البزق معازف بحث دراسة سيبيمول يونس
دراسات

في أصل البزق وأصوله

سي بيمول يونس ۱۵/۰۱/۲۰۲۰

كون البزق آلة تصنع يدويًا، فكل بزق فريد من نوعه، ولا يوجد أي مقياس لصنعه. ينتمي البزق حتى الآن إلى التقليد الشفهي؛ لا يزال منهجه غير مكتوبٍ ولا يُدرّس، وتعبر أسرار هذه الآلة بأمانة من الأستاذ إلى التلميذ. يصدر البزق صوتًا مثيرًا للإعجاب وقويًّا بالنسبة إلى حجمه الصغير وشكل مربع الصوت الخاص به. هذا واحد من الجوانب العديدة التي تجعله آلة فريدة من نوعها للاعبين والجمهور. تحيط بالبزق الألغاز بسبب ندرته وأصوله الغامضة، والتقاليد الإبداعية التي نمت حوله وقلة لاعبيه واستخدامه في العديد من الأنواع والثقافات، وحتى وقتٍ قريب لم يكن هناك مساحة مركزية يمكن من خلالها تبادل المعلومات حول البزق، عندما بدأ الناس بمشاركة مخطوطات وتسجيلات ذات صلة بالبزق وغير ذلك من الوثائق. جمّع عشاق الآلة تسجيلات خاصة ولقطات أرشيفية نادرة وصورًا فوتوغرافية وقصصًا، يتشاركونها أحيانًا في ما بينهم، ويشكلون مجموعة صغيرة من اللاعبين والمبدعين. تبقى الدراسة العضوية والموسيقية في البزق محدودةً مقارنةً بالدراسات لبعض الآلات الأخرى في الموسيقى العربية مثل العود والناي والقانون.

رغم أن هذه الآلة ترتبط بقوة بالموسيقى الشعبية والموسيقيين من الدرجة الدنيا والغجر، فقد حقق بعض لاعبي البزق نجاحًا بارزًا على مستوى العالم العربي خلال القرن الماضي. أثّرت مشاريع تسجيل الفونوجراف على وجه الخصوص على نهوض ثلاثة فنانين سنركز عليهم: محي الدين بعيون ومحمد عبد الكريم ومطر محمد، الذين أصبحوا الآن نموذجًا لمعظم العازفين. سيكون هؤلاء الثلاثة أساسيين في هذه الدراسة، لأنهم، بطريقة ما، أرسوا قواعد استخدام البزق وأثّروا بشكل مباشر أو غير مباشر في غالبية العازفين الحاليين في الشرق.

الفصل الأول | الآثار الأولى للبزق

ظهرت الآثار الأولى للعود ذي العنق الطويل (البزق / الطنبور) في بلاد ما بين النهرين، لكن علماء الآثار لا يزالون غير متأكدين من أنها تأتي من هذه المنطقة: “أصولها غامضة، لكن بالتأكيد ليست سومرية رغم وجود التماثيل والمنقوشات. إيران احتمالٌ أكبر لأن الكثير من الأعواد ممثلة على الطين أو الأختام الأسطوانية من سوسا.”[Mtooltip description=” Marcelle Duchesne-Guillemin, Music in Ancient Mesopotamia and Egypt, World Archaeology, Vol. 12, No. 3, Archaeology and Musical Instruments (Feb., 1981), pp. 287-297 Published by: Taylor & Francis, Ltd” /]

مخطوطة من كتاب الآلات الموسيقية ومنازلها لـ ماري إي براون وإم دبليو آدمز براون

تعود رسومات العود إلى حوالى عام ٥٠٠٠ قبل الميلاد، وتُظهر الوثائق البابلية نوعين من الأعواد، يحتوي الأول على صندوق صوت بيضاوي، والآخر أقصر، مع صندوق صوت أكبر مستطيل تقريبًا. يبدو أن الموسيقى والرقص كانا من وسائل الترفيه الشعبية في عصر بلاد ما بين النهرين. سواء على المستوى الشعبي أو بين النخبة، كان لكل فرد ارتباط مساوٍ بالموسيقى.

