.
تلف رغباتنا المتاهة ذاتها التي تلف ما نكره. نتوه ونصاب بالدوار، هل منتهى الدوار السقوط أم الطيران؟ ندور ندور حول أنفسنا، حول الغير، حول عالمنا، ربما نصل لحلّ اللغز أو إلى إله المتاهة. نرقص.
كما في غيرها من حضارات العالم القديم، قدّست حضارة بلاد الرافدين الدائرة. شكل هندسي منتظم، تام، مكتمل، لا بداية له ولا نهاية، يمكن إسقاطه على كل شيء عرفته البشرية حينها بوصفه موجود ولن يفشل في احتوائه، دورة الفصول، حياة الإنسان، حركة الشمس، والشمس في العراق غير الشمس، وفي دورة القمر ومراحل اكتماله. لذا عندما أراد الإنسان أن يحاكي الكون راقصًا، تحلّق في دائرة.
كانت معابد السومريين دار سُكنى بغايا المعبد. أجمل بنات القرى وأكثرهن اكتمالًا تبعًا لمعايير الحضارة وقتها. إذ كانت سيقانهن تحمل حوضًا دائريًا، وخصرُهنّ يحمل ثديين مستديرين ورقابهن تحمل رأسًا دائريًا متوجًا بشعرٍ كثيف منسدل. حينها كانت كلمة بغي تدل اصطلاحًا على المرأة ذات المكانة اجتماعيًا ودينيًا وجماليًا؛ وكلما زادت مكانتها اقتربت لأن تصبح صورة مثال الآلهة الأم على الأرض.
بغايا المعبد كنّ راقصات الحضارة. رقصهن طقس تعبديّ يجلب الخير ويقصي الشر وينعي الموتى، يستنطق الأرض ويُهدِء من غضب السماء، يلعب مع العواصف تحديًا أيهما يُزَوبِعُ أكثر. هن بشعرهنَ أمام الريح بكل شيء. يعتبر مؤرخو التراث أن رقص الهجع الموجود الآن يحاكي رقصهن ولو أنه اختلط بالكثير من الرقص المختلف مثل رقص الغجر، لكنه ما يزال يحتفظ بثيماته الأساسية.
التحلّق في دائرة إن كنّ مجموعة حول راقصة أساسية، والدوران في دوائر تتشابك وتنفصل إنْ كن اثنتين، أو امتلاك المسرح كاملًا إن كانت واحدة. يضربن الأرض بأقدامهن لِتوليد قوة دفع يقفزن بها من مكان لآخر، ويثنيَن مفاصلهنّ ويفردنَها لتوليد حركة جسدية متوازية، وكأن أثر الدفع يولد حركة اهتزازيّة بأجسادهنّ تختلف شدتها ومدى الانثناءات والميل فيها تبعًا لقوة الإيقاع وسرعته.
تعتمد الرقصة على قدرة الأنثى على تحريك المراكز باستخدام المفاصل الرئيسية، وبدعم من المفاصل الداعمة مثل مفاصل القدم والكتفين؛ وبمدى ليونتها في ثَني وفرد أجزاء الجسد، وتدويرها وانسجامها مع الإيقاع واتصال حركاتها بقفلة، تكوّن بداية لتتم كل حركة وكأنها دائرة مغلقة تَماسُ دائرة أخرى كإشارة اللانهاية (إنفينتي).
ينقسم الرقص إلى عناصر عدة منها الجسد، وهذا فيه قسما الشكل والحركة، والثاني المكان، المسرح والمحيط، والثالث الرابط بين هذه الأقسام. أي قدرة الجسد وإمكاناته الحركية وشكل الرَقصة على المسرح وفي المحيط.
لشكل الجسد في رقص الهجع محددات متوارثة منها بنيته التي تكون متناقضة، فجسد الراقصة متين فيه قوة، ثابت، وليّن فيه نقاط ضعف خفيف مشحون بطاقة كامنة. لحركته مراكز هي منطقة الحوض والصدر والرأس، وهي المناطق الدائرية، وباقي الجسد كلّه مستدخل في الرقصة من القدم حتى أطراف الشعر.
