.
ساهمت في كتابة هذه المراجعة نور عز الدين وهلا مصطفى.
عندما شاهدت ستوري عصام وهو يتهم ترافيس سكوت بسرقة بيت أغنيته بابيلون، خطرت ببالي العبارة المغربية “حس راسو” أو “راسو كبر” التي تشير إلى الغرور والتورط بمواجهاتٍ كبيرة. للوهلة الأولى، اعتقدت أنني أشاهد ضربة ترويجٍ قوية وموفقة لألبوم عصام الطويل الأوّل كريستال، الذي نزل بعدها بأيام، لكنني غيّرت رأيي عندما استمعت إلى الألبوم مطولًا خلال الأسابيع الماضية. يبدو عصام واثقَا مما يفعله؛ أعلن سابقًا في أغنيته الضاربة تراب بلدي: “من درب سلطان عصام فنان فاك لمريكان”، وها هو ألبومه الأوّل يسعى إلى إثبات نديّة المشهد المغربي مقابل نظيره الأمريكي بفضل الصعود الكاسح مؤخرًا للـ تراي.
كانت العودة إلى الراي وإنعاشه من أبرز ملامح موجة غامرة من الراب المغاربي، شهدنا خلالها صعود الراب والتراب كالجنرا الأكثر شعبيةً في تونس والمغرب والجزائر خلال العقد الأخير، خاصةً السنوات المتأخرّة منه. من سنفارا إلى سولكينج وإلجراندي طوطو، كنّا نصادف مزيجًا من التراب والراي في كل مرةٍ نلقي نظرةً فيها على قائمة الأغاني الأكثر سماعًا على يوتيوب في هذه الدول. سكّ عصام مصطلح التراي عام ٢٠١٩ في أغنيته ما كاينش الزهر: “شحال جينيال الراي / نهار بغيت موسيقتها تراكنا ولات تسما تراي”، وقال في مقابلةٍ سبقت صدور ألبومه إنّه يعلّق آماله على التراي كأسلوبٍ بدأ يشكّل جنرا فرعيّة مستقلّة بحالها في المغرب.
نشأ الراي في الغرب الجزائري، وبلغ أوجّه المحلّي في وهران قبل أن ينتشر عالميًا، بعد أن فكّ ارتباطه مع قصائد الملحون التراثية وانفتح على استعمال الكيبورد والساكسفون والجيتار الكهربائي. غامرت بعض أسماء الراي الكبيرة خلال التسعينات مثل خالد وحسني ومامي بإعادة تدوير ألحانٍ من أغاني المنوّعات الفرنسية (chansons de variété)، واستعمال أسلوب الـ فرانكو-آراب الذي يدمج بين الفرنسية واللهجات المحلية (ظهر قديمًا في دول المغرب خلال الاستعمار الفرنسي). يسلك عصام طريقًا مشابهة نحو التجديد، عبر فكّ ارتباط التراب المغاربي بثيمات العصابات وأساليب التبجّح، ليفتحه على مواضيع عاطفية مستلهمة من الراي.
يمشي عصام على خطى الشاب حسني، الذي أشار إلى الراي في إحدى المقابلات بكونه “موسيقى حنينة”، فيقول عصام في هالدشي غادي سالي: “صوتي كيخرج ليك لوف.” طفح الألبوم بأغانٍ مترعة بالعاطفة، وحلّت السنثات الأثيرية مكان أصوات الكيبورد الجاهزة في الراي التسعيناتي، لنشعر في بعض لحظات الألبوم وكأننا نستمع إلى راي تجريبي، كما في أغنية سويت لوف التي ينشد بها عصام بصوتٍ مشبع بالريفرب.
