fbpx .

بالأبيض والأسود | الموسيقى الأمريكية قبل الروك

عمار منلا حسن ۲۰۱٦/۰۸/۲۰

ينظر العديدون إلى ولادة الروك عام ١٩٥٥ كأهم لحظة في تاريخ الأغنية الغربية الحديثة، والتي امتد تأثيرها لاحقًا ليشمل موسيقى العالم بأسره تقريبًا. ما هي سلسلة التغييرات والتطورات التي مهدت لظهور الروك؟ لمعرفة الجواب علينا العودة إلى بداية الأغنية الغربية الحديثة.

في بداية القرن العشرين، بدأت الموسيقى الكلاسيكية بالتراجع تدريجيًا، مفسحةً المجال لأنواع موسيقية أكثر قدرةً على مواكبة أسلوب الحياة الحديث، خصوصًا مع حلول ما عرف بعصر الجاز Jazz Age في العشرينات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول الأخرى، وهو عقد من الرخاء بين الحربين العالميتين وقبل الكساد العظيم في الولايات المتحدة. اكتسبت هذه الحقبة اسمها من موسيقى الجاز التي نشأت في نيو أورلينز New Orleans نتيجة تمازج موسيقى الأمريكان الأفارقة والموسيقى الأوروبية. أسس هذا الصنف عدة كتاب أغاني وملحنين ألفوا أغاني جاز سهلة الرواج، عاطفية، خفيفة الإيقاع يسهل الرقص عليها. اعتمدت معظمها على أوركسترات مصغرة عرفت باسم الفرق الكبيرة Big Bands. من أبرز مؤلفي هذه الموسيقى كول بورتر  Cole Porter والثنائي إيرا وجورج جيرشوين  Ira & George Gershwin وإرفينج برلين Irving Berlin. تمثل أغنيتي Let’s Do It (Let’s Fall In Love) وYou’ve Got That Thing من تأليف بورتر مثالًا جيدًا على هذا الصنف، خصوصًا النسختين المسجلتين من قبل كونال فوكس  Conal Fowkes الذي تعمد تسجيلهما بطريقة تحاول إعادة إحياء الأغنيتين كما كانتا في العشرينات.

احتفى المجتمع الأمريكي المخملي بالمؤلفين الجدد وأغانيهم التي تناسب السهرات الراقصة والمناسبات الاجتماعية، خصوصًا في المدن الكبرى التي تقطنها العائلات الثرية من الأمريكان البيض، حيث كان الفصل العنصري لا يزال ساريًا.

كان من الشائع أن يوجد بيانو في المنزل، وأتقن العديد من أبناء العائلات الثرية العزف والغناء، لذلك توافد الناس لشراء نوتات  Music Sheets تلك الأغاني لأدائها وغنائها بأنفسهم، وسرعان ما أصبح نسخ وبيع النوتات تجارة مربحة في الولايات المتحدة، تشكل مصدر الربح الرئيسي للمؤلفين، كما جرت العادة أن يعمل أحد موظفي متجر النوتات كعازف بيانو، يؤدي الأغاني للمتسوقين ليسمعوها قبل شرائها.

باتت هذه الأغاني تعرف بالموسيقى الرائجة Mainstream Pop لانتشارها وسط المجتمع الأكثر ثراءً والمسيطر على الواجهة الفنية للولايات المتحدة، والتي سيطرت على الراديو فور ظهوره، وبات مؤلفوها أثرياء نسبيًا لما باعوه من نوتات، إلا أنهم لم يبرزوا كمؤدين عازفين وصوتيين أبدًا، إذ تنتهي وظيفة الكاتب بتأليف الأغنية، أما الأداء فكان من اختصاص الفرق الكبيرة في الحفلات وفي استوديوهات الإذاعات، إذ لم تكن الإذاعات حينها تبث سوى الأغاني التي تؤدى مباشرةً من استوديوهاتها.

في تلك الأثناء، كان جنوب شرق الولايات المتحدة يشهد انتشار صنف محلي جديد، مرتبط بالغناء الكنسي Gospel Singing. كان الفصل فيه بين المؤلف والمغني أقل حدة، خصوصًا أنه اعتمد على أداء فولكلور محلي وديني أكثر من التأليف، كما ظهرت فيه نزعة ريفية واضحة في اللهجة والكلمات، وألحان تصلح للرقص الريفي والغناء الجماعي. عرف هذا الصنف بالموسيقى الريفية Country Music، حيث بدأ مع فرق وجماعات غنائية لا تهدف بشكل رئيسي للنجومية الفنية، كفرقة عائلة كارتر Carter Family الذين أدوا أغنية (Can The Circle Be Unbroken (By and By. مع مرور الوقت أفرزت الموسيقى الريفية فنانين تجاريين إن صح التعبير، استطاعوا تحقيق النجاح عبر الأغاني المسجلة والحفلات في وقتٍ لاحق، من أبرزهم روي آيكف  Roy Acuff الذي حافظ على الطابع الكنسي في أغانٍ مثل I Saw The Light، أو الطابع الريفي المحلي في أغانٍ من قبيل Great Speckled Bird. كونها قادمة من جنوب الولايات المتحدة، حيث استقطب الجيش الأمريكي العديد من الجنود البيض، شهدت الموسيقى الريفية انتشارًا واسعًا خلال الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن آيكف أصبح أحد الرموز الوطنية، حتى رويت قصص عن جنود يابانيين يصيحون خلال هجماتهم “إلى الجحيم يا روزفيلت، إلى الجحيم يا بايب روث لاعب بايسبول شهير،إلى الجحيم يا روي آيكف.”

