.

أحمد التوني | خضر العمائم نادوه فأجاب

أحمد ناجي ۲۰۱٤/۰۳/۱۸

توفي يوم الأمس 17 آذار/ مارس الشيخ أحمد التوني في قريته الحوايكة في أسيوط بمصر عن 82 عام. عن لقاءاته بالشيخ التوني، وطاقته المسيطرة وكؤوس شايه، يكتب أحمد ناجي شهادته.

التقيت بساقي الأرواح في مناسبات عديدة. حفلة بحديقة المركز الثقافي الفرنسي حضورها من الدبلوماسيين والأجانب ونخبة فرانكفونيّة. مولد السيد البدوى وسط أمواج لا نهائية من البشر والدراويش. بجوار السيدة زينب وسط الضحكات الرائقة والأنفاس العالية وستى الكريمة بتسقي بيدها. مع بارمانمن الشمال الأوروبي في حفلة بساقية الصاوى وسط محبين للساقي من كل الطبقات والثقافات.

كل القلوب إلى الحبيب تميل. والقلب شرط المحبة، إذا لم تمتلك القلب سترى الكأس خاوية. بينما هو يناديك معه في طريق لسبيل الست الكريمة، بدون شوائب ولا عكارة يقدم الماء هناك من نبع فيّاض، يوقد من شجرة من أسيوط منبعها الحواتكة بمركز منفلوط، سيقولها الساقي لك وهو يقدم نفسه. وبخبرة من تعوّد على مثل هذه اللقاءات والمناسبات، سيجلس صامتاً أمام الكاميرا، وفي يده كوب الشاي. يأخذ رشفة، ثم يظل نظره معلقا في اتجاه الكوب ثم للكاميرا ولك مرة ثانية. حينما يطلب منه المنتج الأميركي الذي يعد فيلما تسجيليّاً، سينطق الجملة آليّاً: “اتولدت سنة 1932، الحواتكة مركز منفلوط“. وحتى هذا الأميركي المتحمس بلا داعٍ سيسقيه. سيرفض سجائرك، وسيخرج علبة السجائر السوبر الكليبوترا مدعوكة، والنفس الأول مثل الجمرة، تشتعل وتزهر مع كل نفس من الروح.

تضمّ شجرة التوني جيلاً كاملاً من منشدين الصعيد الذين خرجوا من جوقته وأنشدوا على مذهبه، لكنهم ليسوا تلامذته، وليس لطريقة التوني من تلامذة: فمهما صغروا أو كبروا هم رفاقه وأحباءه. هناك خليط كثيف المكونات فيما يقدمه ساقي الأرواح. مقامات مدهوسة ومخلوطة في ارتجال آلات التخت التي تسبح في حريّة كما النجوم للجاهل، لكنها مربوطة بناموس عامود خيمته هو الساقي. يمد يده فيترك الكمان متقدماً ليقود، يقاطعة من مقام آخر، ويؤشّر للرق إشارة خفيفة فيباغت الاثنان. يأتي المزيج كوكتيل خفيف المذاق والثقل نافذ الضوء والراحة. ولماذا الجديّة؟ دع نفسك تلقائيّاً، فالطاقة التي يمتلكها ساقي الأرواح قادرة على ضبط الإيقاع، وعلى إغراق الحضور مهما كونوا من فيضها، حتى لو غاب عنهم معانى الكلمات.

  “سَكِرتُ وتُهتُ عنْ حَسي ونَفْسي

و مِلتُ برَشفِ راحَيَّ عن زَمَانِي

تُنادي كُلُ جَارحَةٍ وعُضوٍ

وأزهارٌ و أنْوارُ الجِنانِ

وأفْلاكُ تَدورُ على إنتِظامٍ

وأنْهارٌ بها حُلو الغَوانِي

جَمالٌ لا يُشابِهه جَمالْ

لنفترض غياب المعنى، انظر مع وبين الكلام ما تسمع، همهمة، أنين، تأوهات، تأودات، تمطق، قهقهة، بحيح، لعلعة، نزيب، هديل، شقشقة، زفير. اسمع الضحكة الفاجرة في دلعها قبل كلمة الغواني. من مثل هذه التفاصيل، من صوت سبحتهعلى الكأس يأتي المزيج. هذا المدام للأحبة.

ليست الأصوات ولا الارتجالات المفاجئة في رعونتها، ليست أيضاً الرسوخ الكلاسيكي لفرضيات المقام العربي، ولا الانفتاح على عوالم موسيقية آخرى. بل اختيارات الساقي لكل كلمة وبيت وقصيدة. من الحلاج لابن الفارض، إلي المزج والارتجال الحر للكلمات. تحكي الأسطورة، تلك التي تطلق على صباح فخري وأم كلثوم وصحبجيّة أوائل القرن الماضي، أن التوني كان يحيي حفلات لأكثر من ثلاث وأربع ساعات، ينتقل بعدها لمكان آخر ليحيي ليلة آخرى تمتد لساعات. وفي كل الحالتين لا يكرر بيتاً واحداً. لا ينضب معين الساقي.

في المرة الأولى التي شاهدت فيها السلطان، قدّرت عمره بالتسعين. وكان وقتها في منتصف السبعينيّات. شاهدت على مدار السنوات نشاطه وحماسه، وكيف تفيض وتشيع طاقته أينما حضر أو أنشد. لكن الآن، ومن دون أي انتباه لاعتبارات البيولوجيا أو الجسد، لم تخطر ببالي فكرة أن يموت التوني. عرفته من باب آخر، أتاني من طريق مفتوح وواصل. غلقت أبواب الجسد ربما، لكن الطريق موصول.

المزيـــد علــى معـــازف