.
سعدت كثيرًا بقراءة مقال رامي أبادير التحليلي الهام “تناقضات الموسيقى المستقلة“، وبعد أن قرأت أيضًا بكثير من الاهتمام مقال شارل عقل “عن الموسيقى المستقلة أيضاً” قررت أنه من المفيد المشاركة في هذا النقاش، من خلال تأملاتي للمشهد المستقل الموسيقي المصري الحالي، من خلال خبرتي الذاتية، كأحد المنتمين للمشهد، بهدف المساهمة في محاولة الإجابة على الكثير من الأسئلة الهامة التي تخص الموسيقى المستقلة في مصر.
على سبيل المثال، هل هي الموسيقى المستقلة، أم البديلة، أم الأندرجراوند، أم الحرة، هل من مسمى أدق؟ وهل من فارق بين نوع موسيقى وأغاني فِرَق ومطربي ومطربات تيار الأندرجراوند underground stream، وفِرَق ومطربي ومطربات التيار السائد mainstream؟ وهل من حدود فاصلة وإمكانية تنقل وحركة مفتوحة بين الدائرتين؟ وهل الاستقلال الفني اختيار أم إجبار؟ بمعنى هل الانتماء لتيار الأندرجراوند اختياري أم يُجبر عليه الفنان، ولو مرحليا؟
مصطلح أندرجراوند
سأفضّل أن استخدم مصطلح تيار الأندرجراوند خلال هذا المقال، كمصطلح أعتمده بصورة مؤقتة، للإشارة إلى كل الفِرَق والمطربات والمطربين الذي يرتبط هذا الاسم بهم أو نظيريه “المستقل” أو “البديل“. ويقابله مصطلح التيار السائد.
هذا التعبير يعتمد على صورة ذهنية لبحر أو تيار مائي أساسي هائل يوجد في كل مكان، باستثناءات قليلة لها أسباب، وفي نفس الوقت يوجد بالصورة تيار آخر تحت الأرض. بالطبع، لا نرى هذا الذي تحت الأرض بينما نحن فوقها. وهنا يبدو هذا السؤال منطقياً، هؤلاء الموسيقيون والمطربون والمطربات في وضعيتهم المفترضة تحت الأرض، لماذا هم هناك، ولما لا يخرجون ليستمتعوا بالنور والشمس؟ ولكن لدينا سؤال آخر سابق لهذا، وهو من هم – أعني مطربي ومطربات وفرق الأندرجراوند؟
هناك بالفعل أبعاد كثيرة يعتمد عليها تعريف الأندرجراوند، الذي لا يوجد اتفاق عليه في تلك اللحظة، ولكني أزعم إمكانية الوصول لتعريف متفق عليه بنسبة كبيرة في حالة السعي لهذا وطرح استبيان مثلا أو مناقشة بين أهم الأسماء التي توجد في المشهد الموسيقي المصري بتيار الأندرجراوند. لا يوجد اتفاق لأن العبرة أيضًا بأولويات هذه الأبعاد، أيهم يأتي أولاً. مثلاً، بفرض وجود نقابة موسيقية مستقلة للدفاع عن حقوق هؤلاء الفنانين، سنودّ أن يكون لدينا فكرة عما سيميّزهم، وعن اللحظة التي عندها سنعتبر أن عضويتهم للنقابة ليس لها معنى، وأنه يجدر بهم الانضمام مثلا لنقابة المهن الموسيقية، لأن “المصالح” صارت مختلفة.
وحتى لا ننجرف من البداية نحو تعريفات عامة ستبدو انطباعية وذاتية، فلنبدأ بنفس الطريقة التي أوصلتنا إلى تخيّل صورة الأندرجراوند، فلنبدأ بالحديث عن التيار السائد.
التيار السائد
ما الذي يميّزه؟ في كلمتين فقط، ستكون إجابتي هي السوق والمحتوى. ويرتبط الاثنان معًا بشكل كبير. السوق أعني به المكان الذي فيه المنتجات والجمهور؛ والمحتوى أعني به ما يميز المنتَج كمنتَج مثل الكلمات واللحن والتوزيع.
