعلان عن مصدر هذه المعرفة الأكيدة وتلك الأحكام القاطعة: “أنا أعرف لأنّني زرت الأردن، وهي مختلفة!” هذه إدانة صريحة للمعرفة السطحيّة-الاستعلائيّة التي لا تُشكّل فقط مصدر أحكام العامّة من الأوروبيّين على “العرب”، بل تُشكّل أيضًا معارفهم الأكاديميّة “العميقة” التي تُدوّن في مقالاتٍ وكتبٍ أكاديميّة إثر زيارات “بحثيّة” عابرةٍ وسريعة، لتُشتقّ الأحكام والمعارف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المُعقّدة من مجرّد انطباعات، يصير الأوروبيّ الزائر – من خلالها، ومن خلال سلطته البيضاء – “خبيرًا” عن المجتمعات “المُتخلّفة” أكثر من تلك المجتمعات نفسها، ويعرف مصلحتها أكثر منها، بل يعرف من تكون أكثر منها، كما في المقطوعة المذكورة.

يقول كوستاس في إحدى مقابلاته: “كلّ أداءٍ يكون عنيفًا، وجسديًّا جدًّا. لكن حذاري من أن يختلط عليك الأمر بينه وبين الواقع. إنه مسرحٌ فقط – الجنس، الجسدانيّة، العدوانيّة – كلّ شيء هو أداءٌ تمثيليّ، وليس واقعًا مُعاشًا.”(١) يُمكن النظر إلى رحلة بائسة إلى البتراء من خلال المدخل ذاته، فهو ألبوم متكامل من تسع عشرة مقطوعة مترابطة، تشكّل بكليّتها عرضًا صوتيًّا-موسيقيًّا-سرديًّا متشابكًا، عنيفًا، وجسديًّا جدًّا، لكنّه ليس الواقع المعاش بعينه، بل هو التمثيل الفنيّ التشويشيّ-الالتباسيّ لهذا الواقع، يشتغل عبر آليّات تضخيم العيوب والإشكاليّات، ويقطع في سبيل ذلك المحظورات، والمفاهيم اللائقة سياسيًّا، ليصل بنا إلى حيث يسود الضّباب تمامًا في العالم المعاصر. ضبابٌ يحجب الرؤية، ضبابٌ هو الحقيقة اللانهائيّة، ولا سبيل للوصول إليه إلا عند التخلّي عن أداة الرؤية الأساسيّة. في المقطوعة السابعة عشرة: الضّباب الأبديّ، يسأل السّائل عن الطريق الحقّ، فيأتيه الجواب أن الحقيقة هي الضّباب الذي تراه داخلك ما أن تغلق عينيك، ضبابٌ سيلتبس مع دخان الحرائق التي أشعلها على كوكب الكراهية والجرائم هذا ملايين القردة (البشر) المرضى في المقطوعة الأخيرة، بانتظار رجل المطافئ.

قد يستاء البعض من فجاجة الألفاظ والأفكار والتشكيلات الكلاميّة-المشهديّة، وقد تنخر أدمغة آخرين الخيارات الصوتيّة-الموسيقيّة للفنّان التي تُحسب على موسيقى “الصّخب”، لكن، إن كان ثمّة من يتحمّل سماع أنشودة الإنسان “المُتحضّر” المُعاصر العاري، بكامل عاره وعيوبه وجرائمه، وإن كان الشّكل الفنيّ الذي لطالما يجهد الفنّان ليحقّق وحدةً فعليّة بينه وبين الموضوع المطروح هو غاية أي عمل فنيّ جادّ، فيمكننا القول أن هذا الألبوم، ومن معقله التحت-أرضيّ / الهارد-كوريّ الحقيقيّ، ينجح (على العكس من صاحبه(١)) في الاشتباك الفعّال مع عالم المجانين هذا الذي نعيش فيه اليوم.

يمكنكم شراء الألبوم على باندكامب.

هوامش:

Karolina Sulej, The Stage Opened Me: Talk with Jean-Louis Costes, Biweekly.pl, Issue 29, 10/2011, https://www.biweekly.pl/article/2795-the-stage-opened-me.html

 يقول كوستاس في مقابلة أخرى: “لا أملك القدرة العقليّة للنّجاح في مجتمع المجانين هذا.” Prism Escape #3 https://web.archive.org/web/20051104112834/http://www.a-lab.org/article_us5b48.html?id_article=82

المزيـــد علــى معـــازف