.
إلى كابو جيلنا، هاني درويش
لم يكن للمستمع اللبناني أن يفهم آنذاك سر انتشار حميد الشاعري الساحق في مصر في العقد الممتد من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينات، فالإيقاعات الراقصة واستدخال الآلات الغربية كانت امراً شائعاً في لبنان الثمانينات، الذي عرف في ما عرف سامي كلارك والأمير الصغير وغيرهما، كما عرف ادخال زياد الرحباني لآلات النفخ النحاسية والحماسية في صلب الموسيقى الشرقية ذات الأرباع منذ أواخر السبعينات، وكان لبنان بطبيعة أحواله أكثر انفتاحاً على الغرب وموسيقاه وآلاتها، حتى من قبل ذلك التاريخ. بل إن الموسيقى المصرية نفسها كانت قد بدأت تأخذ مثل هذه الملامح منذ مطلع الثمانينات مع اورغ الشريعي واكورديون حسن ابو السعود وتوزيعات هاني شنودة والصوت الجديد الذي منحه للفرقة الذي أطلقه محمد منير.
غير أن حميد الشاعري انتشر أيضاً في لبنان، ليس مباشرة بصوته حيث ظل هذا الجانب منه مغموراً في لبنان، بل بالنجوم الذين صنعهم أو كانت له يد في صناعتهم: حنان، محمد فؤاد، مصطفى قمر، هشام عباس، سيمون، إيهاب توفيق، حكيم، محمد محيي، علي حميدة وحتى عمرو دياب. ثم، وقريباً من ذلك، دخل حميد الشاعري أيضاً عالم الفيديو كليب في ثنائيات شهيرة مع مصطفى قمر وسيمون وهشام عباس، وكان لدخوله ذلك اسهام أيضاً في نقلة تصوير الفيديو كليبات، وانشاء قصص ثانوية ظريفة ومستقلة عن كلام الأغنية، والابتعاد عن الوقوف الجامد للمطرب مع وجود راقصات في الخلفية.
عازف الجيتار الليبي الحالم الذي، بحسب الراحل هاني درويش، “يغني بإيقاع بدوي على غيتار أسباني أغاني عن العشق والاغتراب والمدينة القاسية“، انتشر لأسباب مختلفة عن الاغتراب والمدينة، ذلك أن ما صنع “بصمته” على الموسيقى المصرية كان استخدام مزيج التراكات المضاعفة، بخاصة لصوته، والغيتار، والتصفيق والايقاع الصريح لا سيما المقسوم. وكل ذلك لا يصنع توزيعاً، ومن المرجح أن الكتابة للوتريات مثلاً كان من صنع آخرين، مثل يحي الموجي على ما ذكر الشاعري نفسه في بعض الأحاديث الصحفية، ومن المستبعد أن من يوزع “على الغيتار” على حد قوله كان ملماً بالكتابة الموسيقية المعقدة على طراز موزعين كبار في مصر من امثال علي اسماعيل واندريا رايدر وعطية شرارة. في المقابل، كان من الطبيعي للشاعري، العازف على الجيتار لا على العود، ان يستدخل الجو الهارموني، وإن في أبسط صوره، في هذه الالحان من خلال الكوردات او الائتلافات التي يعزف بها على الجيتار والتي تبني مناخاً موسيقياً للأغنية مختلفاً عن المعتاد في الشرقي. قد تكون من المبالغة القول بأن ما اضافه الشاعري إلى المشهد الموسيقي آنذاك هو التوزيع، بل هو اقرب إلى مفهوم “المنتج“، أو المسؤول عن الصوت الناتج في نهاية الميكساج، وهو ما يشير إليه تشابه كل نتاجاته على صعيد الصوت هذا والإطار العام للعمل حتى في الالحان التي وضعها آخرون، بل إن الشاعري في غلاف البوم “حالة” لهشام عباس، يذكر “الإخراج” و“التنفيذ الموسيقي” وهما قد يكونا الموازي لمفهوم “المنتج” هذا، بخاصة وأن الشاعري كان قد استدخل ايضاً تقنيات “انتاجية” جديدة من ضمنها اختبارالأغنيات قبل اصدارها خلال رحلات مع شباب الجامعات، على ما ذكر أيضاً في برنامج تلفزيوني مؤخراً.
اجتماع عناصر البصمة هذه، مع اعتماد الشاعري على شطرات كلامية قصيرة، لا تتجاوز الثلاث كلمات في الأغلب، كبنية أساسية للّحن وادخال الكورس بشكل كثيف لتردادها، يمنح الأغاني التي يتدخل فيها (غناء أو لحنا أو توزيعاً) حيوية مفرطة، يضاف إليها العامل الكبير الذي أدخله، أي المرح! في كل ثنائيات الشاعري يبدو واضحاً، ومعدياً، المرح والانهمام بالضحك والابتعاد عن الموضوعات الأثيرة لشعراء الأغنية الكبار ممن تابعوا أحمد رامي في طريقه الرومنطيقي. والمرح والضحك، كغاية في ذاتها للغناء وبخلاف السخرية والنقد السياسي، ميزتان نادرتان في الغناء العربي عموماً وشبه غائبتان في الغناء اللبناني مثلاً. ويبدو لي أنها غاية كانت جماهير الطبقة الوسطى آنذاك، قبل انهيارها الكثيف، لا تزال تبحث عنها، في ما يلي سنوات الانفتاح والرغبة في الاستقرار، عائدةً من أحلام الغناء الفخم وأوهام الغناء الاوبريتاتي وغناء أسطوات الاحتفالات الرسمية من جيل محمد ثروت ويليه علي الحجار ومحمد الحلو وأصحابهما ممن قضى نجاح الشاعري وأسلوب الغناء الذي فرضه هذا النجاح على قدرتهم على المنافسة والتفوق من خلال الخامة الصوتية التي لم تعد معياراً عندذاك.