نحن نتحدث عن عمرو دياب ومحمد منير وشيرين عبد الوهاب وأنغام، كأمثلة أيقونية.
تتراوح تقديرات تكلفة ألبومات نجوم التيار السائد ما بين مليون و2 مليون جنيه مصري، وتكلفة الأغنية الواحدة بين 70 و120 ألف جنيه. وفيما يخص أجور الحفلات، يصل أجر الحفل الواحد إلى 600-700 ألف، وقد يزيد إلى مليون جنيه في حالة عمرو دياب أو يقل إلى 100 ألف في حالات مثل إيهاب توفيق ومصطفى قمر. وسعر التذكرة في بعض الحفلات يصل أحيانًا إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه – التذكرة الواحدة. أما بالنسبة لقيمة تعاقد المطربين مع شركات الإنتاج، ذكر موقع عمرو دياب أوّل العام الماضي أن الهضبة يشترط لكي يوقّع عقدًا جديدًا مع أي شركة، سواء شركة جديدة أو روتانا التي كان قد وقّع معها العقد الماضي، أن تكون قيمة التعاقد 6 ملايين دولار. بينما بلغت قيمة تعاقد شيرين مع شركة روتانا أربعة ملايين دولار ل 3 ألبومات، وبلغت قيمة عقد أنغام مع نفس الشركة مليون دولار للألبوم الواحد.
أما بالنسبة للجمهور، الطرف الآخر للسوق، فحفلة منير في مايو 2013 على سبيل المثال حضرها 200 ألف متفرج. وعلى الإنترنت، نشر موقع البوابة نيوز أن ألبوم ” أنا كتير” للفنانة شيرين عبد الوهاب قد حقق رقمًا قياسيًا في عدد مرات المشاهدة، على قناتها الرسمية على موقع يوتيوب، ووصل إلى أكثر من 10 مليون في فترة قصيرة لم تتجاوز العشرة أيام، والأغنية وحدها وصلت عدد مرات مشاهداتها على موقع يوتيوب إلى ثلاثة ملايين ونصف.
أما مشاكل الإنتاج، فليست في عدم وجود أموال للإنتاج، وإنما من عينة اختلاف المطرب مع شركة الإنتاج على موعد صدور الألبوم أو تأخير صدور الألبوم برغم الاتفاق، أو تدخل المسئولون في الأمور الفنية.
تيار الأندرجراوند
ما الذي يميّزه عن التيار السابق؟ في كلمتين فقط، ستكون إجابتي هي نفس الإجابة: السوق والمحتوى.
نحن نتحدث عن فرقة إسكندريلا وفرقة كايروكي ومريم صالح ومحمد محسن، كأمثلة أيقونية.
يجدر بنا هنا البدء بالجمهور، وكأمثلة دالة، لدينا أرقام واضحة على موقعي فايسبوك ويوتيوب. يتجاوز عدد المشاركين بصفحة مريم الرسمية على موقع فايسبوك 680 ألف، ومعجبو فرقة كايروكي يتجاوزون 500 ألف على صفحتهم، وصفحة محمد محسن الرسمية على نفس الموقع عليها 480 ألف شخص، بينما يبلغ عدد المشاركين في صفحة إسكندريلا على موقع فايسبوك 40 ألف فقط.
أما الحديث عن الأجور وتكلفة الألبومات، فمقارنة بالتيار السائد، ليس له الكثير من المعنى هنا. على أي حال، سعة أهم المسارح التي تستضيف فناني وموسيقيي الأندرجراوند مثل مسرح الجنينة وساحة روابط وقاعتي الحكمة والنهر بساقية الصاوي تتراوح ما بين 150 متفرج في ساحة روابط إلى 1500 بقاعة النهر في الساقية. وغالبًا ما يكون الاتفاق هو خصم جزء من دخل التذاكر كضرائب أو مصروفات ثم المشاركة بنسبة فيما تبقى من دخل التذاكر، باستثناء مسرح الجنينة الذي يعطي للفرقة أو المطرب أجرًا للعرض ويتولى هو أمر التذاكر. حتى إذا اختلف أجر الموسيقيين المصريين عن غير المصريين، واختلف أجر المطربين عن بعضهم البعض بحسب الجماهيرية، سنجد أن هذا كله لا يزال يدور في فلك واحد، لا يقارن نهائيًا بأخر الأسماء بقائمة التيار السائد. فلنتذكر أن أجر حسام حبيب 60 ألف جنيه في الحفل، وأن سعر التذكرة الواحدة بعض الحفلات للتيار السائد تكون 3500 جنيه، وهو ما يمكن أن يكون متوسط أجر ليلة عرض لمطربة أو فرقة من الأندرجراوند!
