fbpx .
بحث | نقد | رأي

عصر العوالم | مؤسسة آمار

ياسر عبد الله ۲۰۱۸/۰٤/۱۳

“كيف كان فن النساء قبل أن تتمكن الحداثة من طمس الحدود الفاصلة بين الحصيلتين النسائية والرجالية وبين الطرب الفصيح والمغنى الشعبي؟” يتساءل فريدريك ﻻغرانج ومصطفى سعيد في الكتيب المرفق بالإصدار السابع لمؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية AMAR foundation، ويتتبعان تسمية العالمة منذ ظهورها تاريخيًا في زمن المماليك، عند ابن تغري بردي في حديثه عن اتفاق العوادة مولاة الملك اﻷشرف محمد بن قلاوون، وابن إياس الحنفي في حديثه عن وفاة عزيزة بنت السطحي، فريدة عصرها في النشيد. يؤصل الباحثان للتسمية التي جاءت نسبة لعلمهن (المغنيات) بأصول الغناء والطرب، ثم تحريف التسمية الشائع والخلط بين العالمة والغازية الذي بدأ على يد الخيال الاستشراقي، ثم امتد ليشمل كل الخيال العام، خاصة بعد تكريس هذا الوصف في أفلام حسن الإمام وحقبة الستينات في مصر.

الإصدار الجديد يضم أربع أسطوانات مدمجة  CDs ما بين الحصيلة العوالمية من طقاطيق خفيفة وبين الحصيلة الراقية من الأدوار والقصائد، موزعة بين ١٥ صوتًا نسائيًا عبر حوالي عقدين من الزمان، من أقدم التسجيلات وهي أسطوانة شمعية – كوباية حسب التسمية الشائعة – سجلتها شركة أديسون لبهية المحلاوية، إلى أحدثها وهي تسجيلات بيضافون في العام السابق على الحرب العالمية اﻷولى مباشرة.

يصف الباحثان كيف أصبحت تسمية عالمة تُطلق مع بداية القرن العشرين على المغنيات البلديات، في حين نجحت الفنانات المحترفات في فرض تسمية مطربة. ﻻ تنسب العالمة بالضرورة لبلد مولدها بل تنسب لبلد شهرتها وذيوع صيتها، حسبما يذكر مصطفى سعيد نقلًا عن أحاديث شفهية، “فالست صابحة المنصورية إنما اشتهرت في المنصورة وهي من بسيون، وبسيون عند المطربات في غاية اﻷهمية حتى أن شكلًا من أشكال اﻷعراس عندهم يعرف بالغناء البسيني نسبة لبسيون.”

 المصادر التي تعرض لها الباحثان موزعة بين حكايات مستشرقين وأدباء، مثل توفيق الحكيم الذي خص العوالم بقصة قصيرة، ومقالات متناثرة وحكايات متناقلة شفهيًا. قضية امتحان المصادر واحدة من قضايا البحث في العوالم وزمنهن، هناك أيضًا مسألة التفرقة النوعية (الجندرية) والحدود الفاصلة بين النساء والرجال قبل زمن الاختلاط، التي فرضت تختًا نسائيًا عوالميًا يضم أكثر من آلة إيقاع على عكس التخت الرجالي الذي يضم آلة إيقاع وحيدة هي الرق، ثم نقض ذلك عند تسجيل القطع لدى شركات التسجيلات والاختلاط بين تخت نسائي وتخت رجالي ومذهبجية نساء ورجال، كما يبدو خصوصًا عند الست أسما الكمسارية “ويلاحظ في بعض اﻷدوار وجود تجاوب بين الجوقتين، الذكور والإناث، وخاصة في أقسام الهنك.” هناك كذلك التأصيل اللغوي في تحقيق أصل كلمة طقطوقة غير المستعملة خارج وادي النيل، ويذكر الباحثان قربها من تسمية دقاقة أو طقاقة الدالة على المغنيات المحترفات في بعض مناطق الشام والعراق ومنطقة الخليج العربي.

يركّز الإصدار على طقاطيق العوالم في صورتها الأولى، قبل تنميط شركات التسجيلات لها فيما يمكن تسميته طقطوقة الأسطوانات التي تتكون من مذهب ومجموعة أغصان يمكن تصنيفها في خانات ثلاث: خليعة واجتماعية وعاطفية. “الطقطوقة العاطفية هي التي سيطالها تطورٌ آخر في أواخر العشرينات إذ يصبح اللحن مختلفًا في كل غصن، وسيؤدي في آخر المطاف الي اختراع اﻷغنية المصرية في صيغتها التي شاعت في الثلث الثاني من القرن العشرين.”

