.
عندما انتقل علي حسن كوبان إلى القاهرة في الأربعينيات، كان لديه ماضٍ مشترك مع الموسيقى النوبية، وكان الاثنان، هو والموسيقى، بحاجة أحدهما الآخر لخلق حاضر مشترك أيضًا. فبينما بدأت الموسيقى النوبية منذ الثلاثينات بالتخفف بحذر من عقود من العزلة عن مختلف المجالات السمعية والمعرفية المجاورة، بعد أن كانت قد فضلت مراعاة نوعٍ من النقاء الهوياتي الخاص بالإقليم، كان كوبان بدوره قد انتقل إلى القاهرة للدراسة، طامحًا بأن يكون أكثر من مجرد ابن أقلية إثنية لا تزال تتعرف على المدينة الكبيرة وفرصها ومحاذيرها.
ولد كوبان في قرية جورتة لعائلة ماتوكية [1] (كنزية) عام ١٩٢٩، وقضى سنواته المبكرة متنقلًا بين قرى النوبة القديمة، حيث امتلك والده مركب بقالة صغير يتنقل بين القرى المتناثرة على نهر النيل، ليبيع الأرز والسكر والشاي والزيت لهذه المناطق المعزولة عن منافذ التجارة التقليدية. أخذ علي بمساعدة والده خلال العطلات في هذه الرحلة، والتي عادةً ما تستغرق أسبوعًا بين القرى المختلفة، أمضى معظمها في الغناء لتقضية الوقت، وبدأ حينذاك بالتعلق والولع بالإيقاعات البسيطة والتقنيات المختلفة للغناء النوبي.
حتى ذلك الوقت، وكأكثر الموسيقات الإثنية، لم تعرف الموسيقى النوبية أي محاولة للتدوين تقريبًا، واعتمدت على نوعٍ من التناقل الشفهي كممارسة يومية مألوفة – فيما يعرف بالمسلي – لترديد الأغاني التراثية القديمة أثناء العمل، وقد ساهم ذلك في خلق صورة من التنوع الإيقاعي في الموسيقى بشكل مواتٍ لوتيرة الفعل والسياقات المصاحبة لها[2]. فيما اعتُبرت الأفراح الوسيلة الأبرز لخلق مشهد فني مستقل عن البُعد الطقوسي للممارسة الموسيقية، ووُجِدَت فيها التقاليد الشكلية المستقرة للبنية الموسيقية النوبية. هكذا، ولفترات طويلة، سادت حالة من الركود على الموسيقى النوبية.
كان ذلك حتى مرحلة التهجير النوبي الثالث في بدايات الثلاثينيات، والتي كانت بمثابة حدث مفصلي في تاريخ النوبة وموسيقاتها لحد كبير، وفي حياة كوبان نفسه. شهدت هذه المرحلة الهجرات الجماعية المنتظمة للنوبين إلى شتى المدن المصرية الأخرى، خاصةً القاهرة والإسكندرية، ونتج عنها مجتمعات هجينة على قدرٍ أكبر من الاستعداد لتقبل التغيير الموسيقي بدرجات معينة.
شبَّ كوبان في تلك الفترة المرتبكة من تاريخ الموسيقى النوبية، إذ تزامن انتقاله إلى القاهرة في منتصف الأربعينيات مع تأسيس العديد من الروابط والجمعيات الخاصة بالجالية النوبية في القاهرة، كالنادي النوبي العام ونادي اتحاد الكنوز، والتي قامت بطبيعة الحال بالعمل على إنشاء الفرق الموسيقية والإعداد للنشاطات الفنية لمواكبة هذه الحياة الجديدة. انخرط علي كوبان آنذاك بالعديد من هذه النشاطات، سواءً كمغني متقن للألحان النوبية والأغاني الفلكلورية على السلم الخماسي الصارم، وإن لم يتمتع بتلك المساحة الصوتية الاستعراضية المحبذة لدى النوبيين، أو كعازف للكلارينيت الذي تعلمه في نادي الكشافة النوبية، والذي يبدو أنه السبب المباشر لتأثره بالأصناف الموسيقية الغربية لاحقًا.
