زاب ثروت المدينة ألبوم معازف هاني ساري
عربي جديد

المدينة | زاب ثروت

معازف ۱۹/۰۵/۲۰۱۸

عادة، عندما يمر علينا ألبوم سيئ في معازف ونضطر لمراجعته، فإننا نقوم بذلك بحس فكاهي بعض الشيء وبعض السخرية. لكن ألبوم زاب فيه من الرداءة الفنية ما يمنعنا من ذلك، ويحول طاقاتنا من السخرية إلى الغضب. فهو فوق كونه فقيرًا فنيًا إلى حد صادم، نجده يطرح مواضيع جادة فعلاً، لكنه يطرحها ببلاهة وتسفيه واستخفاف بعقولنا. زاب ثروت يأكل من مصائبنا ويفقرنا فنيًا وفكريًا.

يغمر الادعاء الألبوم كما يغمر محيط سفينة حربية مدمرة. من اللحظات الأولى، نسمع ونرى زاب ثروت يفرض علينا جوًا ملحميًا يتبدد في لحظات. تنهمر كليشيهات الملحمية المختلفة من أصوات قوطية وطبول حرب عميقة وتعابير وجهه الصارمة والمبهمة تصويريًا، كأننا مقبلون على عمل عظيم ينطق بصوت جيل كامل، ثم ينهار كل ذلك فجأة فور أن يبدأ زاب بسطوره التي من المفترض أنها تنتمي إلى الراب. فكرة زاب عن الراب هي أن يمسك المايكروفون بيد ويشبّر عرضيًا بيده الأخرى. أما ما يخرج من فمه وهو يقوم بهذه الحركات فهو مجرد صف كلام. لا تدفق ولا وزن ولا صور شعرية ولا مقاطع لفظية متناسقة ولا تراكيب ولا مضامين تفاجئك. يحدثنا زاب عن المدينة، يقول لنا في أول أغنية كيف أن المدينة ظهرت على حقيقتها، غدارة شريرة بحد ذاتها. ثم تأتي إنجي نظيف لتغني “كفاياكم غش فينا، اظهروا حقيقة المدينة.” وكأن هناك لجنة شريرة في مكان ما تنادي تلقننا أن المدينة جنّة، واتضح الآن أنهم كاذبون. من هم هؤلاء المطالبون بـ “كفاكم غش فينا”؟ من هم مهندسو الشر هؤلاء الذين غشوا زاب وأغووه بالقدوم إلى المدينة؟ لا نعرف، هم لا أحد. مجرد أشرار، كأننا في صف حضانة أو نسمع خطابًا للسيسي. ما يقوم به زاب هنا هو خدعة قديمة يدهشنا أنها ما زالت تنطلي على أحد. يأخذ زاب الشر، أو الظلم، أو أي ما تودون تسميته ويضعه في مكان بعيد غامض غير محدد بحيث يكون هو من ينادي بالخير بمواجهة لا شيء.

الكثير مما يحصل في تراك المدينة يحصل في كل تراكات الألبوم. في ٢٥٪ مثلًا، الطريقة الوحيدة التي تكون فيها الأغنية محتملةً هو إن تخيلنا أن زاب يتحدث عن نفسه. “بزعل لما تصدقوا الكذبة وتكذبوا عنيكو”، كأن زاب عارف أنه ببيعنا كلام فاضي، وهو مصدوم مثلنا بانطلاء هذا الهراء علينا وتحقيقه ملايين المشاهدات. “الكاذبين المدعين لا تصطنع اهتمامكم، كلكم مكشوفين” زاب لا بد أنه يتكلم عن نفسه مرة أخرى في لحظة الصدق الوحيدة في الألبوم. تأتي بعد ذلك مقاطع غنائية لا علاقة لها بالأغنية ثم يقول زاب: “الكلام لمين، لكل المستمعين، وعلى لسان مين، مراهقين بكرا يبقوا كبار.” فعلاً؟ صف كلام مرة أخرى. هو إما أن زاب لا يعرف ما هو الراب، أو أنه يحاول ركوب موجة ما. المهم، ما يريد زاب قوله هو أن هناك ٢٥٪ من الشباب في مصر مصابين بالاكتئاب، النسبة التي لا بد أنها ازدادت بصدور الألبوم. هذا العمل نفسه هو ليس إلا نتيجة واضحة وصريحة على ما نعانيه من كوارث.

