.
صدر منذ فترة قصيرة ألبوم سوبرستركتشر للمصري حسن خان على صيغة أسطوانة قصيرة تحمل قطعتين، تغطي كلٌّ منهما وجه بكامله (قرابة ١٣ دقيقة). العمل تسجيلٌ حي لعرض إلكتروني قدمه خان في متحف اللوفر في باريس عام ٢٠١٢. شكّل الأداء الحي معالجة صوتية وموسيقية لتسجيلات مختلفة أعدت خصيصًا لهذا العمل، تضم المزمار البلدي، الفيولا والأكورديون والغناء، وأصوات مبرمجة إلكترونيًا، وأخرى مسجلة في القاهرة خلال عام ٢٠١٠ في إطار جلسات تسجيل موسيقى فيديو جوهرة. ذلك بالإضافة إلى الأصوات الإلكترونية المنتجة بتقنيات التغذية الخلفية Feedback والمزج Mixing والفلترة Filtering، والتي يجري من خلالها إصدار الأصوات الإلكترونية الخام لتُعالج موسيقيًا.
يركب خان عملًا يشتغل على عدة محاور فنية وتقنية. كما يظهر ذلك بتباينٍ عالٍ في كل من المقطوعتين، بدءًا من العمل على مستوى الصوت كالمادة الأساس في العمل الموسيقي – أي تحويل التغييرات في الصوت نفسه إلى أفكار موسيقية، مرورًا بمفهومي التكرار والتنويع وأثرهما في الحيز والزمن الموسيقيين للعمل، ثم انتهاءً إلى علاقة العمل بالموروث الموسيقي الشعبي في مصر، بشكل يتجاوز المحاكاة المبتذلة والاستشراق الذاتي. لا تشكل هذه النقاط مجرد تسلسل خطي لقراءة العمل، وبالتأكيد لا تنحصر مجمل جوانبه الفنية والتقنية بها، بل هي في الأساس عبارة عن مداخل لمناقشة العمل على عدة مستويات.
تشترك المقطوعتان في الألبوم بالكثير من التوجهات في التأليف والرؤية الفنية بشكل عام، لكن الاختلافات بينهما واضحة ومتباينة بشكلٍ عالي، وسرعان ما تأخذ تلك التباينات شكل التكامل إذا استوعب المستمع مجريات العمل ككل، في شكله ومضمونه ورؤيته. حيث تعتمد كلٌّ من المقطوعتين المعالجة الصوتية والموسيقية لأصوات آلاتية مسجّلة مسبقًا. ففي شورت ستوري، المعالجة مكثفة بما فيه الكفاية لاستخراج أصوات جديدة من تلك المسجّلة، دون المساس بالقدرة على تمييز الأصوات الأصلية (الوتريات على سبيل المثال) لدى المستمع. أما في سوبرستركتشر، فالمعالجة في أدنى مستوياتها، رغم كون الصوت الطاغي هو صوت الطبول المبرمج إلكترونيًا. يُظهر ذلك تمحور العمل ككل على العلاقات ما بين الأصوات المسجّلة (وبالتالي الأصوات الأصلية للآلات المختلفة) والأصوات المبتكرة والمصنعة عبر المعالجة البرمجية، ودور تلك العلاقات في تكوين عمل مركب يراوح ما بين الصوت والموسيقى.
في شورت ستوري تعتمد المعالجة الصوتية والموسيقى على التباينات في مستوى الصوت المركب من الآلات الوترية في الأساس، بالإضافة إلى الأصوات الجهيرة الإيقاعية، بحيث تتشكل عدة طبقات متداخلة من الأصوات المختلفة والمتكررة، ويصعب على المستمع تحديد أي منها يأتي في الخلفية وأيها في الواجهة، مع تداخلات لأصوات إيقاعية تتسرب بخفة من خارج عملية التكرار. تتباين بذلك كثافة الأصوات، من ناحية قوة الصوت من جهة، ومن ناحية السرعة من جهة أخرى. كما تحتوي المقطوعة على زمن موسيقي داخلي مبطن غير ذلك المسموع، وهذا ما يتّضح من تباين السرعات الإيقاعية لمختلف الآلات؛ فالآلات الوترية تكرر أنصاف جمل موسيقية بطيئة تأبى أن تكتمل بحد ذاتها، وكذلك الأصوات الإيقاعية المختلفة، التي لا تكمل دائرة إيقاعية واحدة تامة، بل هي عبارة عن تداخل في الإيقاعات.
أما في سوبرستركتشر فتشكل الأصوات الإيقاعية المبرمجة مادة العمل الرئيسية، منها الجهيرة والبطيئة والحادة السريعة، في مقابل معالجة صوتية أقل كثافة مقارنةً بالمقطوعة الأولى. تنتج التغييرات الحاصلة عن تداخلات الأنماط الإيقاعية المختلفة والبناء التصاعدي، بالإضافة إلى لحظات تفاجئنا بها الأصوات البشرية والتي هي عبارة عن غناء إيقاعي خال من الكلام – عوضًا عن كونه غناء لحني – مصحوب بتغييرات إلكترونية طفيفة في بعض الأصوات.
يوضح أسلوب عمل كهذا بالتحديد علاقة من نوع آخر مع الموروث الموسيقي الشعبي المصري. يتجاوز خان إظهار ذلك الموروث بصفته مادة استهلاكية سهلة – على مستوى الأصوات والآلات والإيقاعات، كما نرى في الكثير من الأعمال التي تأخذ من ذلك الموروث مادتها، والتي تظهر بالتالي كأعمال تجارية استشراقية أو ركيكة ومبتذلة في أغلب الأحوال. بدءًا من عناوين القطع وتصميم غلاف الألبوم للفنانة إنجي علي (التي قامت بتصميم لوحة خاصة بكل من القطعتَين)، إلى شكل ومضمون القطعتَين، ينجح خان في خلق عمل يعيد الاعتبار إلى صوت تلك الموسيقى، بمعنى المادة الحسية الأساسية التي تقوم عليها؛ وكأنه يؤكد على أن تلك الموسيقى لا تحصل كتجربة موسيقية فحسب، بل وصوتية قبل كل شيء، في فضاء مثير للتساؤلات (وهذا ما يمكن أن تدل عليه عناوين القطعتين على سبيل المثال)، فكيف تُسمع هذه الموسيقى في العام ٢٠١٩؟ وكيف تُسمع من هذا الموقع أو ذاك؟ وكيف تُسمع كظاهرة اجتماعية أو ثقافية؟ هذه تساؤلات مفترضة بالطبع، لكن التساؤلات التي يثيرها هذا العمل أكثر بكثير.