في مقالة هارفي تيرنبول: أصل العود طويل العنق (The Origin of the Long-Necked Lute)، ورد أن بعض الأكاديميين مثل جوان ريمر وويلهيلم ستاودر يقترحان احتمال ألّا تكون أصول العود طويل العنق من المنطقة العليا لبلاد ما بين النهرين، بل من “أهل الجبال الهمجية إلى الشمال الشرقي منهم”[Mtooltip description=” Harvey Turnbul, The Origin of the Long-Necked Lute, The Galpin Society Journal, Vol. 25, p 58, Galpin Society, 1972″ /]يقترح ستاودر القوقاز باعتبارها موطن العود الأصلي، مرجحًا أن يكون الهندو أوروبيون أنفسهم قد استخدموه قبل وصولهم إلى بلاد ما بين النهرين: “مع ذلك، لا يعتبر هؤلاء رواد العود؛ لقد كانوا مسؤولين عن جلبه إلى بلاد ما بين النهرين، وفي هذه العملية لعب الحوريون الدور القيادي.”[Mtooltip description=” المصدر السابق.” /]

في كتاب الموسيقى الكبير، يميز الفارابي بين نوعين من العود الطويل: 

١ – الطنبور البغدادي: ويعرف باسم الطنبور العربي، صغير الحجم ذو وترين، ولديه أيضًا ١٦ تقسيمًا على الرقبة. يذكر الفارابي أيضًا أن هذه الآلة محدودة، وأن معظم الأغاني المؤلفة لها متشابهة (الموال البغدادي والموال الإبراهيمي هما اللحنان الأكثر عزفًا على الطنبور البغدادي)، كما ينصح اللاعبين بإيجاد طرائق جديدة لاستكشاف هذه الآلة والعثور على أساليب جديدة في العزف.

٢ – الطنبور الخراساني: يُعرف أيضًا باسم الطنبور الشرقي، ويستخدم في تركيا وبلاد فارس وبلغاريا. طنبور بثلاثة أوتار، وبما يصل إلى ٣٠ تقسيمًا في العنق، ما يجعله أداة “مكتملة تقريبًا” كما يصفها الفارابي؛ وبسبب تطوراتها العضوية والتقنية، يمكن أداء جميع المقامات عليها بسهولة.

الأصل اللغوي

هناك مجموعة متنوعة من النظريات حول أصل كلمة بزق، سنقوم بالإفادة عن بعضها.

اليونانية

من الشائع التفكير، بسبب التشابه بين البوزوكي اليوناني والبزق الشرقي، أن هاتين الآلتين أثرتا الواحدة في الأخرى، أو اشتُقّت إحداهما من الأخرى. مع ذلك، يبدو أن هذه معلومة غير صحيحة لأن كلا المصطلحين ظهر في وقتٍ واحد، بما يوحي بأنهما مستمدان من نفس أصل الكلمة.

العثمانية

إحدى النظريات السائدة هي أن البزق وصل إلى بلاد الشام مع العثمانيين بداية القرن السادس عشر، وأن الاسم يأتي من اللغة التركية. النظرية اللغوية المركزية، التي تقوم حيالها بعض الاختلافات، هي أن بزق (Buzuq) يأتي من الكلمة التركية بُزُك (bozuk)، والتي تعني مكسورة. وفقًا لتقاليد البجلاما التركية (البجلاما هو البزق التركي)، هناك دوزان شائع الاستخدام في منطقة البحر الأسود يُعرف باسم تكسير الدوزان (bozuk düzen). 

التفسير الثاني بحسب علم أصول اللغة التركية هو أن البزق يأتي من القوة العثمانية التي تسمى باشي-بازوك. كان الباشي بازوك جنديًا غير منتظم في الجيش العثماني، نشأ في زمن الحرب. جُنّد هؤلاء بشكل أساسي من الألبان والبلغار والأكراد والشركس، ويمكن أن ينتموا أيضًا إلى مجموعات عرقية أخرى. كانوا معروفين بشجاعتهم وانضباطهم، و“وحشيتهم”، وكانوا “غير مقيدين باللوائح التي تحكم الجنود النظاميين للجيش، واشتهروا بمهاجمة المدنيين.”[Chisholm, Hugh, Bashi Bazouk, Cambridge University Press, 1911]

الإيرانية

يمكن أن يكون لهذه الآلة أيضًا أصول في زمن الإمبراطورية الفارسية حتى القرن السادس قبل الميلاد، حيث قد يكون للكلمة الفارسية بزرگ (bozorg)، التي تعني الكبير، تأثير على اسم الآلة. النظرية حول أصل الاسم هي أنه يأتي من التعبير الفارسي “الطنبور كبير الحجم” (tanbur e bozorg)، مع العلم أن البزق أكبر من معظم الأعواد ذات العنق الطويل المنتشرة في إيران (مثل السيتار، أو التار أو الدومبرا). 