يميّز هذا النوع من الرقص اعتماده على القوة والسلطة، عصابي عنيف، وأحيانًا حسب اللحن جنائزي ينعي باستكبار على الألم. مفعم بالحركة، الراقصة تستعرض فيه خصوبتها ومتانتها وقوتها وسرعة ودقة حركتها، تتفاعل مع الأرض بضربها بأقدامها بقوة وتدور في المكان وكأنها تحاول تملكّه والسيطرة عليه. تتمايل في الفضاء بدفعه من حولها وكأنها تحاول توسعته. تعلو وتتسامى حتى تقف على رؤوس أصابعها ثم تهبط تخبط الأرض بيديها وتهتز كبذرة تحاول كسر قيد التراب، وتجعل جسدها صلة بين السماء والأرض في طلبها لخصب الأرض؛ وفي النعي تؤدي حركات متشابهة في تكوينها لكنها تغير من شكلها وإيحائها لتصبح مقاومة انسحاب، وهجوم وتورط وفكاك سقوط وقيامة إصابة، وتعافٍ وكأنها تلوج تحاول استيعاب ألمها ودفنه والهروب منه.
هذا الرقص غير خال من الإغراء رغم قوته وحزنه، بل تضع الأنثى فيه نفسها ندًا للآلهة الأم، الظاهرة، المُعلِنة عن نفسها بلا اهتمام أو وجل، وليفز بها من كان كفؤًا؛ فعندما ترقص بغيّ المعبد تحاول السمو وإثبات جدارتها بأن تحلّ في جسدها إلهةُ الخصب.
تقول بأنها هنا حاضرة، قادرة على لفت أنظار آلهة السومريين وهم في ذروة احتدام صراعهم في السماء ليستجيبوا لتوّسلها الخيرَ منهم، وفي ذات الوقت تلفت أنظار الجمهور الذي يترقب نجاحها في المهمّة، الجمهور الذي سيخرج منه أفضل الرجال الجديرينَ بأن يكونوا أندادًا، فينقذ تزاوجهم معها مساكين الأرض. وعندما تحزن تصارع أحزانها، تُظهر كامل ضعفها لكن بكبرياء يستجلب بكاء الآلهة على ما اقترفوا بخطف الأرواح أو بجدب الأرض.
بعد زمن ملّت الآلهة السومرية من استدخالها في شؤون البشر، وغابت بعد أن امتلك الإنسان سبل التعامل مع الفيضانات والجفاف والعواصف والحرّ والبرد؛ والعراق أرض لا يهدأ فيها صراع الطبيعة كما صراع البشر. هاجروا أو سقطوا أو الأصعب نسيوا. لكن الرقص استمر.
ينسب رقص الهجع الذي لا نعرف اسمه قديمًا ومدلوله حديثًا إلى أصلين: الأول طور الهجَع وهو واحد من أطوار الغناء الشعبي وينتشر في الريف غالبًا، والثاني من هجع أي هدأ، وتستخدم في توصيف رقص الهجع للدلالة على أن المغني أو الراقص المرافق أو العازف يلعبون دور تهدئة الراقصة حتى تهجع، في توصيف انتقال الحركات من الدوران والقفز إلى الاستلقاء على الأرض والسكون.
احتفظ رقص الهجع بثيماته الأساسية لكن دوره الوظيفي اختلف. كان صلاةً وأصبح فنًا. كان استجلابًا للخير وطردًا للحزن والشياطين وأصبح استجلابًا للجمال. لم يخلُ استجلابهِ للخير من جمال، ولم يصبح باستجلابهِ للجمال خالٍ من الخير، إذا اعتبرنا أن بعض ما يسعد قلب الإنسان خير.
لن تذهب هذه المقالة لتسلسل تاريخي بكل مرحلة، سنقفز إلى اليوم.
