.
٨٠٨س آند هارتبرايك ألبوم ظلمه التاريخ مرتين. المرة الأولى عند صدوره، عندما صعق الألبوم – بتوجهه التقليلي المغرق بالأوتوتيون والواقع بين البوب والراب – كل من كان يتوقع استمرار كانيه في أسلوبه الذي أسسه في ألبوماته الثلاثة الأولى. بدا كانيه لبعض النقاد والمستمعين أنه يخون بهذا الألبوم كل ما كان يمثله قبلًا، ما دفع أحد المؤرخين لتشبيه ٨٠٨ بعزف بوب ديلان على الجيتار الكهربائي للمرة الأولى. ظُلِم الألبوم للمرة الثانية للسبب المعاكس، عندما تحول خلال السنوات التالية لصدوره إلى أيقونة في الهيب هوب المعاصر. أخذ الجميع بدراسة آثاره على درايك وفرانك أوشن وبون آيفر وفيوتشر وحتى على كانيه نفسه، وأصبح التركيز ينصب على ميراث الألبوم وسعة أثره، وعلى جرأته الملهمة، بينما ظل الكلام عن الموسيقى نفسها شحيحًا. ربما أفضل خدمة نستطيع تقديمها لـ ٨٠٨ هو نسيان موقعه في الموسيقى المعاصرة، وسماعه كأي ألبوم آخر. اكتشاف خباياه التي تبدأ منذ الأغنية الأولى، ساي يو ويل.
ربما اليوم وقت مثالي للعودة إلى هذه الأغنية، فمع صدور يي صار بين أيدينا المزيد من الأعمال التي تمكننا من دراسة التوجه التقليلي لدى كانيه. بينما يستخدم يي التقليلية كأداة لزيادة تركيزه بالعموم، ولإضفاء ذلك الصوت الناضج المقنن الذي استبدل هذربات كانيه الآسرة المحمومة بجديّة مهيبة، يلجأ ٨٠٨ إلى التقليلية لنسج صوت بدائي قبائلي جامح، إذ لا أوركسترا ولا فرق كبيرة في الأدغال. أول ما يلفت في ساي يو ويل هي أنها لا تستخدم التقليلية لأي من السببين، ولا لأي سبب آخر. الحقيقة أننا عندما نستمع إلى الأغنية لعددٍ كافٍ من المرات ننسى أنها تقليلية من الأساس، فأصواتها البسيطة تخلق فردوسًا جماليًا معقدًا يفوق فيه الكل مجموع أجزائه.
بنى كانيه الأغنية على ثلاثة مستويات. المستوى الأوَّل هو عينة كورالية مسجَّلة خصيصًا للأغنية، مكونة من كورال مدعَّم بمغنين مساندين، وقسم وتري مستخدم باقتصاد وتمهل. مرَّ المزج على هذه الأصوات كمدحلة، فمسح الحدود بينها وحولها إلى صوت واحد مسطَّح، تم استخدامه كورق جدران للأغنية، كل ما يجري في الأغنية يجري أمامه. لا تتوقف هذه العينة فعليًا سوى في الثواني الأخيرة، وبالتالي تمنع ساي يو ويل من أن تصادف لحظة سكون واحدة.
فوق هذه العينة يأتي الإيقاع المركزي، والذي يبدو كلعبة بينج بونج. يتنقل الإيقاع بين نغمة إلكترونية على الأذن اليمنى إلى نغمة قريبة أكثر حدةً على الأذن اليسرى، ثم يعود إلى اليمنى ودواليك، مارًا بين النغمتين بسطر إيقاعي واحد على الطبول، نسمع نصفه الأوَّل خلال الانتقال من النغمة اليمنى إلى اليسرى، ونصفه الثاني خلال العودة. عند عزل الإيقاع عن بقية الأغنية عبر التركيز عليه، نجد أن حركته الدورية المنتظمة والرتيبة في التأرجح بين الأذنين تخلق أثرًا مخدرًا، وكأنها الرديف الصوتي لساعة الجيب التي يستخدمها سحرة التنويم المغناطيسي. يصبح المستمع مسترخيًا ومشدوهًا، ويتحد هذا الشعور مع الهيبة التي يفرضها الكورال الشعائري في الخلفية، لنصبح وسط محفل صوتي، بانتظار دخول كانيه لتعميده.
