للسجن أحكام أخرى | عن عودة سعد لمجرد

عندما نزلت أغنية لِت جو في آب / أغسطس ٢٠١٧، حققت مشاهدات تجاوزت الربع مليون خلال النصف ساعة الأولى، والعشر ملايين في يوميها الأوّلين. رغم أن هذه الأرقام ليست بالغريبة على سعد لمجرد، إلا أن وقع الأغنية المصورة كان كبيرًا كونها أول عمل يصدره نجم البوب المغربي بعد خروجه من السجن، وانقطاعه عن إنتاج الموسيقى لحوالي السنة. اتضح مع الوقت أن لِت جو هي أول أغنية من مرحلة جديدة سيحاول فيها لمجرد العودة بقوة بعد خروجه من السجن، واسترجاع بريقه الأوَّل لبسط سيطرة لمعلم من جديد.

يستهل لمجرد هذه المرحلة بالاعتماد على ألحانه وكلماته الخاصة، كأن لا أحد قادر على هذا التحدي غيره. بدأ بأغنية لِت جو التي وزّعها رفيق نجاحاته، المغربي جلال الحمداوي. دون مقدمات، يدخل إيقاع إلكتروني راقص في بداية الأغنية، تتبعه مباشرةً جملة المعاتبة التي غلب عليها طابع هادئ نسبيًا سينقلب بعدها بقليل. فعلًا، تنفجر الأغنية مع جملة “ما ربحتي والو” كأنه لا يغنيها، بل يرددها صارخًا في وجه أحدهم بنبرة متشنجةٍ، يصحبُها إفيه متوالية لحنية تبنى فيها كل جملة على سابقتها (بدرجة ركوز مختلفة صعودًا أو هبوطًا)، لتنتهي بجملة استنتاجية تقفل بها فقرة؛ اكتسبت اسمها، الإفيه، من المتداول بين الملحنين المصريين. في الخلفية يتكرر كل أربع دورات إيقاعيةٍ، شبيه بصوت آلة نفخيةٍ تكرر نداء لمعركة ما. تستمر الأغنية في التقلب، حيث لا تكاد تستقر جملة موسيقية حتى تبدأ أخرى بصحبة إفيهات جديدة، بينما يكرر سعد اتكاله على طريقة الغناء الخطابية، فتبدو بعض أجزاء الأغنية وكأنها تُرِكَت بلا تلحين.

لا يمكن تجاهل أن لمجرد يريد إخفاء ارتباكٍ ما حصل في مسيرته عبر إنتاج أعمالٍ منطلقة نوعًا ما، ومتحدية للوضع الذي يمر به. كما قد توحي هذه التركيبة اللحنية المزدحمة بأن الحمداوي لم يشأ أن يجادل لمجرد كثيرًا في اختياراته الموسيقية، على العكس، أراد مجاراته أو ترجمة ما شَعَرَ به حينها. على عكس عادته في التأليف والتوزيع، لا يقوم الحمداوي بالتكديس اللحني، بل يميل لاعتماد الإيقاعات المغربية التقليدية في توزيعات إلكترونية راقصة معاصرة بشكلٍ جريء وواضح الرؤية ومتماسك. كان نجاح أغنية لمعلم مثلًا من منطلق التمكن من لعبة الإيقاع وتوظيف المؤثرات في المكان والوقت السليم، رغم ما تظهر عليها الأصوات الموظفة من حدة وعنف. الأغنية التي استطاعت كسر حاجز النصف مليار مشاهدة على اليوتيوب، لم تكن وحدها المتزنة في نقل إيقاعٍ ونبضٍ موسيقي حاد دون استفزاز ممل للأذن، غلطانة أيضًا كانت كذلك رغم اختلاف الإيقاع والمؤثرات الصوتية والإفيهات المعتمدة. أغنية تنم عن حدة في اللحن والتوزيع، وعن طابع جاف وقاسٍ نوعًا ما، لكنه إلى حدٍ كبير محبوك بسلاسة من خلال توليفة موسيقية موزونة يتخللها الجيتار الكهربائي والمؤثرات الإلكترونية.

بعد نزعه السوار الإلكتروني الذي كان مجبرًا على ارتدائه في فيديو لِت جو، أطلق لمجرد أغنية غزالي في آذار / مارس ٢٠١٨. فوضى التأليف التي لازمت سابقتها بدأت تهدأ نوعًا ما، لكن مازال واضحًا أن سعد لمجرد مُصِر على كتابة وتلحين أغانيه بنفسه، محددًا مجال حركة الحمداوي في توزيع الأغنية. في هذه التجربة، ذهبت الأهواء نحو الجو الشعبي المغربي بعَباية البوب كالعادة.