ينقسم رقص الهجع اليوم إلى قسمين، قسم ما يزال يسمى رقصًا، وقسم سنجتهد في تحليله ونرجو أن نكون مخطئين.
تدرج الأول في الزمن الحديث من خيم الأنس ونواديه والحفلات الشعبية، إلى اللوحات الفلكلورية التلفزيونية، ثم انطلق في مسارح العالم، ولسبب ما شهد تطورًا وانتشارًا في السنوات الأخيرة. رقص الهجع اليوم واحد من الفنون الشعبية التي تؤدى على مقام الهجع، اشتهر بمفتاحه بأغنية أجلبنك يا ليلي.
يقع الرقص ضمن الموضوعات التي دُرست في الإشكاليات الفلسفية من منطلق الجمال والقبح، الحس والشعور، ما هو فن وما هو غير ذلك. أخذت هذه الموضوعة حيزًا خاصة في فلسفات ما بعد الحداثة. وبما أن الرقص مرتبط بالجسد وغالبًا الجسد الأنثوي، فقد نوقش أيضًا من منطلق الفن الذي يجمع الجمال والحس معًا، هل هو فن أم إباحية وتشييء؟
بعيدًا عن الآراء المتطرفة بوصف الرقص كلّه بأنه ليس فنًا، أو بتقسيمه إلى رقص فن ورقص ليس فنًا تبعًا لنوع الرقص. نقف هنا أمام نوع من الرقص يجمع الكثير من السمات، لا هو كالرقص الشرقي الممارس في مصر الذي يطغى عليه الإغواء الحسّي في مقابل الجمالي، أو حتى يفوقه؛ ولا هو رقص مثل الباليه يقع في فخ المثالية الجمالية التي تكاد أن تقمع البعد الإغوائي الحسي تمامًا.
نقاش رقص الهجع صعب، من حيث هو أداء كلي وحيوي لكافة أجزاء الجسد وليس فقط بهزها أو باستعراضها، بل في قدرتها وقوتها على الحركة وأيضًا إيحاءاتها المتنوعة التي تصنع قصة مكتملة ببداية ونهاية وذروة. كما تخضع لوحة الرقص للعودة لتقسيم حركاته تبعًا لدوائر متكاملة متماسّة مع بعضها، وتحليل كل دائرة وحدها. بهذا النهج يمكن التحليل بدقة أكبر.
دائرة مختلطة تجمع الاثنين، وفي هذا الباب لم تنضج بعد فكرة تجاوزية في الفلسفة تطرح هذا الاختلاط بوصفه غير متعارض، والنقاش بعد حول إما أو، كما لبث النقاش بين العقل والشعور سابقًا لقرون. لكن هنا يمكن وضع مقترح لحل النزاع، إذ ندعو المتنازعين للنظر للأمر من زاوية أن الاختلاط ممكن الحدوث بسبب حدوث الاستجابة. قد تتطابق الاستجابة للمثير الحسي والشعوري الجمالي، لكنها تختلف من حيث نوع المحفز، إلا أن حدوث استجابة متطابقة ربما يعني أن الحسّي والشعوري مثل العقل والشعور، بينهما علاقة تبادلية، لا يتقدم أحدهما على الآخر من حيث هو مولّد رئيس لرد الفعل.
وفي تفسير الفرق بين الحسي البحت والجمالي البحت، فإن الحسي ما يولّد رد فعل جسدي فيزيائي، بينما الجمالي ما يولّد شعورًا أو فكرة، او كما يعتبره الفلاسفة المثاليين ما يولّد تجربة تأملية مجردة. بينما الحسّي الجمالي هو ما يمكن أن يولّدهما معًا أو يجعلهما يتبادلان الأدوار، كأن تتأثر بشعور إزاء شيء لجماله وفي نفس الوقت تحس باستجابة جسدية. أو عندما يولّد شعورك بالجمال عندك فكرة تولّد حسًا، أو العكس.