الكردية

النظرية الكردية غير المتداولة هي الأكثر منطقية، الأمر الذي يجعل بعض الأكراد يعتبرون أن هناك قصورًا في معظم الأبحاث حول تاريخ الكلمة وأصلها. بالنسبة إليهم، هي مشتقة بوضوح من الكلمة الكردية المماثلة بُزُك أي ​​البطن البارز؛ وكلمة بزق غير موجودة في أي قاموس لغوي غير قاموس اللغة الكردية، ويأتي اسمه من شكله، لأنه يشبه الرجل ذا البطن.

التوثيق الأول لكلمة بزق

صك يُظهر ٥ أنوع مختلفة للبزق من كتاب وصف مصر لـ ويليام أندريه فيلوتو (١٨٠٩)

كان العود طويل العنق دائمًا جزءًا من الآلات الموسيقية التقليدية في الشرق الأوسط منذ أيام بلاد ما بين النهرين القديمة وحتى يومنا هذا. المهم في هذه الدراسة هو الوقت الذي بدأ فيه استخدام كلمة بزق بالتحديد للإشارة إلى هذه الآلة. نجد في كتاب ويليام أندريه فيلوتو (William André Villoteau): وصف مصر (Description de  L’Egypt – ١٨٠٩)، صكًا يشير إلى أن هناك على الأقل خمسة أنواع من الأعواد الطويلة في مصر، والتي تختلف في الحجم والعضوية، دون أسماء محددة مكتوبة بجوار الصك، لذلك نحن لسنا متأكدين من أن كلمة بزق استخدمت.[Mtooltip description=” يتكون عمل هذا المؤلف من سلسلة من المنشورات، ظهرت عام ١٨٠٩ واستمرت حتى ظهور المجلد النهائي عام ١٨٢٩، تهدف إلى فهرسة جميع الجوانب المعروفة من مصر القديمة والحديثة.” /]

يرجع تاريخ أول وثائق لكلمة بزق بالإنكليزية (buzuq) إلى عام ١٨٨٨ في مخطوطة أعدها جامعا الآلات الموسيقية ماري إي براون وإم دبليو آدمز براون في كتابهما الآلات الموسيقية ومنازلها. رغم كتابتها bizug وbuzuq، يمكننا أن نفترض أن الكلمة قد استخدمت بالفعل في ذلك الوقت لتسمية الطنبور السوري. هذا مثير للاهتمام، لأن معظم الباحثين أوضحوا ظهور كلمة بزق في بداية القرن العشرين، وتثبت هذه الوثائق العكس. يمكننا أن نستنتج، بسبب نقص المخطوطات الموجودة، أن استخدام كلمة بزق يمكن أن يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر وحتى قبله.

حالة عازف البزق

بعكس الأهمية الروحية للسيتار في إيران، أو الأهمية الدينية للدوتار في موسيقى قبائل البخشي في خراسان أو تركمانستان، أو حتى قيمة الدومبرا في الثقافة الكازاخستانية حيث يوجد مثَل شهير واسع الانتشار: “الكازاخستانية الحقيقية ليست الكازاخستانية، الكازاخستانية الحقيقية هي دومبرا.”[Mtooltip description=” Xavier Hallez, Saïra et Abdulkhamit Raïymbergenov, Le chant des steppes, musique et chants du Kazakhstan, Paris, Éditions du Layeur (ISBN 2-911468-78-3)” /] ارتبط البزق دائمًا بالغجر، والغجر من الشمال الشرقي (إيران وأوزبكستان وتركيا)، ويُطلق عليه اسم عود البدو[Mtooltip description=” Tranchefort, Francois-Rene, Les instruments de musique dans le monde I, Inedit Musique, 1980, p.160.” /]. أولئك الذين أحضروا معهم أدواتهم، وعادة ما يأتون من أسر فقيرة وطبقات اجتماعية دنيا. في الواقع، بعكس الشعب الكازاخستاني، هناك مثل شائع يستخدم في لبنان: “الإفلاس من أبو طنبورة”. حيث يُنصح دومًا عازف البزق في لبنان باختيار آلة أخرى من المفترض أن يكون لها قيمة أكثر، لأن البزق كان يشير إلى الغجر والطبقة الدنيا. خلافًا لمعظم الآلات العربية التي كانت لها منهجيات واضحة ودراسات مكتوبة لعدة قرون، فإن البزق كان ولا يزال مهملًا من قبل معظم الموسيقيين العرب. لم تكتب منهجية لهذه الأداة، ولم تُدرّس في مدارس الموسيقى والمعاهد الموسيقية الرئيسية في لبنان، فبقي لاعب البزق الطموح في حيرة من أمره بشأن كيفية تعلمه، بالاعتماد بشكل أساسي على تقليد الصوت وإيماءات اللاعبين الآخرين.

