فيروز الشخص الأخوين رحباني رونزا عايدة شلهوب رندة جاكلين عفاف راضي نجاة فغالي معازف Fairouz Ash'shakhs Rahbani Brothers Ronza Tomb Ma3azef
بحث | نقد | رأي

الشخص يبحث عن اسمه | عن بديلات فيروز

مهدي مبارك ۲۰۲۰/۰۲/۱٤

كشفت حنان (رفيقة فيروز في أولى حفلاتها) أن الأخوين رحباني حاولا تبنيها لكنها هاجرت إلى أمريكا، وقالت لمجلة الفنون: “لولا نهاد حداد لكنت فيروز الرحابنة.”

كشف الزمن أن البحث عن بديلة لفيروز عادة قديمة ومستمرة لدى عاصي ومنصور، لم تبدأ بالخلافات أو الانفصال أو الطلاق، بل ببداية العلاقة بين عاصي ونهاد، واستمرّت حتى الموت، إذ كان احتمال أن تهجرهما لصالح ملحنين آخرين قائمًا على الدوام.

بالنسبة للأخوَين، خلّفت تلك العادة خيباتٍ ربما كانت في مرحلةٍ ما أكبر من احتمالهم. بالنسبة لنا، كسبنا من كل تجربة، نجمة مرت من هنا وأُخرى استمرت.

جاكلين

فكَّر عاصي في تبني “ملكة الإغراء” في السبعينات و”مارلين مونرو الشرق”، جاكلين، فنيًا بعدما أعجب بها عاطفيًا، ورغم أنها كانت “رمزًا للستربتيز الغنائي في لبنان”، وفق مجلة الشبكة اللبنانية، اشترط عليها أن تتوقف عن ارتداء قمصان النوم والمايوهات التي تكشف فخذها وصدرها في المسرحيات والأفلام، وأن تتوب عن معاكسة عبد الحليم.

تحكي جاكلين أنها عرفت عاصي حين اشتركت في الكورال وراء فيروز، وغنَّت معها غيب غيب يا قمر وهي صغيرة. قدم لها الأخوان رحباني أغنيتي خدني عالتلج وأنا ويَّاك، ثم كيف حالك يا أسمر. روَّج لها عاصي عبر أصدقائه في مجلة الشبكة مطلع السبعينات، كما فعل مع فيروز وغيرها في عدّة مراحل، حتى نشرت المجلة اللبنانية أن الرحباني “عثر على حجر كريم في أرض جاكلين، عثر على فنانة مطربة قادرة على الغناء العاطفي الأصيل الذي يعيدها إلى أصلها، وأسرع إلى انتقاء أغنية عاطفية تليق بها سكبها في لحنٍ طروب.”

تقول جاكلين: “كان بده يتبناني يعني لأنه حابب صوتي. يقللي صوتك كورد. يظهر إنه خيُّه ورفيق حبيقة، حسيت إنه منعوا هالشي.” كان منصور يعتبرها نزوة فنية ونفسية عابرة، ومنع شقيقه من تبنيها في النهاية. كما يبدو في التسجيلات، لم يكن صوت جاكلين قويًا أو مميزًا، لم يكن حتى غنائيًا، لكنه تكامل بلا شك مع إتقانها فن الإغراء، ما يجعل تفكير عاصي بها كواجهة لمشروعه محيّرًا، فمن هالة القداسة التاريخية في الصورة التي ثبّتها لفيروز إلى مارلين مونرو الشرق.

رندة

تقول مجلة الشبكة في واحد من أعدادها في السبعينات: “أخيرًا، هناك مطربة شابة يحاول الأخوان رحباني أن يتبنياها ليس في حياتها الفنية فقط، بل في حياتها العادية أيضًا. هذه المطربة الشابة هي رندة.” سَرَت في الوسط الفني نميمة عن إعجاب منصور بـ رندة، وكان منصور – أينما حلّ – “يبشِّر بالمطربة الجديدة رندة التي يُنتظر أن تصل إلى مرتبة فيروز.”