يتعرض الباحثان في الكتيب لمسألة الخلاعة، إحدى الظواهر التي تتهم العوالم بالانحلال الخلقي، ويعزيان “الصور الشبقية والإيحاءات الجنسية في الطقاطيق” لدور تربوي “بحيث أن العالمة المتحررة اللسان تتفوه بما قد تخجل من المصارحة به أم العروس كتهيئة ﻻبنتها قبل ليلة الدُخلة، لكن حين أخذت العوالم يغنين مثل هذه النصوص أمام جمهور من الذكور في صالات المسارح تحولت وظيفة الإيحاءات الجنسية من دور تربوي إلى إثارة صريحة”، اﻻتهام الذي لصق بهذه الحصيلة العوالمية من طقاطيق الأعراس ووصم العوالم وربطهن بعالم المواخير.

تتنوع القطع المسجلة في إصدار العوالم ما بين الطقاطيق، الحصيلة النسائية الخفيفة، واﻷدوار والقصائد، الحصيلة الراقية التي اختص بها المطربون من المشايخ واﻷفندية. تضم الأسطوانة اﻷولى تسجيلات بهية المحلاوية، ما بين طقطوقة شعبية وأغاني زفة وقصيدة واحدة، وتضم كذلك تسجيلات لأمينة العراقية ما بين طقطوقة راقية على الحدود الفاصلة ما بين الدور البدائي والطقطوقة، مثل في العشق قضيت زماني – التي ذكرها توفيق الحكيم في قصة العوالم عند الحديث عن أمينة شخلع – وطقطوقة تلعب على الحدود الفاصلة بين الطقطوقة المصرية والقد الحلبي وهي يا طيرة طيري، “كان على العالمة في زمنها حفظ الحصيلتين المصرية والشامية” كما يشير الباحثان في الكتيب، وأغاني أعراس وأغنية لتهنين الولد.

الاسطوانة الثانية مخصصة لطقاطيق عوالمية موزعة بين أصوات نسائية، بعضهن شهيرات مثل منيرة المهدية وحسيبة موشيه وبدرية سعادة، وبعضهن مجهولات خارج دوائر اﻻختصاص مثل نظيرة الفرنساوية وعائشة ندا وفايقة حلمي ونزهة وفريدة الاسكندرانية، والثالثة مخصصة للست أسما الكمسارية وقطع من الحصيلة الراقية الفصيحة وهي اﻷدوار، مثل اﻷسطوانة الرابعة التي تضم أصوات فاطمة البقالة وحسيبة موشيه وبمبا العوادة وطيرة حكيم وسيدة السويسية وبدرية سعادة ومنيرة المهدية.

ﻻ يخلو الإصدار من مفاجآت، منها قصيدة طيف الخيال بصوت بهية المحلاوية، العالمة الشهيرة التي اعتاد السميعة عليها في طقاطيق خفيفة متحررة، التي تغني “والنبي يمة / عرضك يمة / قولي ﻷبويا / يديني ريال / أروح به الحمام / زي النسوان / ﻷجيب مسمار / واخرق نفسي”، نستمع لها في قصيدة صوفية الطابع هي طيف الخيال، بنهج “يقترب كثيرًا من فكرة التصاعد النغمي الموجود في حلقات الذكر.” فتبدأ بهية “باليكاه ثم الدوكاه ثم السيكاه على نغمات راست ثم بياتي ثم عراق ومن ثم تنتقل للمقامات المولدة البلدي من عشاق وصبا وحجاز وتختم من حيث بدأت” حسب وصف الكتيب، وتبدو القصيدة ملحنة سابقًا باستخدام دولاب العوازل “آه يانا وإيش للعواذل عندنا” وليست مرتجلة بالكامل. لم يتحرر التسجيل من طابع الست بهية، رغم أدائها المُطرب المتقن، فنسمع في بداية الاسطوانة “من فضلك يا ست بهية قولي لنا القصيدة وحياة أبوكي” ونسمع في منتصفها عند امتلاء الوجه اﻷول للأسطوانة “الله الله يا ست بهية تمي القصيدة يا روحي”، ويختتم التسجيل بتقسيم قصير من عازف القانون عبد العزيز القباني الذي تطيّب ست بهية له “يا عيني يا سي عبد العزيز يا روحي.”

المفاجأة اﻷخرى تسجيل لطيرة حكيم التي صاحبت أبو خليل القباني في رحلته إلى شيكاغو عام ١٨٩٣، أشبه ما يكون بوصلة كاملة مكونة من دوﻻب عشاق عربي وموشح تعال يا خيال ودور أنا من هجرك وليالي راست، وأداؤها متقن مُطرب دال على فنها، يزيح التراب، مثل كامل الإصدار، عن العوالم وعوالمهن المظلومة بكليشيهات تخلط بين شذرات الحقيقة المنقوصة وشطحات الخيال الجامح.

المزيـــد علــى معـــازف