.
في سورية، أطلق سميح شقير أول صوت للثورة. كانت المعادلة واضحة: الهتاف مصدر الثورة ومغذّيها. إذ قضت ظاهرة ابراهيم قاشوش على مرحلة كاملة من الموسيقى البديلة التي انتهى دورها مع بدايتها، حيث المواربة السياسيّة لم تكن كافية.
لأن الأغاني عن الحريّة مُقدسة في الشوارع السوريّة، يغنيها الرجال حين يحملون توابيت إخوتهم في الطريق إلى المقابر، ويغنونها في ساحات الحريّة كل ليلة، وحتى وصلت إلى مآذن المدن الثائرة.
في درعا، يجلس آلاف الرجال في إحدى ساحات قرى المدينة، ويغنون جميعاً: “يا حيف” للفنان سميح شقير، مثل آلاف السوريين الذين غنّوها وهم يبكون ويضحكون في الشوارع والساحات أثناء خروجهم بمظاهرات ثورتهم.
وفي الشوارع ذاتها، بعد تفريق مستمعين “يا حيف“، تمرّ سيارات تبثّ بصوت عالي أغنية “حماك الله يا أسد” للفنانة أصالة نصري التي وقفت مع المتظاهرين في تصريحاتها الأخيرة، ووصفتهم بالثّوار، وتمنّت أن تكون معهم: “ليتني معكم لأصرخ “حرية” بكل صوتي، ولو كانت تلك آخر كلمة سأنطق بها، ليتني معكم لأنادي الله بنفس يختزل كل إيماني، علّنا نخترق بأصواتنا أسماعهم فيخافون“.
بعد تصريحات أصالة، قد يتوقف من يفرقون المظاهرات بالهراوات عن نشر أغانيها الممجدة للرئيس الراحل حافظ الأسد، ووريثه الرئيس الحالي بشار الأسد، لأن هناك عشرات الأغاني الأخرى التي تفي بالغرض.
فمنذ ثمانينيّات القرن العشرين إلى اليوم، ارتبطت الأغاني الوطنية بشخص الأسد، وعملت إذاعة دمشق مع التلفزيون السوري، على ربطها بالمناسبات، مجرّدان إياها من معانيها، حتى تحوّلت اليوم الأغنية الوطنية إلى تجارية غنّاها مطربون سوريون وعرب كُثر، كأصالة نصري وجورج وسّوف، ونجوى كرم، وفارس كرم.
لكن “يا حيف” تكاد تغيّر المعادلة، على يد سميح شقير الذي لحّن وغنّى أكثر من 200 أغنية وطنية منذ أولى حفلاته عام 1982، رغم أن “المغني الوطني عارياً في الريح بلا حائط يستند إليه، فمن الممكن جداً أن يمنع من الذهاب إلى أي بقعة من الوطن العربي بسبب وجهة نظره الغنائية“، بحسب تصريح سابق له.
شقير الذي يعيش الآن في باريس، للعلاج، وربما للابتعاد عن ضغوطات قد تطاله في سورية، لم يُدعَ أبداً إلى أي مهرجان سوريّ، لأن المنظمين يبحثون عن نجوم مألوفين يسلّون ويرقّصون الجمهور.
لسميح وقفة فنية عند سقوط بن علي في تونس، وهي تحيّة إلى الشعب التونسي، يعرض فيها لقطات مهمة من ثورة الياسمين: “يا شبابك نزلوا الشارع قالوا لا للديكتاتور/ هربت تماسيح مبارح وانقرض الديناصور/ مِن لمّا الثورة قامت، وكتار اللي خافوا، وارتجفوا، واهتزوا ويستنّوا (ينتظرون): مين اللي عليه الدور؟“.
ووقف شقير أيضاً إلى جانب ثورة مصر، قبل رحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك، مستوحياً أغنيته مِن إرث المناضلان: الشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم. وأدخل في ختامها النشيد الوطني المصري كتحية للسيد درويش.
أما الثورة السورية، أهداها أغنيته التي تعرض مأساة مدينة درعا المحاصرة الآن، والتي قُتل فيها المئات لمطالبتهم بالحريّة: “يا حيف/ زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف/ وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟/ كيف؟ وإنت ابن بلادي/ وتقتل ولادي/ وضهرك للعادي/ وعليّ هاجم بالسيف/ وهادا اللي صاير يا حيف/ وبدرعا ويا يمّا ويا حيف“.