مثل أن تنظر لحبيبة جميلة، تفصّل ما فيها، فتقف لحظات تأمل تأسرك بها فكرة: ما أجملها، أود لو أنظر أكثر وأستبقي هذا الشعور أبدًا، ثم بالتتالي يخطر لك أن تلمسها. أي أنه في قلب النشوة يمكن فصل الرغبة بشكل مفاجئ ولحظي لملاحظة الجمال بشكل مجرد. ثم العودة لهذه النشوة.
ما لا يمكن نفيه أيضًا أن تشعر بلذة حسيّة وفي ذات الوقت تتأمل مسألة جمالية مجردة؛ فاللذة الحسيّة لا تعطل التأمل المجرد تمامًا، لكنهما عادة لا يجتمعان بسبب الانغماس بأحدهما. لكن يمكننا اعتبار لحظة تأمل طارئة يتبعها لحظة لذة أو العكس، دورانًا يعني أن الحس كامن في الشعور والشعور كامن في الحس، وكلاهما يوّلدان خاطرة تودي إلى فكرة. بالطبع هنا يصبح الحس ذاته (مولداته واستجاباته) موضوع تأمل وتحليل، ليس فيزيائيًا فحسب بل من حيث ارتباطه بالشعور.
وبرغم أن الأمور لم تعد بهذا الوضوح في زمن ما بعد الحداثة؛ نظرًا لأن كل إنسان يمكن أن يتوّلد لديه أي شيء إزاء أي شيء، وجُعل هذا الإمكان دليلًا لأن موضوع الدراسة هو بالأصل: أي شيء، وسال العالم بما فيه. فإنني هنا أعتقد أننا آخر الكلاسيكيين ما زلنا نستطيع أن نتحدث عن الجمال بوصفه قيمة وعن الحسّ أيضًا بوصفه قيمة، دون أن نشعر بالغضب من كلمة قيمة ونعتبرها سجنًا أو قيدًا.
وفي هذا نقحم الهجع بصفته مثالًا لا فكرة ندافع فيه عن رجعيتنا، ونقارن بين رقص الهجع على المسارح والهجع في ملاهي أربيل.
يمكن وصف الهجع في المسارح، رغم تهجينه، بأنه جمالي شعوري كما هو حسي، ما يجعله فنًا إذ أن شرط الفن وجود قيمة الجمال مجردة أو مختلطة. كما أنه إذا نزح بسبب عوامل كثيرة، منها مزاج السوق، نحو الحسي أكثر، لا يغادر بذلك مقعد الفن إذ أنه لا يخلو من الجمال بوصفه قيمة وليس شكلًا فقط؛ والحس هنا – ونعتذر من الليبراليين – ذو قيمة أيضًا، قيمة أي مرتبة معنوية أعلى من الحس المتولد من الإباحية الاستهلاكية. والحجة في هذا نقاشٌ يكمن في تحليل الاستجابة. هل الاستجابة الجسدية الفيزيائية على درجة واحدة (مفرطة التبسيط والوضوح)؟.
إذًا، ما الذي يجعل هجع المسارح المتقن فنًا؟ القدرة على التكرار، تكرار المشاهدة وإدامتها. الرقص بصفته فنًا هو رقص يصلح لأن تعيده، حتى لو حصلت منه على متعة حسية واضحة ومباشرة. أما الرقص الإباحي الاستهلاكي فهو وظيفي جدًا، قطعة لا يتملكنا الفضول لإعادتها بمجرد تحقيق غايتها، أو بمعنى أدق هي قطعة تولد نفس الاستجابة كل مرة دون وجود بعد آخر شعوري أو عقلي تأملي، وربما نحتاج لرقصة أخرى تستطيع تأدية نفس الوظيفة. بمعنى سنهتم بأن تكون قادرة على إيصالنا للنشوة أو اللذة الحسية بغض النظر عن حركاتها وتكنيكها وشكلها. لكن الرقصة التي فيها فن نكررها لأنها هي، لننظر إليها ثانيةً. لنتعّجب ونعود لتتملّكنا الدهشة، فكونها حسيّة لا يعدم تلك الخاطرة السريعة بأن هناك شيئًا جميلًا وفقط.