الفصل الثاني | صناعة البزق و مكانه في علم الآلات الموسيقية

هذا الفصل مخصص للتعريف بالبزق من وثائقه الأولى إلى يومنا هذا. سنستكشف الجوانب المختلفة لعلم الآلات الموسيقية في البزق، من خلال تحليل عناصره الهيكلية ودراسة كيف تطورت هذه العناصر مع مرور الوقت فاختلفت من لاعب إلى آخر، مع الإشارة إلى الاختلافات العضوية الصغيرة التي أثرت على هذه الآلة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.

في الصورة التالية يمكننا أن نرى بزقين، مملوكين للملحن اللبناني عاصي الرحباني، أصلحهما نزيه غضبان عام ٢٠١٢. الأول من تصميم دكران نجاريان عام ١٩٤٧، والآخر لسليمان دياب (أبو عصام) عام ١٩٧٢ في أنطلياس لبنان. هذان البزقان مثالان مثاليان على التغييرات التي حدثت، رغم أن الفرق بين فترة تصنيعهما ٢٥ عامًا فقط.

نلاحظ هنا أن البزق الأول على اليسار هو على شكل بيضاوي (pair shaped)، ما يبدو منطقيًا، مع العلم أن البزق هو على الأرجح تطور للآلات الأخرى ذات العنق الطويل، مثل السيتار أو الساز، ولكل منهما جسم بيضاوي (paired)؛ في حين أن البزق الموجود على اليمين اتخذ شكلًا مستديرًا، فريدًا من نوعه عن غيره من الأعواد الطويلة في المنطقة. بالتالي، حدثت ثلاثة تغييرات رئيسية للبزق:

– الأول استدارة جسده. بحلول سبعينات القرن العشرين، اختفى الشكل القديم للبزق الكمثرى، ويبدو أن جميع الصناع تبنوا الجسم الدائري للبزق، مع وجود دائرة في الوسط (rosette)، تمامًا مثل العود، ربما لتمييزه عن غيره من الآلات الموغلة في القدم في المنطقة.

– التغيير الثاني – والذي سنتناوله بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث – هو زيادة عدد الدساتين (Frets) على العنق من ١٦ إلى ٢٨.

– الثالث هو التغيير الذي يظهر عند كاحلَي الآلة (chevilles). كان هذا التغيير على النموذج الذي بدأ عموديًا على نفسه ومصنوعًا من الخشب أو العاج حتى أصبح محاذيًا ومقسّمًا إلى قسمين أو ثلاثة من كل جانب، كما أنه مصنوع من الخشب (خشب الأبنوس أو خشب الورد أو خشب البقس أو مواد أخرى) أو أحيانًا الحديد.