وأخيرًا، يمكنك أن تعمل “تاج” tag لمريم صالح ودينا الوديدي ومحسن وحازم شاهين على موقع فايسبوك لتخبرهم برأيك وربما ترسل لهم كلمات ليغنونها. بالطبع، لا يمكن أن يحدث هذا مع شيرين عبد الوهاب ولا عمرو دياب ومحمد منير. وحتى بافتراض وجود صفحات تفاعلية بأسمائهم، ففي الغالب ليس هم من يديرونها ولا يصل لهم بالضرورة ما ترسله.
فرضيتي هي وجود فواصل صارمة بين التيار السائد وتيار الأندرجراوند، ويأنهّما عالمان مختلفان. لكل سوقه وجمهوره ومحتواه.
المنطقة بين التيارين
يعلم كل من في تيار الأندرجراوند تفوّق إنتاج التيار السائد على إنتاجهم من ناحية الجودة التقنية، أي من ناحية جودة ونقاء التسجيلات، يسهل استنتاج السبب؛ إنه تفوّقه في الإنتاج وإمكانية توفير أستوديوهات صوت بمعدات وإمكانيات ممتازة، ودفع أجور عالية للحصول على أفضل مهندسي صوت، وأفضل عازفين، فضلا عن إمكانيات إضافية تؤدي لنتائج مبهرة مثل رسم الصوت. ويمكن تجربة هذا التفوّق التقني بالاستماع لأي عينة عشوائية من ألبومات كلا التيارين والمقارنة بينها.
طبيعي أن تتمنى أي فرقة وأي مطربة ومطرب أن يتمتعوا بإنتاج وأجور وانتشار وجماهيرية التيار السائد، فضلا عن الجودة التقنية. من يكره؟ هل من أسباب تحول دون الرغبة في ذلك؟
المشكلة الأساسية هي أنه لا توجد منطقة ثابتة بين التيارين. توجد أبواب تظهر لدقائق وتختفي، مثل بوابات الانتقال بين العوالم المختلفة في أفلام الخيال العلمي.
بعض منتجي التيار السائد يمكنهم جذب بعض المطربين أو المطربات من الأندرجراوند لكي يلتحقوا بالسوق، ولكن بالطبع مقابل الالتزام تماما بوجهة نظر المنتج لأن هدفه هو الربح، ولأنه يعلم كيف يربح، ولأنهم لا ينتموا لهذا العالم، ويحتاجون لمن يعلم كيف تمشي الأمور. وبالطبع، لماذا يقع الاختيار على فنان دون آخر لعرض نقله إلى الجانب الآخر، سؤال لا بد من وجود إجابة له، أي سبب. مثلا، ما فعلته فرقة كايروكي بالفعل يؤهلها لجذب الانتباه بما يكفي لتنتقل للجانب الآخر: أغنية جريئة مثل مطلوب زعيم، والاستماتة في التجديد رغم فقر الخيال الموسيقي عن طريق مشاركات غنائية لا علاقة لها ببعض ولا بتوجّه الفرقة الفني: عايدة الأيوبي، وعبد الباسط حموده، وسعاد ماسي.
الاحتواء وتنميط المحتوى
المشكلة الأساسية بالنسبة لمطربي ومطربات وفرق الأندرجراوند لكي يذهبوا لأعلى، للتيار السائد، بافتراض وجود الأبواب السحرية، هو أن الأمر سيكون احتواء، ولا احتواء بدون تحرير edit. وهنا اتفق مع رامي أبادير في أن هناك قوالب. إما أن تحتويك، أو لا مجال لاستمرار اللعبة.
فلنضرب بعض الأمثلة.