أغنية شقير أعادت السوريين إلى أولى الأغنيات الوطنية في بلدهم “زيّنوا المرجة والمرجة لينا” المطالبة بتوسيع ساحة (المرجة)، لتستقبل مزيداً من الشهداء بعد إعدام العثمانيين الثوار فيها عام 1916. وإلى أغنية “يا ظلام السجن خيّم” التي كتبها ولحّنها الصحافي نجيب الريس عندما كان سجيناً في أرواد عام 1922، لتمثّل حركة المقاومة الوطنية خلال الانتداب الفرنسي.
بعيداً عن شجن أغنية شقير، خرجت أغاني أخرى لدعم الثورة السورية، فيها سخرية من الظلم، كأغنية: “اتصال من مندس” التي تسخر من أكاذيب الإعلام السوري، بحسب الأغنية، وتحاول عرض وجهة النظر الأخرى.
اشتغل هذه الأغنية مجموعة من الشباب السوريين بإمكانيات بسيطة، ووقت قصير لم يتح لهم تطوير النسخة المبدئية منها. لكنهم يعملون الآن على مجموعة جديدة من الأغاني تحمل المزيد من السخرية والتهكّم.
يقول مُلحن وكاتب هذه الأغاني، الذي يفضّل أن يبقي هويّته سرّيّة: “ستتناول الأغنية القادمة مسرحية تجاوز الحدود التي افتعلها النظام السوري لتشتيت قوّة حركة الاحتجاجات الداخلية المطالبة بتغييره، ومحاسبته على عمليات القتل والتعذيب ضد المتظاهرين“.
اليوم، صار للأغنية الوطنية رموز جديدة، بقدر ما لها مفاهيم مختلفة. صار إبراهيم القاشوش هو مغنّي الثورة السوريّة بعد أن قتلته واقتلعت حنجرته أيدي عناصر أمن النظام السوري. وصار لعبد الباسط الساروت شعبية تفوق شعبية كل نجوم روتانا وغيرها، بعد صعوده لأشهر على أكتاف الأحرار في شوارع وساحات مدينة حمص.
استخدم القاشوش ووريثه الساروت الأغاني الشعبية البسيطة للغناء عن الحرية، في حين ابتكرت كل مدينة سوريّة قاشوشها، وكل قرية ساروتها، بحيث تم العمل على إعادة استخدام الموروث الشعبي لصالح الأغنية الوطنية الجديدة.
في حين عمل موسيقيين محترفين على صناعة أغاني للحرية قد تكون موجهّة للعالم بمفردات موسيقية حداثية، كمالك جندري وبشار زرقان.
أما في عالم الراب، ظهرت أغاني جديدة، منها: “بيان رقم واحد“. وتقول: “بيان رقم واحد/ الشعب السوري ما بينذل/ بيان رقم واحد أكيد هيك ما حنضل/ بيان رقم واحد من حوران جاءت البشاير/ بيان رقم واحد الشعب السوري ثائر“.
تدعوا الاغنية لاستمرار الثورة، وتنتقد الفساد الحكومي والخوف من الفتنة الطائفية التي يروج لها إعلام النظام، كما تحتج على العيش بصمت طوال عقود.
يُصاحب عرض الأغاني السابقة على موقع “اليوتيوب” لقطات فيديو لمشاهد من المظاهرات في الشوارع السورية، ومشاهد لرجال الأمن أثناء قمعهم للمظاهرات.
ومؤخراً، انضممت أغنية جديدة لأغاني الثورة السورية بصوت الفنانة أصالة نصري التي صرّحت مؤخراً: “إن غداً لكم أيها الثوار الأحرار، والعزة لمن يطالب بها، والكرامة لنا من دمائكم التي طهّرت ماضينا وحاضرنا، والإصرار سيرسم طريق المستقبل لأولادنا الذين سيفخرون بكم وسيكتبونكم في دفاترهم، ويتخيلون لكم ملامح تشبه الملائكة“.
وبذلك قد يخرج صوت أصالة من جانبي الشارع: من حناجر المتظاهرين، ومن مكبرات الصوت في سيارات رجال الأمن.
في السنين الخمس الماضية، أثبتت معازف أن القارئ العربي متعطش للكتابة الجيدة. ازداد عدد قرائنا باضطراد كل سنة، كبر فريقنا وكبرت أهدافنا. ولأن طريقة عملنا التي تتطلب الكثير من الجهد والوقت تقع خارج أطر التمويل المعتادة، نحتاج إلى دعمكم كي تستمر معازف، ولتبقى المجلة الأولى والأخيرة من نوعها في العالم.