الدوزان

يُزوَّد البزق بوترين مزدوجين (tonic, dominant)، والنظام المستخدم تقليديًّا في معظم أنحاء الشرق الأوسط هو راست ٤ للوتر الأول ونوا ٢ نوا ٣ للثاني. مع ذلك، يضيف بعض الموسيقيين وترًا ثالثًا (راست ٣ راست ٤) يستخدم عادةً كوتر رنان للأول. ليست السلسلة الثالثة الإضافية شائعةً بين لاعبي البزق اللبنانيين، بعكس أجزاء من سوريا والعراق بسبب تأثير الثقافات المجاورة. مع ذلك، يسمح العديد من الموسيقيين اللبنانيين لأنفسهم باستكشاف أنظمة دوزان جديدة للبزق، أو اعتماد أنظمة مماثلة لتلك المستخدمة في تركيا أو إيران. يعد نظام راست نوا راست الأكثر شيوعًا للبزق بثلاثة أوتار. من ناحية أخرى، يتأثر نظام راست نوا دوكاه بشكل مباشر بنمط معين من البجلاما يسمى باجلاما دوزِني (Bağlama düzeni)، يسمح للاعب باستخدام عنق البزق بشكل عامودي وأفقي عن طريق إضافة الدقة والسرعة والسهولة، وكذلك السماح للاعب بإضافة الكوردات (chords) إلى اللحن.

الدساتين

بعكس الآلات الأخرى التي جرى التعامل معها منذ فترة طويلة في المنطقة، يُمنح القليل من الاهتمام والانتباه للبزق، وبالتالي لا توجد طريقة محددة لتقسيم عنقه.

الطول المعتاد لزند البزق حوالي ٥٠ سم، لكن بإمكاننا أن نجد العديد من آلات البزق مع أقسام مختلفة على الزند، سواءً بسبب الشركة المصنعة أو بناءً على طلب العازف. أما الدساتين فمتصلة ومحمولة، وبالتالي لدى اللاعب القدرة على تحريكها للحصول على الصوت الذي يفضله.

الريشة وبدن الآلة

لا يوجد ريشة تستخدم فقط للبزق. لدى اللاعب العديد من الخيارات للعثور على ما يراه الأفضل. في معظم الأحيان، يستخدم اللاعبون ريشة الساز والبجلاما المستوردة من تركيا (طول ٥ سم، عرض ١ سم) حيث يجب على اللاعب الإمساك بها بالإبهام والسبابة. تختلف هذه الريش في السماكة والمواد، بعضها مصنوع من البلاستيك اللين والبعض الآخر من البلاستيك الصلب أو الكاوتشوك. يفضل الآخرون استخدام ريشة العود، التي تعد أطول بثلاثة أضعاف من ريشة البجلاما (طولها ١٥ سم، عرضها ١ سم) حيث يجب أن يمسكها اللاعب بكل أصابعه، وتتوفر أيضًا بأحجام وأشكال مختلفة.

اللبنانيون بشكل خاص غير تقليديين في اختيار الريشة، والسبب في ذلك هو الحرب اللبنانية. والدي، الذي عمل كموسيقي طوال الحرب اللبنانية، علمني عندما كنت صغيرًا إيجاد أنسب قطع من البلاستيك لاستخدامها كريشة، يمكن أن تكون من قناني الشامبو والأكياس البلاستيكية والقمصان وأشياء أخرى. تطورت هذه العادة مع الموسيقيين خلال الحرب بسبب الحواجز ونقاط التفتيش، ما دفعهم (وغيرهم من الفنانين) إلى الاعتماد على أنفسهم لإنشاء الأدوات اللازمة. يبدو أن هذه العادة قد أصبحث إرثًا للجيل الجديد من الموسيقيين، وبخاصة عازفي البزق، بما أننا نلاحظ بوضوح أنواعًا عديدة من الريش المستخدمة للبزق المصنوع من أنواع مختلفة من البلاستيك.

صُنعت الآلة من أنواع كثيرة من الأشجار: التوت، الجوز، الكستناء، الروز، الأبنوس، الماهوجني، الأرز، خشب الساج، الحلبة، شجرة التنوب والمشمش. يجب أن تبقى هذه الأخشاب في غرفة في درجات حرارة معتدلة، صيفًا وشتاءً، لمدة لا تقل عن خمس سنوات، قبل استخدامها لصناعة البزق. يضمن خلوّ الخشب من الماء والزيت زيادة عمره الافتراضي، وبالتالي حسن جودته. يتكون الجزء العلوي من البزق من قطعتين متطابقتين ملصوقتين من الخشب، مع فراغ في المنتصف. يُصنع مقبض البزق من نوع قوي من الخشب لضمان القوة والملمس الناعم.

