في حياتك مستحيل | داليا مبارك

ذكرت السعوديّة داليا مبارك في مقابلة العام الماضي أنها تحن إلى تسجيلها أغنيتها الضاربة الأولى قلبت الطاولة، وأن الشغف بدأ يذبل عندما تحول الغناء إلى مهنة والتزام. في وقت تسجيل المقابلة، كان عمر مسيرة داليا أربع سنوات، لكنها تحدثت عن الشغف والمهنة وكأنها قضت عمرًا من الصراع بين ما تحب وما يجب أن تحبه كي تحافظ على ازدهار مهنتها، ولم تكسب. تكتمل الصورة في مقابلة بعد صدور ألبومها القصير هذا العام، تحدثت فيها عن وجود نزاعات مستمرة مع شركة الإنتاج حول اختيارها لأغانٍ “ما توكّل عيش” بحسب المنتجين، وأنها وصلت إلى نوع من التوازن في إصداراتها. من الصعب أن تكسب داليا هذه النزاعات مع المنتجين في بداياتها، لكن لا شك أنها اليوم صاحبة صوت مسموع.

يتكون الألبوم من خمس أغانٍ جميعها بلحن ياسر بوعلي، تقدّم خمس وجوهٍ مختلفة للفراق، لتمثّل مشروعًا مُحدّد الملامح للمطرب والملحّن، يرسم صورة أكبر من مجرّد مجموع أجزائه. تقص الأغاني تبعات الفراق على علاقتين متوازيتين. تمتد العلاقة الأولى الانفعاليّة على الأغاني الأولى والثالثة والخامسة، حيث تبدأ القصّة بفراقٍ بعد نزاعٍ وإهانات: “يعني إنك صدق لاهي واللي جابك حاجتك”، ثم لقاءٌ بالصدفة يعجز فيه الحبيب السابق عن التصرف بشكل لائق، وتُختتم بآخر محاولاته اليائسة لوصل ما انقطع: “لا طحت من عيني وش اللي يشيلك.” ليس في العلاقة الثانية طرفٌ مذنب: “اللي مثلي من يلومه لا نوى شد الرحال / واللي مثلك من يلومه لا جبرني ع الرحيل”، ويغلب حلو ذكرياتها على مرّها بعد زمن.

قدّم كلٌّ من الجادل والعالية وقوس وأحمد الصانع هذه النصوص بمفرداتها المميزة الوقع وموسيقاها الداخلية، والتي تحوِّل فقرها بالصور والمجازات إلى إحدى أبرز ميزاتها. حتى حين ظهرت الحاجة لصورة تنصف الحالة، جاءت بأبسط شكل وأصدق تأثير: “خوفي ماهو من طريقي في متاهات الرمال / خوفي الذكرى تجيني كنها قاطع سبيل.”

وضع ياسر بوعلي ألحان عدّة من أفضل أعمال المغنين الذين تستمع داليا إلى إصداراتهم باستمرار، مثل رابح صقر ونوال الكويتية وراشد الماجد وماجد المهندس. ربما كانت حكّم ضميرك لماجد المهندس السبب وراء حرص داليا على جمع بوعلي والموزع هشام السكران في أغلب أغاني الألبوم. لم ترغب داليا فقط بالحصول على ما حصل عليه غيرها، لذلك جعلت المشروع مشتركًا بينها وبين بوعلي، لتحصل على تشكيلة تتفوق بمجموعها على كل نتاجاته قبلها.

يخصص ياسر بوعلي لكل أغنية بنية لحنية خاصة، والمشترك بين البُنى أنها تجعل لإعادة النغمة الواحدة وقع نغمةٍ جديدة. تُقتتح أول أغنية، وينك الليلة، باللازمة الرئيسية النابضة التي تتكرر مرتَين، وتتكوّن من ١٨ بيتًا، يقطّعهم بوعلي إلى ثلاثة أجزاء، ثمانية أبيات فثمانية – موحّدة اللحن – فاثنين، ويعامل البيتَين الأخيرَين معاملة جزءٍ ثالث لمنح الختام بهما نكهةً خاصّة. للأغنية الثالثة، أبد ما هو، بنية مشابهة. على كل حال، ياسر بوعلي أبرع من أن يكرر البنية بشكل كامل، فيضيف لمحة من روح المجس الحجازي بإعادة الكورال أول بيتَين من كل جزء من الأربعة بلحنٍ ودرجة مختلفَين، ويجعل لها مقدمة مختلفة عن اللازمة التي تزيّن منتصفها.