تبدأ الأغنية بدخول جملة مركبة من صوْتيْن يسريان بالتوازي، مشكلين الخط الأساسي لإيقاع الأغنية، واحد إلكتروني بحت والآخر أشبه بصوت نقر على آلة وترية. تبدأ دائرة الأصوات بالتوسع والامتلاء خلال الثلاث دورات الأولى، وخلال كل دورة تضاف مؤثرات جديدة، إلى حدود بداية الغناء التي يستقر عندها الإيقاع بضربات منتظمة ومكرَّرة يصحبها ويربط بينها صوت خشن في الخلفية، أقرب إلى لحن أوركسترالي مشوه لمجموعة من التشيلوهات ولآلات الترومبون و التوبا. على عكس العديد من أغاني لمجرد السابقة، تبدو غزالي مرتَّبة منذ انطلاقها. المراوحة بين إفيهات التصفيق أو دعم إيقاع الأغنية بضرب الكف المنتظم، وبين ترديد عبارات كـ “جيبوه، جيبوه”، والتي هي إحدى خصائص الغناء في شمال إفريقيا عمومًا، والغناء المغربي أيضًا، هو توجهٌ واضحٌ لتدارك ما تم نسيانه أو إسقاطه في لِت جو، والعودة إلى أجواء الغناء المغربي المجدَّدِ. هذا ما يؤكده فيديو الأغنية بظهور لمجموعة من الرجال تلبس الجلابة التقليدية المغربية في حالة عامة من الرقص والاحتفال.

ما يلفت الانتباه في هذه الأغنية هو صولو للساكسوفون، حيث لم نعتد على سماع صولوهات آلاتية بكثرة في أغاني لمجرد، إلا في حالات قليلة كالجملة المبسطة للكمان في آخر أغنية أنا ماشي ساهل. يصاحب الساكسوفون الأغنية في جزئها الأخير إلى حدود امتلائها بالأصوات المكتومة منها والحادة، مع تصفيقٍ كان يمكن أن يكون ألطف لو كان حقيقيًا.

لم تتمكن أي من هاتين التجربتين، اللتين دخلتا في ترتيب أكثر أغاني لمجرد انتشارًا، من خلخلة ثلاثيته القياسية: لمعلم، غلطانة، وماشي ساهل، أو حتى مال حبيبي ماله التي نشرت على غير قناته. كأن جمهوره لازال في حاجة إلى بعض الوقت لطرد ما علق في ذاكرته من إشاعات وتهم وجرائم حول هذا الفنان. لكن الغريب أن سعد لمجرد انساق لاسترضاء الجمهور إلى اقتحام مجالٍ لم يكن مجاله، والأهم من ذلك بغير عتاده. في حزيران / يونيو ٢٠١٨، وبالتزامن مع شهر رمضان، صدرت أغنية يا الله، أغنية دينية من تأليف صلاح الكردي وتوزيع جلال الحمداوي. لم تجمع الأغنية إلى حدود كتابة هذه الأسطر ستة مليون مشاهدة على اليوتيوب. إذا ما أردنا تحليل نجاح وانتشار الأغنية من زاوية الأرقام، بما أن لمجرد ملك الأرقام القياسية، فهذه الأغنية قد لاقت فشلًا لم يعتده هذا الفنان حتى في انطلاقته الأولى. أما إذا أردنا تحليلها من ناحية موسيقية، فهي تقريبًا لا تمت بصلة بكل ما سبق وتحدثنا عنه من جرأة وتحديث للبوب المغربي وأساليب التوزيع التي تعوَّد الحمداوي على تقديمها للمجرد. هذا العمل يشبه السلخ لأحد أغاني فناني هذا النمط، بما أنه فعلًا أصبح نمطًا، كما لدى سامي يوسف أو ماهر زين، بكلمات جد عادية ركبت بمنتهى الاستسهال على لحن مكرر باستثناء المقدمة. صاحَب الأغنية فيديو أنيمايشن على الطراز الإسلامي، بألوان هادئة وحركات وقورة، أبرز ما غاب عنه هو لمجرد نفسه برقصاته وألوانه، ليسجل حضورًا مخجلًا في عالم المُنشدين ثم ينسحب.

غياب لمجرد عن الساحة، وصعود فنانين جدد ينافسون على الشعبية وتصدر قوائم المشاهدات، وضعا مسيرته ونجاحاته السابقة في خطر لا يقل عن الاتهامات التي واجهها. لذلك جاءت محاولته المتهورة للتلحين، وربما التوزيع، في فترة حرجة تلحق حبسه، محاولة قد لا تعد جرأةً بقدر ما هي حيلة لطي صفحة أخلاقية وتشتيت الانتباه باستخدام بهرجة البوب. قد تكون الأغاني الثلاثة الماضية نجحت في خلق جلبة ما، لكن الراديكالية المستعجلة التي ارتكز عليها سعد لمجرد قد يكون لها، على المدى الطويل، نتائجها العكسية.