الفصل الثالث | عازفو البزق

بعكس معظم الآلات الغربية والعربية، لا توجد موسيقى محددة للبزق. لا يوجد ريبرتوار لهذه الآلة. المقطوعات الشهيرة لعازفي البزق هي عمومًا أغانٍ لبنانية وسورية شعبية أو مقطوعات من تأليف عازفي بزق محترفين، على سبيل المثال مقطوعة لما يغيب القمر، وبعض الأدوار وأجزاء أخرى من ألبوم أونلي فور كينجز لعام ١٩٦٩ من تسجيلات ڤي أو إس لـ مطر محمد وغير ذلك. يمكن أيضًا اعتبار رقصة الشيطان لمحمد عبد الكريم قطعة مهمة يتعلمها لاعبو البزق عندما يصلون إلى مستوى متقدم. الأغاني الشعبية مثل لا إنت حبيبي ونسم علينا الهوا لـ فيروز والأخوين رحباني والعديد من الأغاني الشعبية السورية واللبنانية الأخرى، معروفة عمومًا على أنها موسيقى البزق، لكن من المؤكد أن تصنيفها ضمن فئة موسيقى البزق قد يثير جدلًا بين علماء الموسيقى العرب.

على كلٍ، تميز القرن العشرون بإقبال ملحوظ على البزق في الموسيقى العربية، ما حسّن من مكانة الآلة. في هذا الفصل الأخير، نستعيد الجولة التي مر بها البزق على أيدي الموسيقيين الذين أثّروا في مسار هذه الآلة ومدى انتشارها.

محي الدين بعيون (١٨٦٨ – ١٩٣٤)

ولد في بيروت لعائلة محافظة، وكان معجبًا بالفنون وخاصةً الموسيقى. تعلم العزف على العود والبزق من خلال متابعة الموسيقيين في بيروت، كما تلقن بالتقاليد الشفهية. تلقى دروسًا من عازف القانون أحمد البدوي، ثم التفت إلى الموسيقى والشعر حتى أصبح من الروّاد.

مع صوت قوي ومجموعة متنوعة من المواهب اشتهر بعيون بشكل خاص باختياره من القصائد المعروفة وتقديم رؤية جديدة لألحانها على البزق وحده، كما في قصيدة ومواسح.

ما يميز محي الدين بعيون أنه كان الوحيد الذي يغني ويعزف في نفس الوقت، وكان متمكنًا من الاثنين. لم يكرر ذلك غيره لصعوبة فصل الحواس الذي يتطلبه العزف بالطريقة الأفقية على زند البزق الطويل مع الغناء. لو استمعنا إلى أي تقسيم يعزفه محي الدين نلاحظ هدوءًا وترويًا في العزف كما نستمتع بريشة ناعمة و خفيفة، بعكس معظم العازفين.

محمد عبد الكريم (١٩١١ – ١٩٨٩)

ولد عبد الكريم، الملقّب بأمير البزق، في الخضر الشعبي في حلب عام ١٩١١. كان والده علي أحد عازفي البزق والعود المعروفين في حلب، وتوفي بعد عامَين من ولادة ابنه. نشأ محمد على يد شقيقه، وهو أيضًا لاعب عود محترف. في الرابعة عشرة، أصيب محمد بجرح خطير في ظهره بسبب حادث فتوقف نمو جسمه. بعد هذا الحادث، أمضى أيامه ولياليه في التدريب على البزق.

قبل بضعة أشهر من الثورة السورية عام ١٩٢٥، غادر محمد إلى مصر مع العديد من الموسيقيين المهمين. قابل محمد القصبجي وزكريا أحمد وداود حسني وآخرين. خلال إحدى أمسياته في القاهرة، أثار إعجاب ممثل شركة الأسطوانات الألمانية أوديون ريكوردز، الذي عرض عليه تسجيل موسيقاه. عام ١٩٢٩، طار إلى ألمانيا وسجل ٥ أسطوانات، بما في ذلك التقاسيم وبعض القطع الموسيقية. ثم ذهب إلى باريس، ثم إلى إيطاليا حيث عزف الأغاني النابولية الشهيرة على البزق، فأثار إعجاب الجماهير التي أطلقت عليه لقب باجانيني البزق[Mtooltip description=” وزارة الثقافة, الهيئة العامة السورية للكتاب, 2011, ص. 192 صميم الشريف – الموسيقى في سوريا اعلام و تاريخ p. 192)” /].

