في صغري كنت أقضي الصيف في بيت جدي في البيّاضة بحلب القديمة. كل ليلة جمعة يأخذني جدي، المتصوّف القديم، إلى مجلس الذكر الأسبوعي في جامع الكلتاوية الشهير. منذ بداية الستينيّات حتى وفاته في منتصف السبعينيّات، كان الشيخ محمد النبهان أهم شيوخ التصوّف في حلب، بنى خلالها ما يشبه إمارته الصوفيّة الصغيرة في جبل الكلتاوية في حلب. قبله كان المكان تلّة صغيرة مهجورة ومهدّمة، لكن السياسي الحلبي ورئيس الوزراء معروف الدواليبي أسكنه فيها، وصار فيما بعد مرجعًا روحيًا لشمال سوريا وشرقها، بالإضافة إلى بعض مناطق العراق.
تناوب عدة منشدين إحياء الحضرات ومجالس الذكر في الكلتاوية، لكن أحبّهم إلي محي الدين الأحمد ابن ريف حلب الشرقي بلكنته الفراتيّة الواضحة، واحتفاظه بطريقة الترجيع الحزينة مع الدف – وهو ملمح لا نسمعه كثيرًا عند منشدي حلب الآخرين. بعد انتهاء الذكر يعقد مجلس صغير في إحدى الحجرات الجانبية في الجامع ينشدون وهم قيام نوبتهم الخاصّة، ويقومون مترنمين بشكل يحافظ على الإيقاع مستمرًا بدون كلمات ولا آلات. كان الترنّم يمسك بالإيقاع بشدّة، بحيث لا تستطيع أبدًا أن تفلت من سحره. إلى الآن، وبعد كل هذا الوقت، لا يزال ذلك الإيقاع في رأسي كطنين نحلة.
تدخل إليه من بابين أولهما باب المحمص الذي تصعده بدرجات قليلة، والآخر تدخله عبر بهو طويل معتم، ثم تنفتح أمامك باحة الجامع وحوض الوضوء والأشجار العالية التي تحيط بساحة جامع العادلية، الذي كنت كلّما دخلته أرى أطفالًا يتضاحكون ويلعبون في الساحة.
كانت السبعينيّات عصر الجامع الذهبي مع الشيخ عبد القادر عيسى ومنشديه الكبار أديب الدايخ وأبو الجود وصبري مدلّل وحسن حفّار. لكن المنشد الأكثر التصاقًا بالجامع هو ياسين العلاف، فبالإضافة للصوت الجميل، كان فقيهًا قادرًا على الفتاوى والحديث مطولًا في الرقائق الصوفيّة.
في قبلة جامع الكريميّة في باب قنسرين ثمّة أثر قدم معلّق على الحائط وفوقه سبيل ماء. تصب الماء فيجري على الأثر ثم تصبّه في الكأس وتشرب. القدم قدم النبي والأثر أثره كما يؤكّد الحلبيّة. في الكريميّة، ينشد منذر سرميني بشكل دوري. يمكن اعتبار تجربة سرميني أنّها متميّزة، فأشرطته كانت في فترة ما متداولة بشكل سرّي بن ناشطي الإسلام السياسي في السبعينيّات والثمانينيّات. لكنّه حين ينشد تائيّة ابن الفارض تنسى السياسة والإسلام وتذكر ناظم الغزالي بالذات.
كان يلفتني بشكل شخصي في حلب ضعف العدة الدينيّة لمشايخ التصوّف عمومًا، فمجمل كلامهم مكرّر ومفكّك وتبسيطي للغاية. لكن الإنشاد يختلف، فهو الغراء الذي يضم الجماعة حول الشيخ ويمنح بركاته لكل من حضر المجلس وسمع الإنشاد. إذ تسير الحضرة بحسب جدول مألوف: كلام قليل للشيخ، ثم إنشاد كثير بشكل جماعي وفردي، ويتحرّك الشيخ بين الواقفين مغمض العين أحيانًا ومبتسمًا أحيانًا، لكنّه يتحرّك بشكل عادل بين جانبي الحضرة ليقدم عرقه بديلًا عن علمه.
رغم كل جماليّات الإنشاد الديني يقع في مشكلة لم يستطع تجاوزها بعد، فهو يفقد بهجته ويصبح تقليدًا مكرّرًا ومثيرًا للملل أحيانًا بسبب تمسّكه بالقوالب الدينيّة والموسيقيّة المعتادة ذاتها. حاول البعض تغيير هذه النمطية ونجحوا أو فشلوا بدرجات متفاوتة. فقدّم حسن حفار مع أستاذه صبري مدلّل حفلات موسيقيّة خارج الجو الديني، لكنه سرعان ما عاد إلى مكانه الأساسي. غيّر الأخوة أبو شعر أيضًا وبدلوا وقدموا نصوصًا جديدة، لكن غلبة الطابع التجاري والاستعراضي وضع القيمة الفنية لعملهم في مكان جدليّ.