المستوى الثالث هو مقاطع كانيه الغنائية.
يميز المستمع الخبير لكانيه أسلوبين شائعين لديه في الكتابة – معظم أغانيه مكتوبة إما وفق سرد خطي بسيط، من البداية إلى النهاية، مشهدًا تلو الآخر، مع ذلك الهامش للعشوائية الذي يميز كتابة الأغاني بالعموم، أو وفق سردٍ مواضيعي، حيث يمسك في بعض أغانيه موضوعًا معينًا، يعلقه في وسط الأغنية كلوح رمي الأسهم في البارات، ثم يقذف عليه كل ما لديه من أفكار وقصص ومشاعر وتأملات وعبارات خاطبية موجهة إلى الذات والآخر. في ساي يو ويل على كل حال، ينشق كانيه عن عرفه في الكتابة، ليتبع تقنية تنسب إلى مدىً كبير إلى بوب ديلان، تقنية سميتها في مقالٍ سابق: المشاهد السياقية. ما يحكيه كانيه هنا هو قصة محددة، حدث ذا بداية ونهاية وخلفيات توضحه وتأملات في تداعياته. لكن بدلًا من أن نحصل على القصة كاملةً، أو كما العادة في الأغاني، على نسخة ملخصة ومضغوطة منها، يترك كانيه القصة بطولها الأصلي، بكل تفاصيلها وزخمها، كأنها مقال مطول من عشرة آلاف كلمة، ثم يختار أربعة اقتباسات كل واحدة من جملتين، شديدة الاختصار والبلاغة، ويتركنا لنملأ بين الفراغات.
يذكرنا هذا التوجه بأن لكانيه، كما لديلان، ميول إنجيلية في الكتابة. هناك برنامج صوتي متخصص في تحليل التأويلات – وخاصةً الإنجيلية – في أغاني كانيه، أما ديلان فجميع متابعيه يعرفون عن انقطاعه الشهير في السبعينات حيث التحق بمدرسة لتفسير الإنجيل، وكتب العديد من الأغاني والألبومات الزاخرة بالمراجع اللاهوتية. ما أعتقد أنه وجه التأثر الأبرز لدى ديلان بالإنجيل على كل حال، هو كتابته أغاني شديدة القابلية للتأويل بغض النظر عن مواضيعها وثيماتها، وهذا ما يفعله كانيه هنا أيضًا. فعندما نقرأ أربعة اقتباسات عن أربعة تفاصيل مبعثرة، يصل بين الواحدة والأخرى منها لازمة مبهمة مكتوبة بجمل مبتورة، ينفتح باب التأويل أمامنا على مصراعيه. ما يحصل معنا عادةً أننا نميل لإسقاط تجاربنا وخبراتنا الخاصة على الأغنية، وافتراض أنها – يا للصدفة – تتحدث بالضبط عن التجربة المعقدة والمتفردة التي مررنا بها للتو.
يعترف كانيه بتعمده خلق قابلية واسعة للتأويل في الأغنية. عندما صدر كتيب صغير لكلمات أغاني الألبوم برفقة نسخة الفاينل، كتب كانيه تفسيرين ممكنين لبعض الجمل غير الواضحه بسبب الأوتوتيون، كالجملة الثانية في المقطع الأول من الأغنية، والتي قال إنه يمكن سماعها: “الآن أنا مستيقظ، يخاتلني النوم في حزيران أو الآن أنا مستيقظ، لا أزال أفتقدك.”