رغم قول أغلب الملحنين والنقاد اللبنانيين إن صوت رندة رديء وفنها رخيص، يمكن بسماع رندة  إدراك أن هذا النقد مبني على اختياراتها لملابسها قبل صوتها وأدائها. ما يؤخذ عليها بالفعل تواضع مهاراتها الأدائية أكثر مما يبرر أن يتبناها الرحابنة. غنَّت رندة لحن النحلة للرحابنة، حين كانت – في ظروف غامضة – إحدى مطربات الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية، وحقَّقت نجاحًا قصير الأجل، ربّما ضاعف قوته الجدل المثار حول كونها نجمة إغراء. هذا إلى جانب شائعات وأسرار وخبايا عاطفية شغلت بها الحياة اللبنانية. اختيرت رندة كملكة الجاذبية في حفل أقيم في مدينة بكفيا اللبنانية بترشيح من الرحابنة، الذين قدّموها في حفل غنائي خاص أقيم في فندق سان جورج على شرف شاه إيران محمد رضا بهلوي، خلال زيارة رسمية إلى لبنان.

انتشرت حكايا في بيروت برفقة عشرات النكت عن المرأة التي “أربكت زعيم العرب” – بعد تهديد جمال عبد الناصر لـ سعيد فريحة، رئيس دار الصياد، بمنع مجلة الشبكة من دخول مصر لو رأى على غلافها صورة رندة مرة أخرى – ثم اعتزلت رندة فجأة واختفت، وخسر منصور رهانه الفني والعاطفي.

لينا (نجاة فغالي)

ذهب الأخوان إلى شقيقة صباح الصغرى، نجاة فغالي، في اتفاقٍ هذه المرة على استحقاقها اهتمامهم، وكونها أكثر من نزوة، وكانت كذلك بالفعل. تعهَّداها بالرعاية الفنية كـ “فيروز جديدة” ووعداها بالمجد، أطلقا عليها لقب ذات الصوت المبحوح، وبتوصية من شقيقتها نشرت مجلة الشبكة عدّة موضوعات تبشّر بالمطربة الجبارة.

تقول الشبكة في أحد الموضوعات إن نجاة فغالي تختزن في حنجرتها أوتارًا عجيبة، وتملك بحَّة “تميزها عن سائر الأصوات وتكوِّن لها شخصية خاصة بها، وبطريقتها الفريدة في الغناء.” صدقت مجلّة الشبكة هذه المرة. لنجاة بالفعل صوت وأسلوب أداء فريدَين، حيث تجمع خامة صوتها بعضًا من عمق وجلجلة صوت صباح، وبعضًا من عذوبة وليونة صوت فيروز. يبدو هذا من أغانيها القليلة التي لم تستكشف كل ما في صوتها بعد، وبدت نُسَخًا عن بعضها.

لم تكن نجاة متحمسةً لصوتها بقدر الأخوين وأختها، وفضلت التدخين على صقل صوتها. باعدت بين إصدارات أغانيها – بحسب شهادة صباح – حتى نُسيَت وتوقفت تلك الإصدارات بالكامل. 

رونزا (عايدة طنب)

هاجمت رونزا عاصي ومنصور على صفحات الشبكة، وعمرها ٢٢ سنة، لأنها اعتبرت أنهما وضعا خطة لـ “عدم إبراز أي نجمة” كي يحافظا على القمة لفيروز. استعان الأخوان بـ رونزا لتمثيل دور فيروز في الشخص، ما اعتبرته سر وصفها بـ البديلة في حوار لمجلة المسيرة (العدد ١٥٩٠)، حيث “ظهرت بعد غياب فيروز عن المسرحية مباشرة.” وقتها هاج اللبنانيون غضبًا منها ومن الرحابنة لتقديم بديلة لفيروز. لم ينصفْها إلا شخص واحد، صديق فيروز أنسي الحاج، الذي كتب “لا ذنب لرونزا فيما حدث”، معاتبًا الرحابنة. 

سألتها المجلة: “الرحبانية يبحثون عن بديلة لفيروز في هالة والملك، لماذا لست أنت؟” تجيب: “ليس من الضروري أن أكونَ أنا البديلة في كل أعمالها.” تعرف رونزا أنها مجرد بديلة، ويعرف الرحابنة وتعرف فيروز. هناك اتفاق ضمني أشبه بالمؤامرة على ذلك. لكن لماذا اختار عاصي رونزا؟ تقول: “لا أعرف ولم أسأله ولا مرة.” مجلة المسيرة اللبنانية، العدد ١٥٩٠.