عام ١٩٤٠، دعاه راديو القدس إلى الافتتاح الرسمي. أعجب المدير البريطاني للمحطة الإذاعية ببراعته وعرض عليه وظيفة وراتبًا في المحطة. أثناء وجوده في فلسطين، ألف العديد من المقطوعات، بما في ذلك تانجوّين لـ ماري عكاوي، تانجو الوفاء وتانجو يا جارتي ليلى من أعمال الشاعر جلال زريق، الذي حقق نجاحًا كبيرًا. في وقتٍ لاحق، قدمت فايزة أحمد التانجوَين. في نهاية الحرب العالمية الثانية عاد إلى دمشق، حيث عمل في الإذاعة كلاعب بزق، وخصصت له وصلة عزف مدتها ١٥ دقيقة كل يوم جمعة.

يُذكر عبد الكريم بشكل خاص لرغبته في توسيع القدرات الصوتية للبزق. كان غير راضٍ عن الحالة الهيكلية للآلة في ذلك الوقت، واشتهر بإضافة المزيد من الدساتين حول العنق، من ١٦ إلى ٢٧ للحصول على التجويد والرنين الصوتي الأفضل. فتح هذا التغيير آفاقًا جديدة للبزق. لم يكتف عبد الكريم بذلك بل غيّر طاسة البزق وجعلها من خشب الموندرين، وكانت معظم آلات البزق حينها من صنعه.

إلى جانب الموسيقى الشرقية، كان محمد عاشقًا للموسيقى الكلاسيكية، وخاصة الفترة الرومنطيقية التي امتدت من نهاية القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر. إذا استمعنا مثلًا لمعزوفة رقصة الشيطان لآلة البزق، أول ما نلاحظه وجود موضوع (theme) للموسيقى، الشيء الذي كان نادرًا ذلك الحين في بلادنا، وغير مسبوق من ناحية أن محوره الشيطان. تذكرنا المعزوفة أيضًا بالفترة الرومنطيقية التي كان محمد متأثرًا بها وبمواضيعها، مثل لعنة فاوست (The Damnation of Faust) لـ هيكتور بيرليوز (١٨٠٣ – ١٨٦٩)  ورقصة الموت (Danse Macabre) لـ كاميل سان سانس (١٨٣٥ – ١٩٢١)  والكثيرين غيرهم. لا تتبع المعزوفة هيكلًا واضحًا، حيث تبدأ الرقصة بهدوء وبطء ثم تتسارع تدريجيًا لتجعلنا نشعر بالخراب والفوضى اللذَين سببتهما تلك الرقصة، مع استعمال الكروماتيك والنشاز (dissonance) أحيانًا لفرض هذا الشعور.

مطر محمد (١٩٣٩ – ١٩٩٥)

وُلد مطر محمد في سهل البقاع اللبناني عام ١٩٣٩ من عائلة من الغجر العرب، علمه والده البزق وهو في السابعة من عمره. بدأ مسيرته في البرامج الموسيقية العربية لهيئة الإذاعة البريطانية في الستينات، ما أدى به إلى المشاركة في العديد من المسرحيات الموسيقية، الأولى عام ١٩٦٤ بعنوان أرضنا إلى الأبد، إخراج نزار ميقاتي وتأليف أسعد سابا ومارون كرم. ثم شارك في البرامج الموسيقية للملحن والمخرج روميو لحود. ألف مطر بعد ذلك العديد من الأغاني لفنانين مختلفين، مثل أخدوا الريح وأخدوا الليل لـ صباح عام ١٩٧٣، وقلبي يهواك يا أسمر يابو الجدايل لـ جوزيف عازار وعيونِك حلوين لـ جوزيف نمنم.

لا أعرف عازف بزق لم يمض ساعات في مشاهدة عزف مطر لفهم أسلوبه وإصبعه والطريقة التي يقسّم بها. استخدم وترين فقط، لكنه استفاد من كل تفاصيل البزق حتى وصل إلى أقصى إمكاناته الموسيقية. مستمدًا من تقليد ينتقل من الأب إلى الابن، دون أي تدريب أكاديمي، أظهر مطر براعة في تقديم رؤية مختلفة ومرتكزة على البزق للأنماط الكلاسيكية للموسيقى الشرقية، مثل الأعمال الفلكلورية والأغاني اللبنانية السورية التقليدية. أيضًا، قدم مطر مقامات كانت نادرًا ما تُعزف ومنسية تقريبًا، مثل اللامي وسيكاه البلدي، وارتجل عليها بشكل ملفت. وصل إلى ذروته الموسيقية عام ١٩٧٠ مع سلسلة من الحفلات في مسرح المدينة في بيروت. 