مع بدايات الخمسينات، فيما كان يبدو أن المهاجرين النوبيين على وشك الاستقرار النهائي في مجتمعاتهم الجديدة في القاهرة، كانت الأزمة الرئيسية تتمثل في عدم موائمة هذه المجتمعات الجديدة لاستيعاب العادات والممارسات النوبية، والتي تشكل جزءًا أصيلًا وحقيقيًا من هوية هذه الشخصية وفهمها لذاتها. فشرع البعض بالتفكير بحسٍ استعادي لهذه الممارسات الطقوسية المعتادة، لكن بتصور أخر يلائم الوضع الجديد ويقوى على التكيف معه. بالطبع، مثلت الأفراح جانبًا هامًا من هذه الطقوس المفقودة، وفي محاولة لاستعادتها، ظهرت الفرق الشعبية النوبية في المحافظات لإحياء مثل هذه المناسبات وتعويض غياب المجال الأدائي للشباب النوبي في تلك المناطق، فكانت فرقة شمس حسين في القاهرة وفرقة عبد الرزاق راشد في الاسكندرية مضطلعة بذلك الدور، وإن ظلت في المقابل على هامش المشهد الفني خارج تلك الدوائر.
انتهز علي كوبان تلك الفرصة السانحة بعقلية تجارية واعية، فقام بتأسيس فرقته الخاصة بعدد من العازفين النوبيين المميزين من الكنوز والفاديكا والعرب على السواء، وإن أدرك أن المجال المتاح أكثر اتساعًا من مجرد إحياء الأفراح النوبية فقط، رغم أن الذائقة العامة لن تتقبل دخول الموسيقى النوبية الخالصة في متن صناعة الموسيقى بمنتهى السهولة. كان كوبان في ذلك الوقت متأثرًا بشكلٍ كبير بالموسيقى الغربية، بخاصة السول والبلوز التي كانت تشهد ازدهارًا كبيرًا خلال تلك الفترة، وإن كان أيضًا مطلعًا على الموسيقات الأفريقية الأخرى في إثيوبيا والسودان، يظهر ذلك في استعانته أحيانًا بالبونجز الأفريقي ذو الطبلات الثلاثة وتأثره ببعض الأنماط والمغنين الأثيوبيين كأرجوا بيداسو على مستوى اللحن والتوزيع. كان قراره الأكثر ثورية هو إدماج الآلات النحاسية كالترومبيت والساكسفون لأول مرة في البنية التقليدية للموسيقى النوبية، بفضل تأثره بما سمعه من فرقة جاز من هارلم في نادي الجزيرة بالقاهرة، حيث أسرته تركيبة الترومبون، الساكسفون، الكلارينيت، الجيتار والدرَمز، وأراد التجريب مع هذه التركيبة بنفسه.
حقق ذلك المزيج الجديد نجاحًا وانتشارًا هائلًا في الأوساط النوبية وخارجها، الأمر الذي حدا بفرقة علي كوبان إلى اعتبارها الممثل الأبرز للفقرة الفلكلورية النوبية في الاحتفالات والاستعراضات الرسمية، وأصبح مكتب كوبان في منطقة عابدين قبلة الشباب النوبي للدخول إلى عالم الموسيقى الجديد، فاستحوذ بذلك على أفضل العازفين على كل الآلات، وأجود الأصوات أيضًا. كان دور كوبان إداريًا بالأساس في تنظيم شئون الفرقة وارتباطتها، إلى جانب كونه عازفًا للكلارينيت وملحنًا لأغاني الفرقة في بعض الأحيان.
إلى جانب الانتشار الكبير الذي أنجزته فرقة علي كوبان بموسيقاها الجديدة في إحياء وتنشيط العديد من الأفراح والمناسبات المختلفة، حتى أنها قد وصلت في بعض الأحيان لتشكيل فرقة احتياطية بديلة لإحياء الأفراح الأقل شأنًا في حال تعارض المواعيد، فقد فرض علي كوبان أيضًا بصنفه الموسيقي الجديد مساحة مقبولة للفن النوبي في دوائر الصناعة والإنتاج الموسيقي باعتباره صنفًا يمكن الرهان عليه تجاريًا خارج مساحات نفوذه الطبيعية. بالإضافة إلى علي كوبان نفسه، والذي بدأ الغناء بصوته في تسجيلات الاستوديو، وهو أمر لم يألفه في الحفلات الحية، فقد ظهر أيضًا مصطفى سلوم وحسن جزولي وحسين بشير والبحر أبو جريشة وحسن الصغير كنتيجة لنجاح علي كوبان بتلك الفترة.
سعى كوبان، علاوةً على ما سبق، إلى بسط هيمنته ونفوذه في السوق النوبي عبر ترك أثره الخاص على أغلب النتاجات الموسيقية النوبية في تلك الفترة، فغنى بكافة اللهجات النوبية، الماتوكية والفاديكية والعربية العقيلية، كما ساهم بالتلحين والتوزيع للكثير من المطربين آنذاك، كتوزيعه لأغنية دنيا أشري للمطرب الفاديكي الكبير خضر العطار، والتي تم استعادتها فيما بعد من قبل فرقة البلابل السودانية الشهيرة، واشتراك كوبان أيضًا بالتلحين لمحمد منير أيضًا في أغنية أجمل حكاية، عبر استخدام اللحن الأصلي لأغنيته ايرصندليرية.