هذا ألبوم راب بقدر ما هي أغنية رابرز ديلايت لشوغار هيل جانج أغنية راب، المثال الأفظع على محاولة ركوب موجة الراب قبل أن تتضح معالمه، والتي كانت من بنات أفكار منتجة شرسة أرادت تحقيق ثروة سريعة، وهذا ما نجحت به على حساب العديد من الموهوبين المغمورين آنذاك. قد يقول أحدهم إن لا بأس في ذلك، فالراب حينها كان في بدايته والراب عندنا في بدايته، ولذلك فهناك مجال لمن هم مثل زاب. اليوم، وبوجود المئات من الرابرز الموهوبين في مختلف أرجاء العالم العربي، ما يقوم به زاب لا يغتفر.

لنعد إلى الألبوم. تستمر الكوارث تباعاً، ولا يسلم منها إنتاج ومزج الألبوم رغم ظاهرهما المصقول من الجوانب التقنية. لا يمتلك الألبوم هوية إنتاجية، بل إن ما يمتلكه بوضوح هو نقص الهوية، إذ يبدو كمحترف انتحال شخصيات، يغير جلده تماهيًا مع الخلاصات التجارية لعدة أصناف موسيقية. في أغنية الحرب مثلًا، يلجأ ساري هاني إلى إحدى أكثر فرق الروك نجاحًا تجاريًا في القرن، ميوز، والتي تلعب على وجود مستمعي روك لا يعرفون ماذا حصل بعد لِد زِبلين، ويبحثون عن نفس الموسيقى الاستعراضية المشبعة. في لحظات معينة من الحرب، تتحول الأغنية إلى ترجمة عربية من سوبريماسي لـ ميوز، هناك أسطر إيقاعية مسروقة بالحرف ومختلفة بالحركات فقط. في أغنية الغربة، لا يمكننا، حتى لو حاولنا، أن نطرد الشبه بين الصوت الوتري الواسع المتفائل، وبين إعلانات التنمية العقارية التي تظهر على يوتيوب الهاتف الجوَّال قبل تركيب برنامج كاتم للإعلانات. عند سماع الجزء التالي للدقيقة الأولى، تتراءى لنا صور كاميرا ترتفع بالتدريج فوق بساتين خضراء، يعمل فيها مزارعون ملابسهم شبيهة بقسم الـ كاجوال والهيبستر من ماركات الثياب العالمية، ينظرون إلى كاميرا ويتبسمون فور التقاطها لوجوههم. ما يدهش أن ترعة الكليشيهات هذه تمر على الكثير من مستنقعات الحيل التجارية وتبقى بعيدةً عن الراب على وجه الخصوص، إذ يخلو الألبوم بشكل شبه تام من أغنية ذات توزيع وإنتاج وإيقاعات متسقة مع الراب من أولها لآخرها وبدون مقاطعات. حتى أغنية المدينة التي تجرب حظها مع إيقاعات مضخمة وعينات من المفترض أن تضيف حسًا بالهيبة، تذكرنا بألبوم كانيه وِست وجاي زي المهيب حقًا والصادر من سبع سنين، والذي لم يحمل اسم أنظر إلى العرش عن عبث، إذ أن المدينة تنظر إلى عرش هذا الصنف الموسيقي دون حتى أن تحلم بالجلوس عليه.

في معظم فيديوهات الألبوم، يقف زاب في استوديو مليء بالآلات الموسيقية، الجيتارات مكدسة ووسطها عود عربي وبوزوكي يوناني ﻻ غرض لهما سوى الديكور، والكيبودرات والسنثات، ليفرض علينا ادعاؤه الآخر بأن زاب ورفاقه مزيكاتية من العيار الثقيل تلزمهم ١٠ جيتارات والعشرات من بدالات المؤثرات الصوتية لا نسمع أيًا منها في الألبوم. زاب ثروت لا يصنع الموسيقى، هو يقول أنه يصنعها، هو لا يراب، بل يقول أنه يراب، هو ورفاقه ليسوا مزيكاتية، ولكنهم يقولون إنهم مزيكاتية. هم مثل ذلك الطفل الغني المدلل الذي لا يعرف يمينه من شماله في ملعب الكرة، لكنه يدخل الملعب واثقًا بما يرتديه من زي رسمي وكسارات وحذاء كرة قدم فاخر وجرابات أصلية طويلة تصل ركبتيه وقنينة ماء عليها لوجو نادي أوروبي. هو ليس بلعيب، هو يريد أن يكون لعيب، والده الغني يود أن يكون ابنه لعيب. هو يقول لك إنه لعيب، لكن فور بدء اللعب يظهر ادعاؤه.