عاصي الرحباني (١٩٢٣ – ١٩٨٦)

درس عاصي لمدة ست سنوات مع الأب بولس، وتعلم مبادئ النظريات الموسيقية والألحان الشرقية والدينية، مع الاستمرار في تعلم تكوين ونظريات الموسيقى الغربية مع البروفسور برتران روبييه. كانت أول آلة موسيقية له هي الكمان ثم البيانو، يليه البزق.

بعد زواجه من فيروز عام ١٩٥٥ ونجاحهما الهائل كزوجين موسيقيين، دفع عاصي البزق اللبناني إلى جميع أنحاء العالم، لأنه كان الآلة الرئيسية في معظم أعماله ويمكن أن يعتبر أيضًا صورة العلامة التجارية للزوجين. يشبه أسلوب الأخوين الرحباني إلى حد ما أسلوب الأوركسترا الكلاسيكية، التي تُضاف إليها بعض الآلات الشرقية، مثل الناي والدف. هكذا، إلى جانب البيانو وآلات النفخ و الوتريات، نجد البزق عازفًا للنغم الرئيسي، وغالبًا ما يرافق صوت فيروز. بثّت أغانٍ، مثل لا إنت حبيبي ونسم علينا الهوا وفايق يا هوا، البزق في جميع أنحاء العالم العربي. رغم أهميته في تقاليد الموسيقى العربية، يمكننا ملاحظة أن الأخوين رحباني لم يستخدما العود في ألبوماتهما الثلاثين وأكثر، إلا نادرًا.

زياد الرحباني (١٩٥٦ – )

لم يشتهر زياد الرحباني بكونه عازف بزق، لكنه أول من جرَّب إمكانات الآلة في أنواع غريبة عنها. عام ١٩٨٥، أصدر زياد الرحباني ألبوم أنا مش كافر مع شركة راير (RARE)، بما في ذلك مقطوعة بحرف الشين، التي نلاحظ فيها أول محاولة لإدخال البزق في عالم الجاز. في هذه المقطوعة، البزق هو العازف المنفرد، متبوعًا بسطر بايس متزامن (Walking Bassline) وإيقاع سوينج على الدرامز. أثرت هذه القطعة الصغيرة، التي تبلغ مدتها دقيقة واحدة وعشر ثوانٍ، على لاعبي البزق ليخرجوا من الأشكال التقليدية. بعد صدور الالبوم، بدأت العديد من المحاولات لاستعمال البزق بشكل مختلف وعصري، بحيث لا يكون مصحوبًا فقط بآلات الإيقاع مثل الدف أو الرق والناي. أصبح البزق يُعزف في أنواع موسيقية مختلفة من حيث النمط و التوزيع، كما في حالة العازف الفلسطيني طارق عبوشي وفرقة شوسمو، أو ميشال إليفتريادس والأخوين شحادة اللذان قدما البزق في مركز أمامي مصحوبًا بتوزيع يشابه مرةً الجاز وأُخرى الموسيقى الأميريكية اللاتينية و غيرها من الأنماط. 

لا يزال العديد من الناس يُدهشون عندما يرون البزق، حتى في بلاد الشام حيث ترددت أنغامه منذ مئات السنين. منذ لمع نجم محي الدين بعيون في مطلع القرن الماضي وحتى اليوم، لم نقطع إلا بضع خطوات على طريق فهم هذه الآلة المهملة المكوّنة من وترين والمملوءة بالألغاز. أُجريَت مقابلات مع عازفين، باحثين و صنّاع بزق، إلى جانب الاستماع لتسجيلات فونوجرافية قديمة والبحث في المخطوطات وتحليل الأيقونات القديمة، للعثور على المعلومات، غير الكافية بعد، التي بني عليها هذا المقال، على أمل أن تظهر منهجية كاملة للبزق المزدوج الأوتار والثلاثي الأوتار في المستقبل القريب.

المزيـــد علــى معـــازف