fbpx .

في حديقة برجوازية | الشاب خالد كما سمعه يوسف رخا

يوسف رخا ۲۰۱٦/۰۱/۰۵

صورة الغلاف بعنوان Night Traffic, 2015 من تصوير يوسف رخا.

لا أذكر من لقائي الوحيد بالشاب خالد إلا الأضواء الليلية الباهرة والتراب على الحشيش. لا أذكر المكان، لا أذكر السَنَة. كنا في أرض مفتوحة في القاهرة ذات صيف. وكحال أي تجمع في الهواء، كنا محاطين بالجنود. الكيوف لا يظهر منها إلا تأثيرها. وزجاجات المياه تباع بالشيء الفلاني.

لكن حين يبدأ خالد في أداء الأغنية المصرية التي كان شارك عمرو دياب غناءها – “قلبي متعلّق بيكي وأنا سهران بأناديكي سايباني لوحدي ليه” – أتأكد من جدوى اللحظة.

المسألة ليست فقط في تحول مخارج ألفاظ الغرام المبتذل عن مسارها. القاف المنطوقة والياء المقضومة والمدّ الذي يأتي إما مضغوطاً كالقصر أو مفخّماً عشرة أضعافه: كل هذا يمنح الكلمات وقعاً ليس لها، وينقل الإحساس من مساحة المُنتَج الرخيص حيث الموسيقى المعلّبة في خدمة شيء مصنوع إلى الفضاء الصوتي الذي خرجت منه التحية لـ “صحاب البارود والكارابيلا”، وتقطعت على أحباله “نبغيك” أو “ها هي ولات… ها هي جات” بكل أصالتها شقاً في الصخر.

لا أظن خالد كان في حالة تجلٍ تلك الليلة، لكنه كان خالد. ومع أنه لا يقل تجارية عن “الهضبة لقب يطلقه المعجبون المصريون على عمرو دياب” في التحليل الأخير، فلكونه خالد معنى تلمسه حتى وهو يغني “تأدية واجب” في حديقة برجوازية بعيدة عن مدينة وهران قدر بُعدها عن حومة بارباس.

إنه خالد وإن كان، مثل الهضبة أيضاً، نجم بوب: ذلك اللاشيء السمعي الذي يتسلل إلى الأذن مثل المياه الغازية إلى سقف الحلق، يحيل على الارتواء والطعم وربما النشوة أيضاً. لكنه فقط ماء بسُكّر.

فبالإضافة لفجاجة اللهجة الوهرانية الظاهرة لدى القائل “ما عندي/حاجة في الناس” ربما أكثر من غيره – وحتى في أغنية نمطية مثل دي ديأو عايشة- ثمة تينورمعجون بالرمل والحصاة قادر على نقل أدق الطبقات دون أن يتخلى عن شوائبه ولا قوامه النيئ، الصقيل: “أنا إنشالله/ديما لاباس/واللي هدر خفّف لي ذنبي…”

الشاب خالد من هذه الزاوية هو علامة الراي على تباين صوره واختلاطه بأجناس موسيقية متعددة. إنه غناء نيئ كاللغة التي يغنَّى بها، كما يجب أن يكون – “إنتِ سبابيوسباب بلايا/وعلى شانك إنتِ راني نسوفري” – ومن حظ آذاننا أن مغنيه لا يستطيع أن يفقد هذه الصفة حتى حين يتعمد فقدانها تماهياً مع قاعدة السوق القائلة بتغليب اللاشيء على أي شيء محتمل. هكذا…

في حديقة البوب العربي – وعلى طرف النقيض من الموسيقى التصويرية لمشهد التسلق الاجتماعي حيث التظاهر بالاستمتاع في مقابل الاستسلام الصادق لسطوة صوت يتسم بالمقدرة، وعلى طرف النقيض من كل ذلك النغم المنفوخ هواء، وعلى طرف النقيض خصوصاً من الديابية المتكئة على طرب عبد الحليمي لا تجرؤ على استدعائه صراحة، المترنحة دون أن تكون منتشية – شيء يخرج من وجع الغربة وأشواق الفقراء.