بدأ التبني قبل أن ينفصل الأخوان عن فيروز نهائيًا بعامٍ واحد، وبدأ التحضير قبل ذلك بأعوام، حين كانت تغني مع كورال المسرح. مهّدا لصعودها عبر برنامج ساعة وغنية ومسلسل من يوم ليوم. ساعداها على اختيار اسم فني مستوحى من اسم إحدى الآلهة، بدلًا من اسمها الأصلي عايدة مارون طنب، وبدآ يعيدان عملية تصنيع النجمة بالطريقة التي ظهرت بها نهاد حداد، فسهَّلا لها الغناء – لأول مرة – خارج لبنان في حفلات في الأردن، ثم اعترفا بها بطلة المسرح الرحباني في مسرحيتي المؤامرة مستمرة والربيع السابع بدلًا من فيروز، فوجَّهت الصحافة مدافعها إلى قلبها، واعتبرتها مدبّر جريمة انفصال فيروز والرحابنة. 

لمس الرحابنة غضب الجمهور ورفضه المطلق لتقديم بديلة لفيروز، فاستمرّا في أعمالهم بسياسة جديدة ابتعدوا فيها عن البطولة النسائية المطلقة. في هذا التوقيت، استعانا بعدّة مطربات، أبرزهن رونزا.

بسماع نُسخ رونزا من أغاني فيروز في مسرحية الشخص، يبدو أنها كانت بالفعل أنسب خيار ممكن للرحابنة بعد فيروز كخامة صوت وتمكُّن أدائي وعدم محاولتها أن تكون فيروز، لكن إصرارهما على أن لا يبدآ مشروعًا جديدًا، أن يقوما فقط باستبدال الواجهة، حكم على مغامرتهما بالفشل. بعكس كل التوقعات، استطاعت رونزا أن تقلب الجدل والهجوم لصالحها. في النهاية، وبسبب ذلك الجدل، أصبح اسمها معروفًا على كل لسان، لتفيد من هذا الانتشار في صياغة مسيرتها الخاصة المُحتفى بها اليوم لدرجة اعتبارها  ثروة فنية لبنانية.

عايدة شلهوب

التقاطعات بين عايدة شلهوب، المولودة عام ١٩٥١، وفيروز كثيرة، من أسلوب الأداء والوقفة وحتى تفاصيل الانطلاقة. صعدت عايدة السلم الذي مرَّت به نهاد حداد، ساعدها توفيق الباشا وزكي ناصيف، وكلاهما اسمان كبيران في تاريخ نهاد. اعتقد الأخوان رحباني أنهما وقعا على بديلة فيروز، بعدما التقيا بها عبر برنامج ساعة وغنية الذي كان يتبناه إلياس الرحباني، وبدآ يجهزانها لمهمة كبرى لا تقل أهمية عن مطربة لبنان الأولى. 

في ١٩٧٤ تلقت عايدة اتصالًا من عاصي. طلب منها زيارة إلى مكتبه، وبدا أنها فتاة خجولة ومحافظة منذ اللقاء الأول. ذهبت برفقة أخيها وفوجئت بوجود فيروز وفيلمون وهبي مع عاصي ومنصور: “شعرت بخوف ورهبة كبيرين، وخفت كثيرًا حين طلبوا مني أن أغني، ولما انتهيت، قالوا جميعًا: ’برافو … يعطيكِ العافية.’” دارت الأيام حتى عام ١٩٧٩، العام التالي لطلاق فيروز وعاصي، حين “جاء غسان الرحباني وكان لا يزال شابًا صغيرًا، يقول لي: عمو عاصي عايزك.” مجلة المسيرة، العدد ١٦٤٠. 

“قال لي عاصي: ’هَيدي أول مرة بدنا نعمل شي تليفزيوني بلا فيروز، وعندنا ٣ أحصنة، واللي بيسبق بيربح.’” كانت الأحصنة الثلاثة عايدة شلهوب ورونزا وفاديا طنب. سبقت عايدة وربحت، وتقول إن رياض شرارة اتصل بها وقال إن التليفزيونات العربية تسأل عنك: “من هذا الوجه الجديد والصوت الحلو؟” المصدر السابق.

أخيرًا، وجد عاصي بديلة فيروز، حتى أنه جعلها تتصدر أداء قصيدة بعدنا نقصد الكروم – التي غنتها مع رونزا وفاديا طنب – في المقاطع الفردية، وبدأ منصور يطير بصوتها مردِّدًا “آه يا ست عايدة”، وبشَّر بها الموسيقار عبد الوهاب حين سمع أغنية ليلة الوداع التي جمعتها بملحم بركات ورونزا – حين كان اسمها مجهولًا للجميع: “الصوت الذي غنى الكوبليه الثالث أمامه مستقبل واعد.”