حرص كوبان خلال كل ذلك على الحفاظ قدر الإمكان على موقع متوازن من القضية النوبية وعلاقتها المضطربة بالسلطة، فاتخذت الموسيقى الكوبانية نهجًا تحريضيًا إلى حدٍ ما، عبر التغني بثيمات الغربة والمظلومية وحلم العودة، وإن لم يتم ذلك من موقعٍ نضالي كما فعل بعض الموسيقيين الآخرين الذين اشتبكوا بالقضية عبر الاصطدام المباشر بالسلطة مثل خضر العطار وأحمد منيب ومحمد حمام. على الجانب الأخر، لم يتنكر كوبان للقضية أيضًا، إذ لا يمكن الادعاء بأنه كان قريبًا من السلطة على أي حال. كما كان ملتزمًا بتصدير نفسه كفنان نوبي يُعبر عن همٍ مشترك للنوبين، وإن فرضت المواءمات التجارية حدودًا صارمة على هذه التوجهات، فلم يتقيد بجانب الحياد كموجة الموسيقيين النوبيين بالثمانينات، بل أفصح عن كونه يتعرض للتهميش الإعلامي في مصر لمجرد أنه نوبي.
لم يشكِّل التهميش الإعلامي مشكلةً طويلة الأمد لـ علي كوبان وفرقته على كل حال، إذ تم اختياره للمشاركة في العديد من المهرجانات الدولية في ألمانيا وفرنسا كممثل للفلكلور النوبي، ونجح بدهاء في اقتناص ذلك الكليشية الثقافي، واستثمار الخيالات الإكزوتيكية للأجانب عن أغلب الموسيقات الإثنية، ليحقق نجاحًا واسعًا في الخارج، ويحظى بحيز جيد من التقدير النقدي لموسيقاه، وإن تم قولبتها تبعًا للتصنيفات المعتمدة حينذاك.
وضعت تجربة علي كوبان الموسيقى النوبية في قالب مختلف، كفضاء للتجريب والابتكار خارج الحدود المعتادة لها، فاستخدامه لثيمات معاصرة كمواضيع للغناء خارج قيود الحنين للعالم المفقود باعتبارها أكثر ملائمة لظروف الصناعة، أو حتى استغلاله وتوظيفه للتراث بشكل أكثر جاذبية بحيث يمكن للعامة تقبله بسهولة، أو تحريره لهذه الموسيقى من حدود الإيقاعات اللغوية المغلقة نحو صورة أكثر لحنية، غير مرتبطة بالهوية العرقية بشكل رئيسي – كانت كافة جهوده شديدة التأثير في خلق موقع حقيقي للموسيقى النوبية في الذهنية العامة بشكلٍ ملفت ولوقتٍ طويل.
[1] تألف القطاع المصري من إقليم النوبة وشكل رئيسي من قبائل الماتوكي في الشمال والفاديكا في الجنوب، ذلك قبل دخول العرب للأقليم، ثم بعد دخول العرب إلى مصر وارتحالهم إلى الجنوب، اختلطوا بقبائل البجا الكوشية والماتوكي النوبية واستقروا في تلك المناطق حتى تأسست دولة بني كنز في عهد الدولة الفاطمية، نسبةً إلى أبي المكارم هبة الله المعروف بكنز الدولة، فعرفت قبائل الماتوكي منذ ذلك الحين باسم الكنوز، إلى جانب التأثر في لهجتهم وعاداتهم بمخالطة العرب نتج عنه نوع من التناحر الهوياتي بين القبائل النوبية.
[2] الواقع أن الثقافة النوبية في أغلبها لم تعرف التدوين كممارسة منتظمة سوى في فترات متأخرة من دخول المسيحية إلى الإقليم، ما ساهم في تكريس حالة الانغلاق الثقافي بحصر احتمالات الحقيقة فقط على تلك المجموعات التي تتقن الرطن بالنوبية، ولم تدفع هذه الحالة بالموسيقى نحو أي تطور فعلي لأزمان طويلة سوى عبر طفرات نادرة وطفيفة، كما عند دخول العرب واختلاطهم بالكنوز في شمال الإقليم مثلًا، الأمر الذي أضفى ربما حسًا طربيًا على الأسلوبية النوبية في الغناء، فيما احتفظت الموسيقى الفاديكية في المقابل بأصالتها بعيدًا عن التأثيرات الأجنبية لفترات زمنية أطول نسبيًا، لانعزالهم الجغرافي في جنوب النوبة.