خلال نفس الفترة لكن في الجنوب الغربي وعلى امتداد الساحل، ظهر صنف يشبه الموسيقى الريفية، كما أنه انتشر في المجتمعات الزراعية بشكلٍ مماثل، إلا أنه كان متأثرًا بثقافة رعاة البقر  Cowboy Cult بات يعرف بالموسيقى الغربية Western Music، تطورت بشكلٍ موازٍ له مدرسة سينمائية عرفت أيضًا بالسينما الغربية  Western Cinema. كان أحد أبرز نجوم هذه الموسيقى جين أوتري، والذي لا نحتاج سوى لمعرفة أسماء بعض أغانيه لندرك مدى ارتباطه بثقافة رعاة البقر، كأغنية Back In The Saddle Again.

ظلت الموسيقى الريفية والغربية حبيسة مناطقهما الجغرافية، وكانت شريحة واسعة من الشعب الأمريكي لا تدرك وجود هذين النمطين من الأساس نتيجة اقتصار بثهما على الإذاعات المحلية دون الوطنية. كان ذلك حتى منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، حيث استضافت إذاعة WSM في ناشفيل برنامجًا موسيقيًا لفناني الموسيقى الريفية والغربية باسم Grand Ole Opry، ولما كانت المحطة ذات قدرة بث قوية تمكنها من تغطية قرابة ألف كيلومتر مساءً، استطاعت إيصال هذه الموسيقى إلى جمهور واسع سرعان ما افتتن بها، الأمر دفع شبكة NBC الإذاعية لنقل البرنامج الإذاعي الذي لعب تلك الموسيقى على مستوى وطني. نتيجةً لذلك أصبحت ناشفيل قبلة فناني الموسيقى الريفية والغربية من كتاب وعازفين ومغنين، ما انتهى باندماج النمطين أخيرًا تحت اسم الموسيقى الريفية والغربية Western & Country Music وبروز نجوم مثل هانك ويليامز صاحب التأثير الكبير على الجيل الأول من مغني الروك، حيث أعاد مغنون كإلفيس برسلي وجوني كاش تسجيل الكثير من أغانيه مثل: Hey Good Looking وI’m So Lonesome I Could Cry، وقد وصف برسلي الأغنية الأخيرة بأنها أحزن أغنية سمعها على الإطلاق، بينما أعاد كاش تسجيلها في ألبومه الأخير الأشد حزنًا وسوداويةً American IV: The Man Comes Around.

رغم كل ما عانته الموسيقى الريفية والغربية من تهميش مقارنةً بالموسيقى الرائجة، إلا أنها تعد محظوظةً مقارنة مع موسيقى الإيقاع والبلوز Rhythm & Blues Music التي ولدت في المجتمعات القروية ذات السكان من أصول أفريقية، وتشاركت المنشأ مع الموسيقى الرائجة من جاز نيو أورلينز. عرف هذا الصنف بكلمة  بلوز، مجازًا للكآبة والأسى، لغلبة الحزن على أغانيه، وأسلوب غنائي وآلاتي يعبران عن هذا الحزن، خصوصًا عند التطرق لقضايا الاضطهاد العنصري. مثال على ذلك أغنية Black and Blue التي يختصر عنوانها ما سبق، وقد ألفها فاتس والر لتؤدى في مسرحية على برودواي، ثم نالت شهرتها كأغنية بلوز مع أداءي إيثال واترز ولويس آرمسترونج.

في نفس الوقت ظهرت أغاني إيقاع بكلمات ذات إيحاءات جنسية واضحة، معظمها كانت تغنى في نوادي الرقص الريفية في قرى الأمريكان الأفارقة. ومثالًا على ذلك بعض أعمال راي تشارلز، كأغنية I’ve Got Woman التي قامت على تغيير كلمات أغنية It Must Be Jesus بطريقة إيحائية جامحة بالنسبة لعصرها، والأغنية الأيقونية What’d I Say التي منعت حين ظهورها من البث الإذاعي على المحطات المملوكة من البيض وذوي الأصول الأفريقية على السواء.

لم يسلم القلائل الذين حققوا بعض النجاح كنجوم الإيقاع والبلوز من الشائعات والأقاويل، مثل روبرت جونسون الذي تم تفسير أغنيتَيه الأبرز Crossroad وMe and The Devil Blues بأنهما قصة بيعه روحه للشيطان للحصول على موهبته. كان جونسون أحد أوائل المغنين الذين كتبوا أغانيهم بأنفسهم، كما ألهم عزفه على الجيتار أعظم عازفي الروك في الأجيال اللاحقة. أما مؤلفو البلوز الذين تمكنوا من النجاح في تلك الحقبة فمن أبرزهم كان دبليو سي هاندي، الذي تم تسجيل ألبوم كامل من أغانيه من قبل لويس أرمسترونج بعنوان Louis Armstrong Plays W.C. Handy، ومن أفضل أغانيه Aunt Hagar’s Blues.

رغم منع البلوز على البث وحظرها في بيوت الأمريكان البيض لأسباب عنصرية أو تحفظات تجاه الإيحاءات الجنسية، استمع إليها المراهقون البيض رغم الحظر، منجذبين إلى جرأة الكلمات والألحان، وهي العناصر التي مهدت لظهور الروك لاحقًا.


هذا المقال هو الأول ضمن سلسلة تاريخ الروك.

المزيـــد علــى معـــازف