.
يبدو سؤال كيف بدأ الراب في سوريا كبيرًا غائرًا في جرح أكبر منه، هو سوريا نفسها ومحاولة التعبير عنها. الحكاية كبيرة لكن وفقًا للرابر السوري أساسي الحلبي فإنها تبدأ مع شاب حلبي اسمه ربيع ولقبه رابي، بدأ مسيرته في الراب مطلع عام ١٩٩٦ وأقام أول حفلة راب في سوريا في حلب عام ١٩٩٧.
في الفترة نفسها انطلق فريقَي مردر آيز وماشين جن كجزء من ظاهرة الهيب هوب العالمية وتشكلت حولهم جماهيرية واسعة. استحوذت حلب على مشهد الراب السوري مع مصباح الجلخي بين عامي ١٩٩٨ و١٩٩٩، الذي يُشار إليه من قبل الرابرز السوريين بأنه من مؤسسي المشهد، بالإضافة إلى الرابر السوري اللبناني إسلام جواد.
من الشام ظهر فريق شام إمسيز وغيرهم الكثير من الفرق أو الرابرز الذين يصعب ذكرهم هنا، أو توثيقهم بدقة نظرًا لانعدام الأرشفة الصحفية لمشهد كهذا في التسعينات.
يمكن القول إنه بحلول الألفية صار الراب متواجدًا في المشهد السوري الغنائي وتشكلت حوله هالة من الانتقادات والآراء. وُصف من قبل الناس أنه “صف حكي” ومن قبل الشرطة والحكومة أنه “عبادة شياطين”، لكنه في النهاية أصبح ممثلًا للسواد الأعظم من الشباب السوري.
ما نبحث عنه هنا هو الراب كموضوع ومادة تنتمي بحق إلى تاريخ الناس، وشكلت بالتالي وفقًا لخصوصية السنوات الأربعة عشر الأخيرة أرشيف الشباب السوري، تحت وطأة الرقابة التي مارستها الحكومة والسرديات السياسية التي حاولت السيطرة على الكلام والتعبير النافذ من خلال الراب.
يعتبر بو كلثوم واحدًا من أبرز الرابرز على مستوى المنطقة، بأسلوبه المتجدد دائمًا وقدرته على إيجاد شخصية موسيقية تخصه، وتمثل في نفس الوقت جزءًا كبيرًا من الشارع السوري. في مسيرته التي بدأت منذ عام ٢٠١١ استطاع أن يتنقل بسلاسة بين الآر آند بي والهيب الهوب.
في أغنيته قوم وصلنا يستخدم كلمات بليغة بقوافٍ مبتكرة، الأغنية التي ينتقد فيها المؤسسات الدولية التي تدعي الاهتمام باللاجئين، يترك بو كلثوم كلماتها تتدفق بحدة وسرعة تناسب الغضب الذي تشرحه الأغنية:
“ليك اللي بيقلك إنه حاسس فيك كاذب
لا تقلي المين آسف أنا حارق مية شارب
بيغنوا لميت لاجئ حناجرهن اسفنج عازل”
في واحد من أشهر ألبوماته يجسد بو كلثوم البعبع، وهي شخصية كوميدية ساخرة تنتقد العالم والأفكار السائدة. غلب على الألبوم طابع موسيقي متنوع، مزيج من الراب الكلاسيكي فوق إيقاعات ثقيلة وداكنة. في أغنية كوع التي يصفها بو كلثوم أنها المفضلة لديه يقول:
“بس خدمة إلنا لإنه سواقك مو هون
مكانك مو هون وشخصيتك أفلام كرتون
منسأل الكول الأكبر عنك عليك بركي دل
منجيب أكول ناس ومنعمل معك فستيفال
بتخشخش إكسسوارات لما بتمشي
لما بتحكي معي عيونها عم تعد حبوب وشي
أنا مآمن إنكن هيب هوب أكتر مني”
تميز الألبوم أيضًا بتعاوناته، حيث يضخ الجندي المجهول طاقة صدامية في كوكتيل نابالم، بينما يمنح فيني باز في أمسكني ثقلًا عالميًا، وتكسر ريم إيكاي في ميسيز كارما النبرة بصوت أنثوي حاد وهادئ في آن. يضيف دي جاي تاكوندو عبر السكراتشات لمسة كلاسيكية تربط الألبوم بجذور الهيب هوب، في حين يمنح غلاف عمّار خطّاب الألبوم وجهًا بصريًا جريئًا يعكس مضمونه.
يتحرّى بو كلثوم الكتابة المحبوكة والدسمة، التي تعرض أحيانًا غضبه الشخصي، وتحمل في أوقات أخرى حكايات الشباب السوري والعربي، مشاكلهم الصغيرة ربما أمام الحرب لكنها تستحوذ على الكثير من أجزاء يومهم المُعاش.
يمكننا القول إن هذا ما وسّع انتشار أغنية صوان بين الشباب، إذ تشرح الألم والخيانة والاستغلال بكلمات صلبة، وتوظيف متقن للأوتوتيون، خادمًا المعنى وما هو جوهري في الألم الإنساني الذي اختبره بو كلثوم في الأغنية، واختبرنا القدرة في التعبير عنه من خلاله:
“وقولوا للكاوي بالنار
شوك صبري صبار
بحضني وهو يشيل من دقني
و ينشف قلبي صوان”
هوس رابر سوري من الرقة يعيش حاليًا في تركيا وبدأ اسمه بالصعود حديثًا. يركب هوس كلماته المتعالية والغاضبة على مختلف إيقاعات الهيب هوب، مع لمحات من الموسيقى الإلكترونية. في أغنية فري ستايل ينتقد الفن الرخيص والزائف:
“شيّاب تطفيهم اطفال
كل ما الإيجو بيهم يطغى
إنتم نكتة راب ونحنا نقتل راب
كلها فترة لمبة وتطفى”
أصدرت ثورة أغنية لحالي قبل عام واحد، وتبعه إصدارات أخرى مختلفة في المواضيع لكنها كلها تحمل الطابع الأنثوي، بخفة وحيوية، لا تسعى فيها لتقليد الرابرز، بل ترسم مسارًا جديدًا يشبهها كما يشبهنا، لحظة حكينا كنساء.