قضية الخلافة مهمة في الطرق الصوفيّة بما تعنيه من مكانة معنويّة ودينيّة. لكن حين مات شيخ الطريقة الشاذليّة عبد القادر عيسى منفيًا في تركيا لم يعين خليفة له، في الواقع عين ثلاث أو أربعة خلفاء وربما أكثر، لست متاكدًا. واحد منهم في عينتاب بتركيا، والآخر في الأردن والثالث في المدينة، والرابع والخامس في حلب. لكن مع ذلك كان خلفاؤه الاثنين في حلب يحضران بشكل متقطع جلسة الإنشاد التي يقيمها حسن الحفار في جامع السلطانية عند مدخل القلعة، والذي كان وحده محل إجماع. لكن في مرة حضر إلى حلب المنشد المغربي عبد السلام الحسني، بعد دقائق بدأ المشايخ بالبكاء.
في جامع الروضة اجتمع أفضل منشدي حلب في عقد السبعينيّات بالذات، كانت تلك فترة التألق لهم جميعًا بأصواتهم التي في عزها والاندفاعة الدينيّة المتزايدة في حلب. كان الجامع الحديث في حي الموكامبو الراقي مركز تجمع ديني ودروس وحلقات ذكر، بحيث امتزج التدين الصوفي بالحركية الأخوانيّة، حيث كان صباح فخري مؤذّنًا للجامع في أول طلعته في الأربعينيّات. آنذاك، في السبعينيّات، كان منشد الأخوان شبه الرسمي أبو الجود (منذر سرميني) مؤذّنًا، وعمل أديب الدايخ كمؤذن في الثمانينيّات، وفي التسعينيّات عاد أبو الجود.
ربّما يوحي هذا التعاقب بتعاقب المزاج في حلب: فصباح فخري الذاهب من الإنشاد الديني إلى الغناء ثم بعد ذلك حضور الحركية الإخوانيّة عبر أبي الجود. فيما بعد عقد الثمانينيّات الكابوسي، وأديب الدايخ وإخلاصه للصوت وحده بعيدًا عن أي تشدد ديني أو تساهل. ثم بداية إطلالات الصحوة الدينيّة مجددًا عبر عودة أبي الجود. الآن ربما يليق بالفترة أن يؤذّن في الجامع الأنيق الرادود باسم الكربلائي أو منشد من منشدي جبهة النصرة السعوديين.
تسجيلات جامع الروضة مبثوثة في دهاليز الإنترنت هنا وهناك، لكن المجموعة الأكمل كانت في منتدى زرياب حيث سمعتُ الحفار وصبري مدلل وهما ينشدان ويضحكان، وأمين الترمذي بصوته الحاد الشجي يغني: “أنا والكاس والحبيب والراح جمعنا الهوى، من معاني لم يدرها يا صاح إلا من ارتوى”. لكن المنتدى أغلق وضاعت تلك التسجيلات لأن ابنة فيروز رفعت دعوى ضده خوفًا على حقوق والدتها الفنية. كان صاحب مكتبة حامد عجان الحديد في خان الحرير- أقدم مكتبة في حلب حسب علمي، ناشرًا مهتمًا بالتراث والمخطوطات، ونشر الكثير من الأعمال الجيدة. عندما تزوّجت كنت مفلسًا تقريبًا، فقررت أن أبيع مكتبتي، وعرضتها على أولاده فوافقوا على شرائها. من بين تلك الكتب كانت مجموعة فتاوى ابن تيمية الضخمة في ٣٧ مجلد، حاولت أن أتذاكى عليه وأخبئ مجلدي التصوف والسلوك، لكنه كان ابن الصنعة : “إمّا المجموعة كاملة أو لا صفقة”، بعتها كلها ومضيت أشرب كأسي.
الآن، سقط أعلى مئذنة جامع الكلتاوية في تمرين على القنص المدفعي كما يبدو، وفُجّرت مئذنة الجامع الكبير من أساساتها، وهُدم أثر القدم في جامع الكريميّة، وأحرقت الأسواق القديمة ومكتبات باب النصر، وانصرم الزمان القديم تمامًا، ولم يبق منه إلا سواد الحرائق هنا وهناك والبياض الذي تشعله الذكريات في الرأس.