كان حفل عيد الجيش الوطني الأردني عام ١٩٨٣ آخر أعمال عايدة مع الرحابنة، ثم غادر اسمها سجل مطربات الدرجة الأولى في لبنان بهدوء. ذكرت عايدة أنها “مش هينة، وبحب الشغل عذوقي”، وأنها حين فكرت في مستقبل مسيرتها وجدت الخيارات محدودة، الرحابنة وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وبضعة أسماء أُخرى، أكبر من أن تمنحها الحرية الفنية التي تحتاجها، وفي نفس الوقت لا يوجد ملحنون أكثر مرونةً وبنفس الكفاءة، لذلك سيكون خروجها من مساحتهم كخروج السمكة من المياه، فآثرت التوقف عن الغناء وتفريغ شغفها الموسيقي في مجالات أخرى، كعملها كمايسترو وتدريسها الغناء المستمر حتى هذا اليوم.

“كان حفل الجيش الأردني آخر تعاون مع الرحابنة لأنني أحترم مواهبي وقدراتي الفنية وتعوّدت أن أكون مميّزة أينما حللت، ومع الرحابنة لم أجد مكاني الذي أستحقه، لم يميّزوني، وأعطوني ما أعطوه لغيري.” قالت عايدة بعد سنوات، مؤكدةً مرة أخرى أن المشكلة الأكبر تكمن في محاولات الأخوين استنساخ التجربة الفيروزية.

عفاف راضي

بدأت الحكاية عام ١٩٦٦. حضر الأخوان رحباني إلى مصر برفقة فيروز وأختها هدى، وحضر الأربعة اختبارًا للأصوات الجديدة. سمعوا عفاف راضي وهي طالبة في الكونسرفتوار، عرضا عليها الانضمام إلى الفرقة الشعبية لكنها اعتذرت عن السفر إلى لبنان بسبب ظروف الدراسة، ولأنها ما تزال صغيرة.

بعدها، حاولت التجربة الناصرية صناعة فيروز مصرية، فكانت عفاف الأقرب إلى حالتها. يعتبر عبد الناصر ميلاد فيروز خارج مصر “من أخطاء القدر”، بحسب كتاب محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة، حيث يروي الأديب يوسف القعيد قصة اهتمام ناصر بصوت عفاف راضي. طلب عبد الناصر من هيكل – وزير الإعلام في ذلك الوقت – “الاهتمام بمطربة جديدة اسمها عفاف راضي لمواجهة ظاهرة فيروز.”

جرَّب بليغ حمدي حظه في صناعة ثنائي – سياسي وفني – على طريقة الرحابنة وفيروز، فاختار عفاف راضي ولحَّن لها عدَّة أغاني، حتى ذبح عاصي أحلامه ليثأر من فيروز، وأعاد عرض مسرحية الشخص، التي ظهرت لأول مرة عام ١٩٦٨. اختار عاصي أمل دنقل ليكتب المسرحية وبعض أغنياتها بالعامية المصرية حتى تناسب فيروز المصرية، والتقت رغبته مع رغبة عفاف في أن يتبناها صانع نجوم تسمع أن له الفضل في صناعة فيروز. عُرضت المسرحية عام ١٩٨٢ ببطولة عفاف راضي.

كانت المسرحية بداية ونهاية المشروع الرحباني المصري، وآخر المحاولات الرحبانية الكبيرة للخروج من عباءة فيروز. انتشرت أخبار عن خلافات بين الأخوين وعفاف راضي. ربما عاملاها بتصوّراتهما عنها منذ أن كانت تلميذة في الكونسرفتوار، بينما هي – في الثمانينيات – من نجمات الغناء المصري، وغير محتاجة لأن تكون فيروز. وقتها أجرت صحيفة الحوادث اللبنانية حوارًا مع منصور الرحباني وسألته: “الناس تقول إنكم تتعاملون مع عفاف راضي لأنها فنانة معروفة بعد أن فشلتم في صنع فيروز ثانية من عايدة طنب”، فثار منصور: “لا يا آنستي، الناس أذكى من أن تقول ذلك، ومن غير المقبول منك أنت الفتاة المثقفة أن توجّهي إلي مثل هذا السؤال. إنه سؤال مرفوض وافتراض مرفوض أيضًا.”

المزيـــد علــى معـــازف