تستمر مشاكل الخطاب والكلمات في الغربة، حيث يحدثنا زاب ثروت عن شاب بسيط بتدعوس عندما يغترب للعمل ثم تجور الدنيا عليه. في هذه الأغنية كما في غيرها، زاب لطيف، مؤدب، حزين على ما يوجد في العالم من ظلم ولكنه في نفس الوقت يمدح كل ما يخطر ببالك من فئات، الأهل، المعلمين، الصحاب، الزملاء، الله، الحبيبة، الأولاد. كل حد في هذا العالم جيّد، لكن هناك شر مطبق يأكلنا في نفس الوقت. هل هذا الشر هو التساهل مع الرداءة التي يقدمها لنا زاب أغنية بعد أغنية؟ أمير عيد لن ينقذ شيئًا في هذه الأغنية. فرقته أصلًا تترنح على خط قريب من زاب. الأمر نفسه ينطبق على أغنية الصحاب النوستالجية التي تلعب على نفس ثيمة وقفة ناصية زمان، يحضر فيها العود مشهديًا فقط، فالعود مرتبط بزمان وألبوم عمرو في المعمورة لو كان  يا عمرنا، وحمزة نمرة، الذي يستمر بعزف ألحان على جيتاره لا تنفع لشيء سوى أن تكون موسيقى خلفية لإعلان – الألبوم بأكمله يذكرنا بهذا الإعلان بالمناسبة. مدهشة هذه الاستضافات المقحمة، والتي لو حذفناها لن تتأثر بنية الأغنية، ولن ينقص الألبوم شيء سوى ما يراد منها من استقطاب للجماهير.

الشخص الوحيد الذي ينقذ شيئًا في هذا الألبوم هو العسيلي. أغنية السعادة هي الوحيدة في الألبوم التي نرى فيها علامات حياة، بعض العفوية والمتعة رغمًا عن زاب وكلماته. حتى إنجي نظيف نجدها تتماثل للحياة فجأة. تكاد تنهار الأغنية في الدقيقة ١:٣٥ تحت ثقل سطور زاب الخانقة، لكن أفراد الفريق الذي بدا أنهم باعوا كل ما لديهم في الألبوم يقررون العودة، يدخل ساري هاني بسطر جيتار سريع فيه بعض الطاقة، بينما يغني العسيلي آهات إسعاف تنجح بإنعاش الأغنية. بعد أغنية السعادة يعود الألبوم لما سبق. في أغنية الختام، فارس، التي يتضح أنها إعلان مدفوع من عدة منظمات إنسانية – كما قد يكون الألبوم كاملاً – يتهاوى أحمد شيبة لوحل هذا الألبوم بدلًا من أن ينتزعه كما فعل العسيلي.

هذا ألبوم سيئ، بل هو ألبوم مضر. ألبوم يتغذى على مآسينا وكوارثنا الثقافية، يعلكها ويعيدها إلينا مادة هلامية لا شكل لها ولا نكهة. هو مضر لأنه يعلن عن مرحلة جديدة من التهاوي لم نصلها سابقًا مع كل ما مر من كوارث البوب العربي[Mtooltip description=” فهي موسيقى رخيصة تريد الإمتاع، لكنها على الأقل لا تدعي الانتقال بالمستمع إلى حيز ثقافي جاد” /] وعقود روتانا. فهو يدعي أنه موسيقى وفن وقيم، دون أي حرج من كونه خاليًا تمامًا من الموهبة، ومن حب الموسيقى، ومن الصدق. هو عمل ينبئ بمرحلة جديدة من التهاوي، إن استطاعت دور الإنتاج أن تنجح به، اقرأ على موسيقانا السلام. هو الجهل يطبق علينا من كل ناحية، ويذيب ثقافتنا من الداخل. هذا موديل جديد للإنتاج الفني، مستنسخ من الحملات الإعلانية، تدعمه منظمات “تناهض الإرهاب”، وأموال شركات الاتصالات، مبني بالكامل على الاستخفاف بعقول وذائقة المستمع العربي. ونحن في معازف سنقاتل ذلك، لأنه إن نجح، لن يتبقى لنا شيء، نحن العرب التعسون.

المزيـــد علــى معـــازف