ع الأحباب ساطع | أبرز استعادات قمر له ليالي

يمكننا أن نلمس بسهولة البهجة التي تحدثها قمر له ليالي في قرارة كل من يسمعها، والتي جعلت قمر داوود حسني متجدد الظهور في التقليد الغنائي المصري. الأغنية في قالب الطقطوقة، وهي اصطلاحًا الأغنية الخفيفة التي تصاغ كلماتها بوزن بسيط ينعكس بساطةً في اللحن. المفردات والتراكيب فيها آتيةٌ من عاميّة مصر قبل قرن على الأقل من وقتنا. يظهرُ هذا في كلمات مثل: لم يُبالِ، القمارى، بأحسن وسيلة، غاب عني حِبّي، وأحفظ ودادي. فضلًا عن كسر آخِر كلمة الأحباب بعد حرف الجر كما لو كان السياق فصيحًا لا عاميًّا، والذي كان شائعًا في الغناء ليتسق الوزن.

اختار داوود حسني مقام الراست الميال إلى الفرح، منصفًا الكلمات المبهجة وحالة السهر والبال الرائق. كلٌّ من الجُمل اللحنية الأربع الأولى تراوح مكانها في أربع درجات من سلّم الراست. تُبنى الثانية على الأولى مترسمةً خطاها، ثم تنتهي حيث تبدأ الثالثة منزاحةً في خطواتها عن سابقتيها وممهدةً لحل التوتر القصير، الذي يأتي مع الجملة الرابعة الاستنتاجيّة. هذا التوتر النغمي القصير والبسيط يذكّرنا بالتيمات اللحنية الأساسية في أغاني الأطفال الغربية مثل أولد ماكدونالد هاد أ فارم ورو يور بوت، حيث تكفل البساطة والقِصَر في هذه التيمات – مع قلة التنويعات المؤداة عليها في هذه الأغاني – سهولة الحفظ والتعلُّق بالذاكرة، وتتحول هذه الأغاني مع تكرارها إلى ما يمكن تسميته بحق دودًا للأذن Earworms اصطلاح غربيّ يصف الأغاني التي تعلق بأذن المستمع. هنا مكمن عبقرية أغنيتنا التي نحن بصدد استعراض أبرز استعاداتها المختلفة منذ ظهورها في العقد الثاني من القرن الماضي.

ربما تكون من أشهر نُسخ الأغنية المغناة بصوت حامد مرسي، وهي الأكثر احتفاءً بالزخارف الصوتية، حيث تحتشد العُرَب في نهاية كل شطر ومع حروف المد بمهارة مرسي ومحاكاته بهجة الطقطوقة، محققًا أعلى إفادة من مساحات الارتجال. كما يُلاحَظ أنه يغني وكأنّه يشد نهايةَ الشطر نغميًّا وإيقاعيًّا إلى نهاية المازورة في النوتة ثم يثبتها بالعُرَب.

نسخة الراحل محمد العِزَبي لم تخلُ من الحليات الصوتية وإن كانت أكثرَ اقتصادًا بالمقارنة مع حامد مرسي. لكنّ توزيعها تميز بخطوط نغمية مضافة إلى اللحن في المقدمة والفواصل، وفي مصاحبة صوت العِزَبي. كما جاءت كلها في مقام الراست كامتدادات طبيعية للحن، وتميزت بحكم الزمن باستخدام الأورج (الكيبورد) بصوت أرجن الجاز Jazz Organ.

في نُسَخ الكورال نكتشف إلى أي مدى يمكن للأداء الغنائي الجماعي أن يخنق مُتعَتَي الأداء والتلقي. فأنت مضطر بحكم غنائك مع الكورال ألاّ تسرح وراء أهوائك الأدائية – التي ربما تكون عبقرية – حتى لا يضطرب النسيج الصوتي الجماعي. ربما تطرح هذه الرؤية لطبيعة المنتَج الموسيقي الصادر عن الكورال سؤالًا حول جدوى الغناء الجماعي من الأساس إن لم يكن لغاية تحقيق هارموني أو كنترابنط.

