.
مقال ضمن عدد من المقالات تحت عنوان «أنا كدة، أنا كدة»: في فنّ صباح وتفرّدها
كل ما كتب عن صباح بعد غيابها هو رثاء نادمين: ندم الذين أدركوا أن مجال التراجع قد فات، وأن ما يفعلونه اليوم ليس سوى قبض ريح. كان أجدر بكل محبيها أن يعلنوا حبّهم لها وهي حيّة. صباح نفسها كانت تدعونا إلى هذا الإعلان. لكن محبيها، إلا قلة منهم، تخلّفوا وصنعوا لتخلّفهم حججاً ومبرّرات.
الحرب، لقد فعلت فعلها في كل شيء. لكنّها في مكان ما كانت تحضّنا على المتع الصغيرة والعابرة، في غياب المتع المتصلة والمستمرة. مع ذلك لم نشأ أن نركب مركب البهجة، وفضّلنا على البهجة نفسها الأحلام الكبيرة العابسة. كلنا كنا نحلم، ونظن أن لدينا متسعاً من الوقت لنعاود الاهتمام بهمومنا الصغيرة ما أن نحقق أحلامنا. ظننّا أنّنا حسبنا كل شيء بدقة الساعاتيين. لكننا غفلنا عن الوقت. في الأثناء كانت صباح تحارب الوقت وتنتظر. تنتظر أن يستفيق الجمهور من غفلة الأحلام الكبيرة، وأن يستعيد رغبته بالحياة.
الوقت هزمنا، وجاء غياب صباح ليشعرنا بثقل الهزيمة، على نحو حرفي. بموت صباح شعرنا جميعاً أنّنا أكبر سنّاً مما نظن، وأن الأمل في استعادة أعمارنا الضائعة دفن معها في الحجرة الأنيقة، ولا شك أنها تراقب شيخوختنا الآن على شاشة التلفزيون التي شاءت أن تؤنسها في مهجعها الأخير.
لم يحدث أن حضرت صباح في أي حديث إلا وحضر معها سنّها. كنّا نريد أن نثبت لأنفسنا أنّنا لسنا مخدوعين. هذه المرأة النضرة والمشرقة تخفي شيخوختها في باطنها وتقفل عليها، ولأننا نعرف ذلك نفضل ألا نجاريها في لعبتها. واقع الأمر أننا كنا شيوخاً أطفأتنا الحرب وهي كانت نضرة ومشرقة كأن حرباً لم تمر عليها. استمرأنا اللعبة لأننا كنا ندرك في قرارتنا أننا خرجنا من البهجة إلى العبوس ولن نعود إلى البهجة أبدا. اليوم غابت صباح، ومع غيابها مات كل أمل فينا. علينا أن ننتظر عجزنا بصبر العاجزين، ولم يعد ثمة وعود تنتظرنا بعد موت الأحلام أو تحقّقها. هذا رثاء لنا، غبنا منذ زمن بعيد، وربما أن صباح ماتت حزنا على غيابنا بعدما سئمت من انتظارنا.
كانت صباح تغني، لكنّنا أبدا لم ننتبه إلى ما تغنّيه. في بداياتها غنت عاشقة “غلبانة” يغلبها عشقها، وفي أعمالها المتأخرة غنت عاشقة “ملهوفة“. كانت الأجمل، لكنها وعدتنا بأن نكون “حلوين“، ما أن ترانا عيناها. “كل ما بشوفك، كل ما بتحلى، يا متل الملاك وأحلى“. لكنها بين زمني العشق كانت طروباً. ربما لم نقدّر صوتها حقّ قدره. كنا مأخوذين بقدرتها على الحضور بكل ما فيها، صوتاً وضحكاً وجمالاً وغواية. لم تظهر صباح مرة إلا وظهر معها سحرها. وهو السحر الذي كنّا نرفضه ونحاول تجنّب تأثيره. مع ذلك كانت تجيد انتظارنا، وتغفر لنا هذا الجحود. صباح، التي كانت تملك كل مقومات النجمة، لم تكن نجمة في حقيقتها، كنا نحن النجوم وهي العاشقة. كانت تحب جمهورها أكثر مما تحب نجوميتها، تتزيّن للقائه وتتفتح كل جوارحها من أجل إغوائه. وكنا بحضور صباح نشعر بنجوميتنا ونفتخر. لم نتعامل مع صباح مرة بوصفها نجمة. ليست أم كلثوم التي حين نقرر الاستماع إليها نتوضأ، كما لو أننا نستعد للصلاة وتأخذنا حماسة المؤمنين. كنا نستمع إليها بخفة اللاهين، ونشعر أنها تجهزت لأجلنا، وننتشي بقدرتنا على تجنب هذا الجمال والتمنع عن مجاراته.
كنا حين نراها تغني نكاد نلامس تلك المرأة التي جعلتنا نجوما، والأرجح أنها حين تغني كانت تتمنى لو أنها تسقط مستسلمة في أحضان الحشد.