عند حميد الشاعري تلتقي خطوط مختلفة: الصوت الضعيف، هلامي الخامة مثل مصطفى قمر، الذي يجد، كما عبد الحليم ونجاة، قوته في ضعفه وتلاشيه، وبالتالي في إذابة الفارق بينه وبين المستمع الذي يستطيع أن يتخيل نفسه فيه كما يرتاح في ضيق المساحة الصوتية المطلوبة منه، والمرح اللعوب لكن البريء المختلف جذرياً عن “ضحك” اسماعيل ياسين الاجتماعي أو سخرية أحمد عدوية الشعبية الخفية لكن القارصة، بل يبدو أشبه ببراءة ومرح شكوكو دون غرابته أو مرح شادية، وتجارب “الفرق” مثل فريق الأصدقاء والمصريين مع عمار الشريعي وهاني شنودة على التوالي، اللذين أخذ منهما الشاعري أصواتاً مثل منى عبد الغني وعلاء عبد الخالق وضمها إلى شلته، وأهمية فرادة صوت الفرقة وحداثته المتغربة، وأهمية “الشلة” نفسها التي بنى حميد الشاعري صورته كممثلها الأبرز، إلى حد قول الكثيرين بأنه صانع نجاحاتها، وإن لم يكن وحيداً في واقع الحال. فكأنه كناية عن الجيل ذلك كله في نفسه والبؤرة التي يمكن له أن يرى نفسه فيها ويرى قواسمه المشتركة، لذا أيضاً توقف مع توقفه عملياً نجاح الجيل، باستثناء عمرو دياب الذي نجح تكراراً في تجديد نفسه وراكم رأسمال كافياً لتأمين الدعاية والاستمرارية.
تحول حميد الشاعري وأغاني غربته والرحيل والليل والبداوة إلى مصدر ثري بالحنين لدى من عاصر تلك المرحلة، والحنين يقول في آن الألم واللذة، ألم الشعور بالزمن والفقد، ولذة الاستعادة والإيمان بالقدرة على الاستمتاع. كتبتُ مرة إن لا حنين اليوم في العودة إلى احمد عدوية. الفارق بين الاثنين على ما احسب يكمن في شخصية عدوية الطاغية على صوته، الصوت القوي ذي الخامة الواضحة والقفلات الحاذقة في مجالها والأصل الطبقي الواضح ايضاً في شعبيته، بمعنى إن عدوية لا ينفك يذكرك بحضوره وبأنك في موقع المستمع، في حين إن ضعف خامة الشاعري وبحثه المستمر عن العذوبة والرقة، متصل المعدن بأصوات مثل حليم وفيروز ونجاة المتحولين مثله إلى مصادر للحنين وللسبب نفسه، تسمح لك بالوقوف مكانه والاندماج به، بل والغناء محله وهو ما يسهله أيضاً الدور الكثيف للكورس، والحلم بكلمات مثل “راحل معايا الليل“. بهذا المعنى، اكتشفت في حديث مع صديقة، ان الاستماع إلى حميد الشاعري يشعرني بأني أشيخ، في حين إن الاستماع إلى صوت كليلى مراد، رغم عذوبته، او محمد عبد المطلب أو زكريا احمد يمنحني مع خفة الطرب طاقة الشباب في الاندهاش.
هل ينبغي الحكم سلباً أم إيجاباً على تجربة حميد الشاعري؟ صحيح إن مصر قضت نحو عقد من الزمن تردد نفس الأغنية، بصور مختلفة، لكن ذلك ليس مسؤولية الشاعري نفسه، بل مسؤولية نظام الانتاج الموسيقي آنذاك الذي فرض نسخاً متعددة من الشاعري واستهلك موهبته في سنوات عشر توزعت على قدر هائل من الأغاني، في حين رفض نظام الانتاج هذا، قصير النظر والمتعجل للربح، وكان لا يزال تحت سيطرة شركات الانتاج والدعاية والنقابة، السماح بوجود أنماط غنائية مختلفة في مقدمة الساحة الغنائية، وفضل التعامل مع السلعة الأكيدة والنمط التجاري السائد واستحلابها إلى أقصى حد ممكن، فارضاً كل القيود على كل ما عداها، إلى أن تغير نمط الانتاج نفسه مع دخول منافسة لبنانية قوية في مجال صناعة النجوم والجانب المشهدي والمرئي فيها وانتشارالفضائيات ومن ثم الانترنت ما قضى على النموذج الاقتصادي التقليدي لصناعة الموسيقى، اي مفهوم “الشرائط” الذي لم تفلح محاولات استبداله بالسيديهات. بالمقابل، فإن الشاعري أتاح المجال لكثيرين بالعمل في المجال الفني، وبالنجومية، اياً كان رأينا فيهم وبضيق أصواتهم مساحة وقدرة وتطريباً، وأتاح لكثيرين أن يعثروا على حاجاتهم الموسيقية وأن يضحكوا ويتغزلوا ويراقصوا بعضهم بعضاً على أنغام غيتاره، واتاح لمفردات ولهجات ليبية وبدوية ونوبية مع أحمد منيب، أن تدخل برفق ونعومة إلى الآذان، وقضى على التكلف الفائض لأجيال هاني شاكر ومحمد ثروت واللاحقين لوفاة عبد الحليم أم كلثوم، وفي هذا فضل كثير على كثيرين.