ثمة مخارج ألفاظ وتينور فريد، لكن ثمة أيضاً تراثاً مغاربياً للأداء: الملحونوالبدويثم الوهرانيفضلاً عن راي سيدي بلعباس القديم، راي القصبة، الشيخة ريميتي ثم مسعود بلمو ودريسي العباسي… إلى أن نصل – عبر “وهرَن” قبل أن “تروح خسارة”، عبر باريس والبحر والحرب ومصارع العشاق من أمثال الشاب حَسني – لجيل عبد القادر(ان دو تروا سولاي ) والشاب مامي. وحينها يكون الراي تحول إلى شيء آخر.

يحضرني هنا أن الراي القديم كان – مثل المزودفي تونس والشعبيفي القاهرة – يقترن بالهوامش الإباحية والبذيئة بذاءة التمرد والتجاوز في مجتمع حريص على الإيحاء كذباً بانضباط متنه، ويتعرض لخبرات وسبل تواصل لا يُسمح بعرضها في الواجهات.

وفي صوت خالد – حتى وهو يغني “قلبي متعلق بيكي” – كل تلك الإباحية والبذاءة، كل ذلك التاريخ من الفجائع، كل ذلك التراث الأبيض بياض الزبد والأزرق زرقة المياه. لم أعرف أغنية البابورحتى لفت نظري لها صلاح باديس: “البابور قلّع/اخرج من البور… روّحت فوق جهدي/أنا قاطع البحور…”

إنه تراث مختلف عن الطرب العسملي حد التناقض رغم اختلاطه بذلك التراث حد التوحد كذلك. فحيث يغمغم مطرب “الزمن الجميل” ليوحي بما لا يحسه تجد قائل الراي يصرخ بعفوية المضروب لتوه على الرأس. وحيث يركب المطرب على “البطانة” الموسيقية ليجمّل صوته، يفرض الشابعويله السائغ على الخيوط الموسيقية المتنامية من حوله مثل شبكة عنكبوت.

حين تسمع الشاب الخالد يرد على عمرو دياب داخل الأغنية الواحدة، ترى شيئاً من الحقيقة يطل من خلال الزيف. وحتى الطرب الأصيل نفسه، رغم كل أصالته كذلك…

الطرب مقابل الراي هو الهمهمة مقابل النداء، الضحكة الرقيعة مقابل شهقة الأورجازم، لزوجة الشعور المصطنع مقابل دفقة ما يعض القلب في وسطه.

لقد علّمنا خالد أننا لسنا وحدنا في العالم. علمنا مزايا السفر وإن كان لجوءًا غير شرعي، وفائدة الصبر على لهجة عربية لا يمكن أن نفهمها لأول وهلة – وربما لا نفهمها وقد صبرنا عليها – لكنها تهز فينا أشياء لم نكن نعرف أنها هناك. لقد علمنا خالد أن فجاجة السطح هي نفسها عبقرية القاع. علمنا اختلاط الثقافات بلا أي حاجة إلى “ثقافة”، وعلمنا إمكانية الانتصار على البوب من داخله.

ومن لقائي الوحيد بالشاب خالد أذكر أيضاً أنني أردت أن أراه عن قرب. فقط أراه. الضوء الأبيض الباهر وخضار الأرض المشوب بطبقة رمادية. كنت أزحف. لعلني لم أكن أزحف حقيقة وإنما فقط أزاحم الأجساد المتكتلة من أمامي، لكنني في الذاكرة أزحف باتجاه المسرح الذي يقترب شيئاً فشيئاً – والصوت يحركني، وتلك الابتسامة التي تغفر كل شيء في مواجهة السامعين – حتى اقتربت وهو يقول “أمان أمان” أو “يا ليل”. شيء بهذه البساطة.

وحتى اليوم، مع أنني لا أكاد أذكر شيئاً من لقائي الوحيد بالشاب خالد، لا أشك أبداً في جدوى اللحظة.

المزيـــد علــى معـــازف