لكن إن اكتفينا من التأويلات وأردنا الحصول على أدق تفسير ممكن لـ ساي يو ويل، فكل ما علينا فعله هو العودة إلى الفترة التي كتب فيها كانيه الأغنية، ومحاولة ملء الفراغات بالحقائق التي يمكن استنباطها من مقابلات كانيه وظهوراته العلنية، والتي هي في هذه المرحلة، ولحسن حظنا، كثيرة. عندما نفعل ذلك، نكتشف أن ساي يو ويل هي أغنية انفصال، تتحدث عن علاقة كانيه الطويلة (ست سنوات) والمضطربة مع عارضة الأزياء ألِكسيس فايفر. باركت والدة كانيه خطبة الاثنين قبل أشهر من وفاتها، الحدث الذي كان ذو أثر تراجيدي على كانيه، ودفعه إلى التركيز بشكل هوسي على ضرورة زواجه بفايفر كاستجابة وفية لمباركة أمه، لكن فايفر تركته بعد أشهر من الوفاة، دافعةً كانيه إلى وسط دوامة عصابية من الغضب والكآبة والانسحاق، شكلت النواة العاطفية لأهم أغانيه منذ ذلك الوقت. بإمكاننا تلمس أصداء لهذا الانفصال في أغانٍ أيقونية في ألبومات كانيه اللاحقة: الشيطان في ثوبٍ جديد (دارك فانتازي)، هولد ماي ليكر (ييزس) وفكرت بقتلك (يي).
تقوم الأغنية إذًا على أربعة اقتباسات من إنجيل هذه العلاقة:
“ما السبب وراء اتصالاتها، تأتي من لا مكان
الآن أنا مستيقظ، يخاتلني النوم في حزيران”
يشير كانيه هنا إما إلى اتصالات حقيقية من فايفر بعد نهاية علاقتهما، جعلت مضيه قدمًا أكثر صعوبة، أو إلى اتصالات مجازية، أي ظهورها في رأسه وهو في السرير، بشكلٍ أصابه بالأرق. انتهت علاقة الاثنين في نيسان / أبريل ٢٠٠٨ وصدر الألبوم بعد نصف عام، لذا فقد يكون كانيه قد كتب الأغنية في حزيران / يونيو، خلال نوبةٍ من الأرق.
“هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، إلا إذا كنتِ ستفعلين
هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، ثم تتلاعبين بقولك، أُصلي أن تفعلي”
تتكرر هذه اللازمة بين الاقتباسات الأربعة وتقفل الأغنية في النهاية. في أغاني الانفصال الناتجة عن هذه العلاقة، تسود نبرة الغضب السكرانة العصابية غالبًا، لكن ليس هنا. كُتِبَت الأغنية في مرحلة أبكر من الغضب. رغم أن كانيه سيصف زيارة خطيبته لاحقًا بأنها كـ انهيار طائرة، لكن الأغنية تبدو كالصندوق الأسود الخاص به هو، توثق حالة الانسحاق التي أصابته تلو وفاة أمه وانفساخ خطبته، الحدثين اللذين تداخلا في ذاكرته العاطفية ليشكلا صدمة تراجيدية واحدة. بإمكاننا تلمس نبرة الانسحاق هنا على مستويين، الأوَّل قائم على كون كل ما أراد كانيه بناء نبرة الملامة، تنهار هذه النبرة إلى التوسل، والثاني أنه ببساطة لا يستطيع إتمام جمله – لا يقول لنا، ولا للشخص الذي يحدثه، ماذا يريدها أن تفعله وأن لا تفعله. تنتهي العبارات بأداة المستقبل “ويل” أو الفعل البديل “دو”.
“الفتاة التي لا مثيل لها، تهبط وتنهار في غرفتي كطائرة
لا أستطيع إهدار أي وقت، فربما اقترب وقت المغادرة”
في الاقتباس الثاني يصف كانيه ما يبدو أنها زيارة غرضها الجنس في الأيام الأخيرة للعلاقة، ربما كانت تبحث فيها خطيبته عن ملاذ خلال يومٍ عصيب. الملفت هو استخدام مجاز الطائرة الذي ينقل شعورًا ضمنيًا بالدونية لدى كانيه، يعزز ذلك عبارة “قد تغادر قريبًا” الذي يرسم لكانيه صورة ذليلة، تجعل دوره في العلاقة دور متسول، يحصل على ما يمكنه الحصول عليه. كل ذلك يتفق مع النبرة المسحوقة التي يغني بها، حيث الشعور الأقوى هنا هو غياب المشاعر القوية.
“هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، لكنك تقولين
هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، لكنك يومًا ما ستفعلين، أصلي أن تفعلين”
تختلف بعض كلمات اللازمة في كل تكرار. ظاهريًا يبدو هناك بعض الأمل في الكلمات، أن خطيبته ستعود لإجلال الوعد الذي قطعته له تحت مباركة أمه. لكن عند سماع نبرة كانيه، ندرك أن الأمل الذي يدعيه لا غرض له سوى مواساة الذات.
“عندما أحكم قبضتي على عنقك، روحك بين يدي
أنزع الحشمة عنك، ونفقد السيطرة”
هناك سوداوية مخيفة في هذه العبارة الواقعة بين التذكر والتخيل المهووس لزيارة جنسية. عندما نخلط حديث كانيه هنا عن الكيمياء الجسدية المتقدة بينه وبين خطيبته، مع نبرته التي لا تزال لا تشي بأي أمل أو راحة بال، نفهم أن هذه العبارة هي تنبؤ كانيه للصعوبات المهولة التي ستواجهه حتى يتجاوز هذه العلاقة، وكأنه يفترض أنه سيتوجب عليه إعادة برمجة كهرباء كل خلية عصبية في جسده لغسلها من كيمياء عنيفة مماثلة.
“هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، ستفعلين ستفعلين
هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، لكن لو كنت ستفعلين، أصلي أن تفعلين
أتمنى أن تتحول هذه الأغنية إلى واقع
أعترف بأنني لا أزال أطوف بمخيلتي حولك، حولك
هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، ستفعلين ستفعلين
هاي، هاي، هاي، هاي
لا تقولي أنك ستفعلين، بحق، أصلي أن تفعلين”
بكلمات معرَّاة إلى أقصى درجات البساطة والمباشرة، يختتم كانيه الأغنية بوصلة من التوسل المشدوه. لو قرأ عليه محامٍ متخيل حقوقه بصون كرامته وإبقاء بعض مشاعر الانكسار لنفسه، فإن كانيه، في ختام الأغنية بالذات، يلوِّح بكافة هذه الحقوق.
ينتهي كانيه من غنائه قبل بلوغ الأغنية الطويلة ٦ دقائق وثلث، سادس أطول أغاني كانيه منتصفها، لكن عبقرية ساي يو ويل لا تزال في بدايتها. بعد اعتيادنا على العينة والإيقاع والتناظري اللذين كانا في خلفية الغناء، نجد أنفسنا بصحبتهما منفردين لثلاث دقائق ونصف، متورطين في أغنية آسرة لكن لا يحدث فيها أي جديد. يبدأ الإيقاع الإلكتروني الرتيب بتذكيرنا بالنبضات الثنائية لجهاز تخطيط القلب، ونصبح كمستمعين متورطين فيما يحاول كانيه إيصاله: فخ يستمر فيه الزمن بالمرور والقلب بالنبض لكن تعلق وتتلوى فيه الحياة عند نقطة تعجز عن تجاوزها.
تفتح ساي يو ويل الكثير من الأبواب كما تفعل بقية أغاني ٨٠٨، لكن بعض الأبواب التي تفتحها هذه الأغنية بالذات لا يمر أحد منها مجددًا. مجرد كون الأبواب مفتوحة لا يعني أن من السهل عبورها، ومجرد أن يحقق فنان إنجازًا معينًا لا يعني أن من السهل تقليده. ربما يأتي تفرد الأغنية من كونها تترك العاصفة وتلتفت إلى السكون الذي يسبقها، ربما كونها كتبت في لحظة حرجة سابقة للانهيار، لحظة الانفجار العظيم الذي تعجز التلسكوبات العاطفية عادةً عن رصده.