غني قليلًا | عبير نعمة ومارسيل خليفة

كتابةعمر ذوابه - February 13, 2019

ظهرت عبير نعمة للمرة الأولى في الموسم الثاني من برنامج سوبر ستار قبل خمسة عشر عامًا. منذ ذلك الوقت، خبت نجوم معظم أقرانها في ذلك الموسم من البرنامج، بينما أثبتت هي جديتها على مدى السنين. حصلت على شهادة الماجستير في علوم الموسيقى، تخصصت في الموسيقى العربية الكلاسيكية، أصدرت ألبوم صلوات مغناة، توسعت في الموسيقى الإثنية، وكان لها بضع تجارب خجولة في أغنيات البوب المنفردة ضمن ألبومات لشربل روحانا وجان ماري رياشي. شاركت في مهرجاني بعلبك وبيت الدين، وطافت على عدد من دول العالم بصحبة موسيقيين موهوبين. على كل حال، لم تكن تجربتها شعبية على المستوى العربي. عام ٢٠١٧، أطلقت عبير أغنيتها المنفردة يا ترى عبر منصة أنغامي، التي كشفت رغبتها بالتعمق في البوب العربي والوصول إلى قاعدة جماهيرية أوسع.

جاءت فرصة عبير الذهبية في شباط / فبراير ٢٠١٨، عندما وقعت عقدًا مع يونيفيرسال ميوزك. أثمرت هذه الفرصة عن أغنيتين منفردتين: وينك وودعت الليل. نجاح الأغنيتين قرّب عبير من غايتها، حتّى أصدرت في منتصف كانون الأول / ديسمبر الماضي ألبومها غني قليلًا بالشراكة مع مارسيل خليفة. يضم الألبوم ١٤ أغنية من ألحان مارسيل، الذي سبق وأطلق خمسةً منها ضمن خمسة ألبومات خاصة به بين ١٩٨٥ و١٩٩٨. يتميز العمل بالزخم الأوركسترالي الذي زين جل أغنيات الألبوم، مع قصائد جميلة بالفصحى والمحكية اللبنانية، إضافة إلى أغنيتين من الفلكلور المصري وترنيمة مسيحية مشرقية. على الورق، يحمل الألبوم وصفة نجاح لا غبار عليها، من جماهيرية مارسيل خليفة وجمعه بين الكلاسيكي والشعبي في الموسيقى والغناء، كما يحمل بعض التحديات الواضحة، كإيجاد المعادلة الصحيحة مع صوت مارسيل، والقدرة على الاستفادة من ألحان ومزاجات قديمة دون الوقوع في الماضوية.

تتجاوز عبير نعمة بسهولة فيما كان من الممكن أن يكون أصعب تحديات الألبوم. يمتاز غناؤها بجمال الصوت وحسن الأداء وسلامة اللفظ، بينما تحتاج خامة صوتها إلى مرافقة تجاري مدى هذا الصوت أو حتى تندو منه بخجل. هذا ما يساهم بنجاح الأغاني التي ظهر فيها مارسيل خليفة كالمرافق الوحيد. للمفارقة، تعاني بعض من أفضل أغاني الألبوم (كـ بعتلك صوتي، اكتبني قصيدة، علليني) من المنشدات المرافقات، حيث أتت أصواتهنّ مغالية بالحدة بشكلٍ يبدو متقصدًا، لتشبه غناء منشدات الإعلانات الإذاعية اللواتي تحرصن على حفر اسم المنتج في ذاكرة المستمع.

تمتاز أول أغنيتين، الموسيقى ومزمار، بمقدمات موسيقية طويلة نسبيًا (بمتوسط دقيقة ونصف من الموسيقى بلا غناء) تخلق تمهيدًا سلسًا يضع المستمع في مناخ الأغنية، يؤطره توزيع أوركسترالي غني ومنمق. في المقابل، تتبع الأغنية الثالثة، راجع، ذات البنية لكنها تربك الأذن، إذ أن إيقاع المقدمة أبطأ بكثير من إيقاع الأغنية حين بدءْ المغنى، والانتقال الحاد وغير التصاعدي بين المقدمة والمغنى يجعل من المقدمة والأغنية قطعتين كان من الأجدر فصلهما.

يغزل التوزيع الأوركسترالي الألبوم كاملًا باستثناء أغنيتين: ما أجمل الحب التي يلائمها توزيعها المقتصر على التخت الشرقي ملائمًا لكن يخالف هوية الألبوم، وهيدا إنت التي وصفتها الصحافية اللبنانية جوزيت أبي تامر بشكلٍ ملائم: “طالعة متل جنريك المسلسلات التركية“. فبينما توفر جميع الأغنيات مساحة سخية للوتريات والآلات النفخية والنحاسيات التي أكسبت الألبوم نسيجًا أوركستراليًا باذخ التفاصيل، تخلو هيدا إنت إلا من إيقاع وبزق، لتبدو كسيارة أطفال بلاستيكية زج بها في أسطول سيارات مدرعة، ويظلم التوزيع فيها كلمات جرمانوس جرمانوس ولحن مارسيل خليفة.

الانتقال من نصف الألبوم الأول إلى نصفه الثاني أشبه بالانتقال من دورة في أفعوانية إلى رحلة قطار يسير برزانة على سكة مستقيمة ويعبر مختلف التضاريس. يغفر التناسق الذي يجمع آخر سبع أغنيات في العمل للاضطراب بين أغنيات نصفه الأول، إضافةً للانتقالات السلسة بين الأغنية والأخرى التي عملت كتأسيس تصاعدي في مناخ الألبوم، بلغ ذروته في علليني التي جمعت بين النحاسيات والوتريات بصورة خلابة، مرورًا بأغنيتي العمل المصريتين، الحنة ويا محلى نورها، التي تجلّى فيهما استمتاع عبير نعمة بالأداء حتى تكاد الأذن تميّز ابتسامتها فيما تصدح بالغناء. تذهب جائزة السهل الممتنع في هذا الألبوم إلى أغنية فكر بغيرك، التي منحها شعر محمود درويش بساطة في الكلمات جعلتها تصلح كنشيد للأطفال غني بمعانيه وعذب بلحنه.

تأتي غني قليلاً، آخر أغنيات الألبوم وأطولهن، كخاتمة قوية تختزل موهبة عبير نعمة في الانتقال ببراعة بين بيوت صوتها المتعددة: من الهمس، إلى الجمل الأوبرالية المتقنة التي أتت في سياقها المناسب ودون استعراض. يدعم الأغنية أيضًا عدم محاكاة عبير نعمة لأداء مارسيل خليفة لها، حتى يبدو كما لو أن الأغنية كتبت خصيصًا لصوتها.

لم تخض عبير نعمة كافة تجاربها ودراساتها وجولاتها عن عبث. منحتها خبرتها المتراكمة التمكن اللازم للتعامل مع الأغنيات دونما تكلف أو تقليد، وعرفت كيف تضفي ميولًا شعبية على التوزيع الأوركسترالي، لتجذب هواة القصائد المغناة جنبًا إلى جنب مع الباحثين عن بوب عربي قادر على احتواء التوزيعات الكلاسيكية الضخمة. كان الألبوم أيضًا فرصة لمارسيل خليفة لبث الروح في أغنياته القديمة من خلال صوت نسائي شاب يخطو نحو التوسع في البوب.