الاستجابة الفيزيائية المولّدة نتيجة مشاهدة هذه الرقصة مركبة ومعقدة، غالبًا ما تكون متأتية من تقدير أعلى من تلك المتأتية من مشاهدة رقص ملاهي أربيل. يعتمد هذا تحديدًا، في جزء كبير منه، على الرقصة ذاتها أولًا، وذوق المتلقي واستعداده ونفسه.
تخلق الراقصة في المسرح فضولًا، رغبة في الاكتشاف، في تكرار تجربة حسية جمالية. التفاصيل الجسدية مموهة في الحركة والمحيط، كلما قل الوضوح في الصورة زادت الرغبة في الاستكشاف والدهشة.
تتقن راقصات المسارح فن الغواية أكثر، يبتعدن عن الابتذال قدر المستطاع، أجسادهن بصفتها عنصر من اللوحة أقرب للطبيعية ولو كانت خاضعة لعمليات تغيير في شكلها، فهنّ يهدفنّ إلى محاكاة جسد مثالي يشبه فكرة إلهة الأنوثة، القوة والخصب، المتانة واللين والخفة والقوة والانسيابية، كأنهن يتحركن مثل مياه النهر موجة تولّد أخرى، التناسق في القبض والفيض. يعلنّّ عن وجودهن بخفة ويقدمن لوحة فيها الكثير غير الحس الغريزي الفج. أي أن معيار الفن هنا يمكن أن يكون غياب الفجاجة.
يعتمد رقصهن على الانثناءات المتناسقة، الدقة في ملاحقة الإيقاع، القوة في أداء الحركة. فيه عنفوان إن صح التعبير كونه أقرب لرقص السومريات. فيه عنف مدروس ومتضمن في لوحة الرقص وطاقة تجعل أكثر التعليقات تداولًا على مقاطع الفيديو الخاص بهن “من حيلج على حيل أمي”، أي ربي يأخذ بعضًا من قوتك وعافيتك المفرطة الفائضة ويمنحها لأمي؛ و”ذبت لحم بالكاع” أي اهتزت وانتفضت درجة أن تساقط لحمها، وفي هذا التشبيه العنيف صورة أقرب لفرفطةِ الطير وتساقط ريشه أكثر من تساقط اللحم عن جسم معذّب مشرّح الجسد؛ و”دخت” تعليقًا على تدوير الشعر، أو “آخ ظهري” تعليقًا على ثني الظهر وفرده بعنف.
أما الرقص في ملاهي أربيل فهو يختلف اختلاف النقيض، الراقصات فيه غير معنياّت برسم لوحة راقصة، بل تقديم عرض يصلح لجمهور من الرجال السكارى، وهذا يعني أنهن يبذلن جهدًا في توضيح الواضحات، ما يجعل الكلام في جزئية الفضول غير مطروح أصلًا، لا دوائر متماسة على البيست بل حركات مضطربة غير متصلة تصل أحيانًا حد العصابية والهستيريا.
لا بداية ولا نهاية ولا ذروة، الجمهور يريد أن يصل عبرهنّ لِلذة حسية مباشرة وسريعة بلا تمهيد ولا استكشاف، رغبة في الاستعباد لا التملك والتأثير. وإن حاولت أن تكتم الصوت وتتابع ستشعر أنك تنظر لمجموعة من النسوة جرى اختطافهن وحشرهنّ في مساحة إنارتها صاخبة وضعت بلا مشورة مصمم داخلي، وقيل لهن لا تتوقفن عن الحركة، ونسين هناك. توّد لو تخلصهنّ لا أن تنظر إليهن. ليس للفكر المتوّلد عندك تجاههنّ علاقة بالرقص بل تراتبية السلطة والفروقات الطبقية، وتصل حد التفكير بأن ما يكمن خلف رقصهن عمليات معقدة من الإتجار بالبشر.