عندما غني محمد منير أغنية من إنتاج تيار الأندرجراوند اضطر إلى القيام بهذا التحرير. لا أظن أن هناك أغلبية ستتفق على أن النسخة التي غناها أفضل جمالياً من الأصل من ناحية المحتوى. أعني تغيير المقام الموسيقي وحذف الكوبليه الثاني، الذي هو بالنسبة للبعض الذروة الجمالية للأغنية. لا أظن أن الأسباب لها علاقة بالذوق، وإنما بالقالب الغنائي المقبول. الكنج فعل هذا بالرغم أن هذه الأغنية كانت في فيلم تسجيلي مفترض أنه مستقل ولن يعرض أبدًا بدور السينما، أي بالرغم من عدم وجود سبب تجاري. فقط فعل ما يفعله دائمًا.
أحب لأوكا وأورتيجا ثنائي المهرجانات الشهير مهرجان “هاتي بوسة يا بت” الذي يسمّى أيضًا ب “الوسادة الخالية“. أتّفق مع رأي رامي أبادير في أن موسيقى المهرجانات كانت “مزيجاً من الثقافة الشعبيّة والفرعيّة، والتي اعتمدت في بداياتها على الإنتاج المستقل ثم سرعان ما تحولت إلى فرق جماهيريّة بعد احتوائها من المنتجين الكبار وشيوع موسيقاهم.”
لا أعرف كم كان أجرهما على أغنية “ايوه أيوه” في فيلم عبده موتة، من إنتاج السبكي. ولكن ما أعرفه جيدًا هو أن هذا اللحن نسخة باهتة من لحن “هاتي بوسة يابت“، خاصة من بداية “ركبوني مرجيحتي. عايز أركبها لوحدي“. نفس اللحن. لماذا يعيدان إنتاج نفسهما (بالعامية “نحت النفس“)؟ ربما لأن الأصالة ليست هامة في التيار السائد، لها مرتبة ثانية؛ ننتج لأن علينا أن ننتج، لا لأننا نريد هذا بالفعل؟ جدير بالذكر أن عدد مرات المشاهدة على موقع يوتيوب بالنسبة لأغنية “أيوه أيوه” بلغ 10 مليون مشاهدة، بينما “هاتي بوسة يا بت” لم يصل لنصف هذا الرقم، مع إنها الأغنية الأصلية لا النسخة الباهتة، وأنها أقدم بعامين.
هل يمكن للتيار السائد احتواء فرقة إسكندريلا؟ بافتراض أنهم توقفوا عن غناء أغاني الثورة؟ أو ربما بافتراض عودة موضة الثورة في التليفزيونات؟
اريد أن أقول أن الأمر ليس بهذه السهولة. يجب أن تتلوّن تماما بألوان الصورة، وإلا لن يمكن وضعك بها، وإن أتيت وظللت كما أنت ستكون شيئًا شائهًا سرعان ما سيتم لفظه. إنه عن التطبيع: كل شيء يبدو طبيعيًا. توجد قواعد صارمة في هذا التيار السائد تتعلق بالمحتوى وشروط الإنتاج. وتهدف هذه القواعد مثل أي قواعد بأي نظام، للاستقرار. وتهدف أيضًا لإحداث تغيير طفيف لاحتواء الملل والرغبة في التغيير، وبالتالي استمرار الاستقرار.
المانع الوحيد، بافتراض وجود عرض الاحتواء الكريم، هو الاضطرار لتنازلات فنية. وأعتقد أنه أمر حتمي. يراهن البعض على إمكانية “عودتهم” لما كانوا عليه بعد زرع أنفسهم “هناك“. حتى اليوم، لم أسمع عن فائز واحد بهذا الرهان. ولكني غير متأكد ما إذا كان صعبًا فقط أم مستحيلاً.