حين نسمع الأغنية بصوت سوزان مهدي مع فرقة الموسيقى العربية للتراث بقيادة المايسترو فاروق البابلي، يبرز اقتصاد المطربة في الزخارف الأدائية بشكلٍ يبدو محسوبًا وواعيًا، فهي تقتصر على قليلٍ من أنصاف النغمات الزائدة فيما يسمى في التقليد الموسيقي الغربي أتشاكاتورا Acciaccatura أو النغمات اللطيفة Grace Notes كما يتضح مثلًا في أدائها لألف المدّ في كلمة ساطع في نهاية جملة “ع الأحباب ساطع”، مع تركيزها على شكلٍ من أشكال الأداء الحركي البسيط المصاحب للغناء، ما قد يذكرنا بأداء العوالم لهذه الأغنية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بكل ما يرتبط به في وعينا الجمعي من سلطنة ودلال.

نختم حديثنا بنسخة سمير الاسكندراني، وهي النسخة الوحيدة التي تعتمد على توزيع مختلف وجملٍ لحنية افتتاحية جديدة تقبل البناء عليها لعمل مقدمة پوليفونية. يبدأ التوزيع الجديد بجملة في مقام النهاوند يعزفها الجيتار الكهربائي، تتسع رقعتها اللحنيّة تدريجيًّا كحجرٍ أُلقي في الماء، ليرد الأورج وتتكرّر الجملة كالسؤال والجواب المحير الذي لا يصل بنا إلى قرار. يتولد هذا الإحساس لأن الجملة تبدأ بالصول (النوا) وتنتهي تارةً بالمي بيمول (درجة الكردي) وتارةً بالرِّي (درجة دوكاه)، ولا تصل أبدًا لنغمة ركوز النهاوند وهي الدو (الراست). تنتهي المقدمة من الجيتار بعد هذا التكرار بالوصولِ إلى الصّول (النوا)، ليُسلم ببراعة الأورج الذي يبدأ عزف اللحن الأساسيّ للأغنية في مقام الراست. درجة النوا هي الدرجة الخامسة في كلٍّ من مقامَي الراست والنهاوند، وهي الدرجة التي تُسمى في موسيقانا (الغمّاز) وفي الموسيقى الغربية دوميننت Dominant، لأنها تلي في الأهمية درجة الركوز التي تسمى الأساس أو تونيك Tonic. المهم أن اختيارها للوقوف والتسليم يصل بنا إلى أقصى ما نستطيع توقعه من اللحن الافتتاحي للنهاوند، ويهيئنا لدخول الراست من منتصفه إن جاز التعبير. هذا يشبه في الأدب – بشكلٍ ما – أن تبدأ الرواية في منتصَف الأحداث لنجد أنفسنا غارقين في تفاصيل أحداثها من البداية.

يتكرّر لحن المقدمة الجديدة بين فواصل الأغنية ليذكرنا دائمًا بأن هذه ليست الأغنية الأصلية كما أبدعها داوود حسني، وإنما نحن أمام حالة تأمل لما كان. فالحاضر ينظر إلى الماضي بمنظاره الخاص جدًّا، وهو هنا مقام النهاوند الذي لا يخلو من رصانة مناسبة لحال التأمل والتذكر التي نحن بصددها.

بعد انقضاء ثلاث دقائق ونصف من هذا التسجيل لنسخة الاسكندراني، تنطلق الفرقة في تنويعة قصيرة على اللحن الأساسي، لكنها في مقام آخر من مقامات ثلاثة أرباع التون، هو مقام الهزام المرتكز على درجة السيكا، بكل ما يحمله هذا المقام من لوعة، وتستمر هذه التنويعة فقط لمدة ١٥ ثانية تعود بعدها الفرقة إلى التنويع على مقام الراست الفرِح.

هناك أيضًا دور النحاسيات في أداء المردّات أثناء غناء الاسكندراني، وفي أداء جملة المقدمة النهاوند بين الفواصل. ربما لأن النحاسيات بعيدة بشكل ما عن نسيج اللحن الأصلي كما وضعه داوود حسني، تخلق حالة أشبه بالبرواز الحديث لصورة قديمة، لكنه برواز لا يخلو من وجهة نظر واعية وقصدية واضحة لإبراز جمال اللحن الأصلي. يتضافر مع هذا البرواز صوت الاسكندراني الأغلظ من أصوات معظم مشاهير الطرب المصري الذين سبقوه إلى غناء هذه الطقطوقة.