“حكيي طلق مش متخردق اصبر
وردة بشوكي بقتُل اهرب
او ارجع واجه لعله من قيودك تفلت
طب ابعد
و حدودك افرد”
لربما هذه واحدة من أكثر أغاني ثورة عشوائية وحرية، كما وصفتها، الأغنية التي كتبتها بهدف تفريغ الأسئلة:
“الله محيي الثابت
و فش ثابت غير الضجر
وانا نقطة بآخر السطر
عيد من الأول دمعة عالصخر
مش وجاهة حبك تكبت”
جعلت طبيعة سوريا الأمنية خلال السنوات الأربعة عشر الأخيرة من المستحيل تكوين خيارات واسعة وعديدة للراب؛ بين النقص في الإنتاج الفني الجيد بسبب قلة الموارد، وحصار الدولة للرابرز.
بعيدًا عن بو كلثوم، يتصدر اسم اسماعيل تمر ومودي العربي وأمير المعري المشهد الغنائي للراب السوري، الثلاثي الذي يمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة ويوصفون من قبل الناس بأنهم حجر الأساس في الراب، ومن قبل النقاد بالهاوين. تثار حول مسيرتهم الكثير من الأسئلة، بداية مع اسماعيل تمر الذي يمتلك ما يزيد عن عقد في الراب ومحاولة قصيرة في التلفزيون.
من السهل إقامة التقاطعات بين تجارب الثلاثة لنخرج بالعوامل المشتركة الرئيسية: المباشرة، الوعظ، ومحدودية الاطلاع والاستماع التي تجعل إنتاجاتهم بمعظمها منتهية الصلاحية ومتملقة للراب أكثر منها جزءًا منه. يمكننا أن نشهد ذلك بوضوح في ثلاثة من أنجح إصداراتهم وأكثرها ارتباطًا بالثورة، ساروتنا لإسماعيل تمر، عقد الثورة لأمير المعري، وشاهين لمودي العربي.
بعيدًا عن مدى صدق مواقفهم، إذ جاءت أغنيتا إسماعيل ومودي بعد السقوط، بينما أصدر المعري أغنيته في عهد الأسد، تعذّر على الرابرز الخروج بسطر قوي كتابيًا أو حتى تقنيًا، كأنهم يحاولون متعمّدين إثبات أن الراب “صف حكي”.
مع ذلك، بتصدير هؤلاء الرابرز أنفسهم كقدوة للمجتمع ومُصلحين اجتماعيين ودينيين أصبحوا أقرب من مجتمعٍ فرضت عليه العزلة، عبر أكثر من نصف قرن، تآلفه مع الوعظ.
يحاول الشباب اللاجئون تعويض أنفسهم عن مساحاتهم الجغرافية بانتماء أخلاقي إلى صورة المجتمع السوري المنغلق بنسخة ما قبل الثورة، يؤدون الطقوس الاجتماعية المتمثلة بالشهامة والذكورة العربية التقليدية، في بلاد لا تعترف بهذه الصفات، في محاولة لتعويض حيزهم الذي لم يعودوا يشكلوا جزءًا منه. هذا مفهوم لكنه لن يغير حقيقة أن هذه صورة غابرة حتى لو كان الجنرا الموسيقي، نظريًا، معاصرًا.
أثبت رابرز مثل بو كلثوم والدرويش وهوس وثورة وسربست، ومؤخرًا رام صليبي (بومف)، تميزًا فنيًا ولغويًا يستحق الالتفات. في المقابل، تظهر تجارب مثل إسماعيل تمر، مودي العربي، وأمير المعري، محكومةً أكثر باعتبارات السوق، حيث تغيب الرؤية الفنية لصالح قابلية الاستهلاك اللحظي، مع ضعف واضح في النصوص والتجريب الموسيقي.
إلى جانب العزلة قبل وخلال الحرب في سوريا والرقابة المخابراتية، تتحمل نقابة الفنانين السوريين جزءًا من المسؤولية في عدم تبلور حالة الراب السوري، من خلال فرض شروط تعجيزية أمام الرابرز مثل طلب الحصول على ٦٠٪ من الأرباح، وعدم توفير مسرح للعرض، ورفضها المستمر في إعطاء الإذن بإقامة حفلات راب دون الحصول على واسطة.
أدّى هذا إلى إقصاء وتهميش الراب، وبالتالي تهميش صوت جيل كامل من الشباب الذي ربما كانت لديهم الفرصة لتشكيل هوية خاصة بهم وتطوير إنتاجهم الموسيقي، ما يسمح بالتراكم المعرفي بين الأجيال، والأهم، يفتح مساحة آمنة لممارسة الفن الذي يودون تصديره.
يقف خلف استمرار الراب السوري شبان وشابات سوريون يرغبون في إنتاج هذه الموسيقى وسماعها، يستحقون الدعم والإصغاء لنقترب من صنع راب يخصنا نحن بحق.