الجماهيرية
من هنا نفهم أهمية رعاية شركات تجارية عملاقة مثل بيبسي وكوكاكولا لفرق مثل كايروكي ووسط البلد. وأهمية الظهور في برنامج “البرنامج“، وبديهية انتقال باسم يوسف، بعد فورة الثورة وعودة مياه الجماهيرية والأضواء إلى مجاريها، من ONTV لقنوات مثل CBC أو MBC. الأمر أكبر بكثير من انتقال الأجر من فئة الآلاف إلى فئة الملايين. إنه انتقال الفرقة بكاملها من سوق لسوق آخر، من فضاء لفضاء آخر، به حجم مشاهدات ضخمة وقنوات تليفزيونية جماهيرية وكذلك نمط إنتاجي مختلف. وهنا يمكن أن أتفق مع رأي رامي أبادير بأن “الاستقلال الموسيقى بمثابة مرحلة انتقاليّة أو اختيار مؤقت للصعود إلى الوسط الجماهيري وتحوّل موسيقى الفنان إلى موسيقى شائعة، مع وجود استثناءات.”
في مقالة تحليلية فلسفية عن مصطلح الموسيقى البديلة، يذكر شادي لويس مقولة أدورنو “أن الإنتاج الكثيف للنصوص الموسيقيّة في السوق الرأسماليّة يميل لفرض قيود على خيال المتلقّي: إذ يتم تنميط النصوص الموسيقيّة من خلال عمليّات تكراريّة دوريّة تشبه عمليات الإنتاج الصناعي، حيث يتم نسخ وإعادة إنتاج الأنماط اللحنيّة والنصيّة الرّائجة تجاريّاً لإرضاء ذوق الجمهور المبرمج سلفاً.” وينتقل منها إلى فرضية ترى “استحالة فصل الثقافة البديلة عن نمط الإنتاج الاستهلاكي الرأسمالي في المجتمعات الحديثة، وعليه يتم استيعاب الموسيقى البديلة داخل منظومة الإنتاج الرأسماليّة المرنة وبشكل دوري، لتقوم بإزاحة الموسيقى السّائدة أو تطعيمها في دورات من التجديد والإحلال تضمن استمرار المنظومة الإنتاجيّة وإثرائها.”
بدون استغلال نوافذ غير طبيعية، أكبر أغاني على موقع يوتيوب تنتمي للأندرجراوند من حيث عدد المشاهدة هما أغنيتي يسرا الهواري “السور“، وأغنية دينا الوديدي “وحده“، الأولى 357 ألف والثانية 364 ألف، هذا بتاريخ مايو 2014.
وباستغلال مثل هذه النوافذ غير الطبيعية، مثل الظهور في برنامج “البرنامج“، بلغ عدد مشاهدات فيديو لفرقة مثل فرقة “شوارعنا” السكندرية يعرض فقرة الفرقة مع باسم يوسف 450 ألف مشاهدة. أزعم أنه كان يستحيل حدوث هذا، في هذه المرحلة من عمر تجربة هذه الفرقة، دون هذه النافذة. هذا، فضلا عن الملايين التي شاهدت الفرقة في مصر والمنطقة العربية بينما تشاهد برنامج “البرنامج“.
بعض فيديوهات فرقة كايروكي على موقع يوتيوب تعدّت مرات مشاهدتها 2 مليون ونصف، مثل أغنية اثبت مكانك وأغنيتهم مع عايدة الأيوبي. أما أشهر أغانيهم المصورة وقت الثورة وقبل شهرتهم مؤخرًا، أغنية مطلوب زعيم، لم تصل مشاهداتها إلى مليون ونصف.
من هنا يمكن أن نفهم أيضًا تهافت الكثير من الفرق الجديدة على العرض في “الفن ميدان” في ميدان عابدين، لتعرض أمام ما يقرب أحيانًا من 3 آلاف متفرج، برغم من أنه دون مقابل ورغم مشاكل الصوت المتكررة، وعزوف فرق كبيرة مثل كايروكي لا تحتاج “الآن” لهذا الجمهور، خاصة بعد انحسار مد الثورة ومجد الغناء في الميادين.
مفهوم الاستقلال
يقول رامي أبادير في مقاله أن “المقصود بهذا الاستقلال هو الاستقلال عن الموسيقى السائدة (mainstream) أو الجماهيرية” وبأن ” من الواضح حدوث تفكك للمفهوم ولم يعد الاستقلال الموسيقي حكراً على الثقافات الفرعيّة، بل أصبح مجرّد اختيار الفريق أو الفنان لآليّة الإنتاج بغض النظر عن المنتج.”