تتميز تمر البال، رابع الأغاني وأشجنها، بحالة سكينة تغلفها نصًا ولحنًا. يُقدّم هنا ياسر بوعلي أبسط بنية، مقدمة تحيطك بالحالة ولازمة متهادية جذّابة بين المقاطع الثلاثة الموحدة اللحن، مع اعتماد الأول مذهبًا، وتقديم تقطيع لحني لافت للبيت الثالث من كل مقطع يتجدد بريقه كل مرّة.

منح ياسر بوعلي كلًّا من هشام السكران وخالد عز موادًا لحنية ثريّة تستثير الصياعة التوزيعية، والمنافسة. أظهر خالد عز مهارةً في اختيار أصوات الإيقاع، خاصةً الكاتم وصوت الرنين المعدني، كما كان لإدخاله الربابة والساكسفون في لوازم أغنيتَيه أثر فارق في روح وجاذبيّة الأغنيتَين. تميزت رؤية خالد عز في تمر البال باختيار إنتاج يبدو معه صوت الأغنية مترددًا في فضاءٍ واسع مكّنها من احتضان المستمع. تفوّق السكران بكونه أكثر شغفًا بالأغاني، فنجده معلنًا مع أول أغنية أن هذا ألبومٌ مختلف، مفتتحًا إياها بسطور جيتارَين أكاوستك وإلكتريك في قمة التقليدية لـ ٥ ثوانٍ تمنح المستمع ما اعتاده، قبل مفاجأته في الثانية السادسة بالدخلة غير الاعتيادية والنابضة للكيبورد والربابة.

في الأغاني الثلاثة التي وزّعها هشام السكران، يظهر ولعه بتكثيف أثر كل قفلة، كما في خفض كثافة الأصوات في نهاية بعض الأبيات في وينك الليلة. رغم ميله الواضح للتكثيف الصوتي بالآلات الحية وأصوات وتأثيرات الكيبورد بتوفيق بينهم، يتفادى السكران فخ المبالغة بهذا الميل في غير مكانه، حيث يمنح أغانيه قدرًا محسوبًا من الأصوات طوال الوقت، ليس بينها ما يملأ الفراغات دون مشاركة محسوسة في الحالة والأثر.

قضت داليا في تسجيل الألبوم ١٥ يومًا نامت بعضها في الستوديو، وصرحت بعد صدور الألبوم أنها تعتبر هذا التعاون مع ياسر بوعلي ولادةً فنيةً جديدة لها. بسماع الألبوم يتضح أن حكاية النوم في الستوديو ليست دعائية – تفانت داليا لتقديم عمل راضية عنه بالكامل، تتحقق فيه الوعود التي نقرأها من آرائها وأحاديثها، عمل لا يقتصر على تجميع أغانٍ راقت للمطرب، بل يحمل ثيمة محددة يعلنها العنوان وتغطي الأعمال مختلف وجوهها. دفعت داليا ملحنًا وموزعًا فذَّين مثل ياسر بوعلي وهشام السكران إلى تحدي نفسَيهما لأن هذا ليس تعاونًا اعتياديًا مع مطرب، بل مشروعٌ يخصهما بقدر ما يخصّها. النتيجة خمس أغانٍ عمادها الموسيقى الجيدة، لا الإيقاعات الخليجية المعتادة؛ دون التضحية بخصوصية الروح المحلية التي تستعيد هنا مكانتها وجاذبيتها نصًا ولحنًا، بعد أن كانت مقتصرة في أغلب الأحيان على تلك الإيقاعات.