الدهشة في رقص بغايا أربيل مثيرة للسخرية السوداء لا التأمل، إلا إذا كان تأملًا في البؤس، الذي يحوّل راقصة الهجع من صورة الإلهةِ إلى صورة الجارية، ترقص غصبًا، وبدل أن تلفت نظر الآلهة المتصارعة تحاول تعزيز عقد النقص عند رجال أقصى صراعاتهم أن يذكر اسمهم أو حتى اسم منطقتهم على الميكروفون، فى تحيّة تتحول في ما بعد نتيجة انتقالها عبر مقاطع الفيديو إلى نكتة تتردد بلا حد “تحيّة للديوانية المنكوبة“.
أجسادهن غير متناسقة، تضخم مراكز الجسد عند السومريات لكن بطريقة الكاريكاتير، وكأنهن يسخرن بها من مرتادي المَلهى.
للموضوعية فإن هذا لا تتحمله مقاهي أربيل وحدها، بل هو سمة باتت ظاهرة منذ بزوغ فجر ميلودي ومزيكا وبعض الفضائيات. الأمر بدأ هناك تقريبًا، لكنّ ملاهي أربيل ذهبت به إلى الأقصى، إلى الفجاجة البائسة المثيرة للضحك.
ننحّي السخرية جانبًا للأسف، وبجد، لا يعد الفرق بين الإباحي الفج والفني الحسي الجمالي جديدًا، ربما بات ظاهرة منتشرة لكنه مدروس قبلًا فلسفيًا. كُتبت كثير من الأبحاث في الفرق بين الجمالي الحسي والغريزي، وفي الإيروتيكا تحديدًا الكثير من التفسيرات بعضها نفسي. مثلًا: يعدّ الجوع الغريزي، أي عدم الكفاية أو الإشباع الزائد (الشراهة)، عند الإنسان مولّدًا لتشوه في نظرته الجمالية، أو بتعبير أدق يخرّب ذائقته الجمالية.
مثلًا الإنسان في سنّ المراهقة يميل للأجسام المشبعة شكلًا، التي تظهر فيها المراكز الإغرائية أوضح وأكبر، لأنه في هذا السن يشعر بالحاجة بإلحاح، مثلما تكون جائعًا وتضع قدرًا من الطعام أكبر من حاجتك، أو تفكر بأطباق كثيرة. لكن كلما قلت الحاجة يبدأ بالنظر والتأمل فيتغير ميله ليصبح شعوريًا أكثر، يلتفت إلى التفاصيل ويبحث عن الجمال الهادئ، تدهشه خطوط دقيقة في الجسد، ويميل للأجساد المنحوتة أو النحيلة أو المفصلة بتناسق، لأنه يرغب باكتشافها، يرغب في عيش تجربة أكثر من تلبية حاجة، ويستمتع ببطء لا بِلُهوج متوتر. لكنه إن لم يضبط نفسه أو يعقل رغبته وذهب بها حد الإشباع فما فوق، يعود ليدخل فخ الحاجة، لكن هذه المرة نتيجة النهم أو بمصطلح يشبه هذه الفجاجة: يعود بفجع.
لهذا وبعد سنوات كثيرة من انتشار التلفزيونات القومية أو الدينية في المنطقة التي تخضع لضوابط كثيرة، جاء زمن الستالايت وجلب معه ثورة في عالم عمليات تغيير شكل الجسد ليصبح أكثر وضوحًا ويلبي حاجة مخيال الإنسان المحتاج ببؤس. ثم جاءت أربيل، أخذت معها آخر الجائعين، وجلبت لهم الفرائس، ثم نشرتهم في مقاطع فيديو قصيرة، في دعوة مفتوحة لمفكري الإيروتيكا ليبدأوا طروحات جديدة.