كان يتحدث هنا عن النموذج الأوروبي والأمريكي. ربما يمكن بالفعل استخدام مصطلح الاستقلال إذا كنا نريد هذه الدلالة. ولكن ماذا عن الاستقلال المالي والفني؟
يقول شارل عقل عن نفس الموضوع أن “الموسيقى مستقلّة ماديّاً، أي لا يتحكم رأس المال في القرارات الموسيقيّة وليس له القرار الأخير فيما يخص الخيارات الفنيّة. فلا تفرض شركة “بيبسي” مثلاً أغنية تتضمّن “بيبسي يا حبي يا حتة من قلبي“، ولا يفرض منتج جملة معيّنة لأنّها “ستنج تجاريّاً“. ويضيف: “إذا كان القرار النهائي لحسم أي خلاف فني ومتعلّق بالذوق والمنتج النهائي لصاحب رأس المال، لا يعود المنتج مستقلاً … فحتّى عمرو دياب إذا كان له الرأي النهائي في منتجه الموسيقي، مع إنتاج أعظم الشركات الفنيّة لأعماله، فيعدّ مستقلّاً، خصوصاً إن كان الترويج والتوزيع لمنتجه قائم على اسمه شخصيّاً، وليس اسم الشركة المنتجة. لكن من الناحية الأخرى، إن طلب من فرقة صغيرة أغنية بمناسبة الاحتفال بـ“انتصار أكتوبر المجيد” مثلاً مقابل أجر، فلا يعد العمل مستقلاً. “
لدينا هنا تعريفان، الأوّل أن المستقل هو ما ليس تيار سائد، والثاني أن المستقل هو المستقل في اتخاذه للقرارات والاختيارات الفنية. مشكلة التعريف الثاني أنه لا يساعد في مشكلة التمييز بين التيار السائد والأندرجراوند. تمسّك عمرو دياب بحرية الاختيار الفني وعدم تركها لشركة روتانا لا يجعله يخرج من التيار السائد (لا يجعله مستقلا)، كما أن ترك مريم صالح حرية الاختيار الفني لشركة إيقاع، مثلا في تجربة موسيقية ما، لا يُدخلها في التيار السائد (لا يجعلها غير مستقلة). ببساطة، الاستقلال في اتخاذ القرارات الفنية عن المنتِج لا يمكن أن يكون هو فقط أساس تعريف “الاستقلال” عند مناقشة مصطلح الموسيقى المستقلة. ربما لهذا أرى مستقبلا أقل من الاختلاف إذا اعتمدنا مصطلح الأندرجراوند. جدير الذكر أيضًا أن بعض نجوم التيار السائد ينتجون لأنفسهم من مالهم الخاص أحيانًا، بالضبط مثلما يفعل دائمًا الكثير من فناني تيار الأندرجراوند، فحتي تعريف الاستقلال الموسيقي بعدم الاعتماد على شركات الإنتاج والاعتماد على النفس يمكن ألا يحل المشكلة.
تذييل قصير
عدد كبير من فناني الأندرجراوند لا يدرك أن عليه أن يسعى للاحترافية. الاحترافية تعني شيئين: الجودة الفائقة في المنتَج، والتربّح من المهنة، أي أن يكون هذا هو مصدر الربح الذي تعيش منه. وعدد كبير أيضًا يعمل بوظيفة أخرى لينفق على الإنتاج، أو يقدّم في مسابقات المنح الإنتاجية القليلة على مستوى المنطقة العربية. في الحالتين لا توجد دورة مالية، لأنه لا يوجد دخل من الحفل أو من المنتَج. لهذا تكون الحاجة للإنتاج مستمرة. هناك إيجابيات مثل الحرية في التعبير وفي اختيار الشكل الفني وفي التجريب. عدد كبير من الفنانين أيضًا يفتقر للثقافة الموسيقية والتدريب، مثل أي فئة في مصر. وعدد كبير منهم لا يزال يعمل بالرغم من أن بيئة العمل لا تزال قاسية وطاردة. هنا يمكن أن أقول أن الحياة اختيارات، ليس بين التيار السائد والأندرجراوند. وإنما بين الكفاح للاستمرار، أو الاستسلام لليأس.