يذكّرنا عصام أيضًا بأسلوب الشاب مامي عند اقتباس زخارفه المرتعشة وطريقة أدائه في مقطع “تا من كلب وسط داري شحال كلاو فيه” في أغنية لا فيل دو مرفاي، التي استوحى عصام عنوانها من أغنية مامي أو بايي دو مرفاي. عُرف مامي لتطريبه الفريد وعُرب صوته المختلفة مقارنةً بِحسني وخالد. يدفع عصام تأثّره بمامي إلى مدًى أبعد عندما يظهر كمغني راي تسعيناتي في هالدشي غادي سالي؛ ترافقه أسطر سنث فيما يصطبغ صوته برجفةٍ جذابة عند لازمة الأغنية.
بالطريقة التي نصّب بها الراي وهران كمدينته الروحيّة كما في أغاني خالد ومامي، يحمل عصام مدينته الدار البيضاء إلى مكانة مماثلة ويصوّرها كعاصمة رمزيّة للتراي. يقول في لا فيل دو مرفاي: “كازابلانكا رِست آ لا في / هي ليا كا تشوف مالي / هي تداويلي حالي”، ليذكّرنا بأغنية ١ ٢ ٣ سولاي “سيدي عبد القادر داويلي حالي”، ليتحدث عن كازا باللغة التي تحدث بها الراي عن أيقوناته.
تساعد هذه الإشارات الكثيفة إلى الراي بتثبيت طابع التراي في الألبوم خلال السماعات الأولى، لكنها تتسبب بلحظاتٍ من التكرار تغدو أوضح مع السماعات اللاحقة. تسبّب احتفاء عصام المفرط بالشاب مامي بالحدّ من تنوّع الألبوم في بعض الأحيان، كان هناك اقتباس غنائي من شاب خالد كل أغنية وأخرى، وتردد ذكر كلمة راي بوتيرة عالية حتى أصبحت تبدو كتأكيدٍ مهووس وواضح على هويّة الألبوم المحليّة.
هذا لا يعني أن حضور الراي بقوّة أنتج ألبومًا ذو صوتٍ أحادي ومتشابه. خرج عصام باستمرار إلى جنرات أخرى مثل البوب في ميا والغناوة في هادا راي، وحافظ على حضورٍ قوي للتراب في أغانٍ مثل في وجهنا الديب وبابيلون وتشامبيون. يقطّع عصام بارات التراب في إلقاءٍ متهدّج، ويميّز فرساته بـ آدليباته الشهيرة المعقّدة سمعيًّا. حتّى جمهور الراب في المغرب، انتهى بترك علامات استفهام مكان العديد من الأسطر التي لم يستطع أحدهم حتّى الآن فكفكة كلماتها على صفحة الألبوم على جينيس.
عاد عصام في الألبوم إلى التعاون مع منتجين عمل معهم سابقًا مثل ثايمنكتين وآدم كاي، كما عمل للمرّة الأولى مع المنتج الباريسي مجهول الهويّة برنس ٨٥، المعروف لتعاوناته مع ذ ويكند و٢١ سافج وليل واين من بين آخرين. أنتج برنس ٨٥ أغنية بابيلون التي أصبحت محل جدل عصام مع ترافيس سكوت، كما أنتج كريستال ووشام جناه جود. تباهى عصام على إنستجرام بالتعقيد الإنتاجي للأغنية الاخيرة، التي يتداخل فيها ١٣ صوت هارموني تخترقهم أصوات أربيجياتور متسارعة مع عينات معدّلة ومقطّعة من صوت عصام في الخلفيّة، ليسفر المزيج عن أغنية تكاد تكون مثالية إنتاجيًا. يتخمّر عصام مع زخم الأصوات ويطلق تأوهاتٍ تستحضر أجواءًا صوفيّة وهو يموّل: “عرقي كينزف كل نهار في الاستوديو مان.” كسرت مثل هذه الأغاني سياق الألبوم المفاهيمي المتمحور حول التراي، وأعطت المستمعين دفعات طاقة غير متوقّعة في كل مرّة انطلق فيها عصام نحو آفاقٍ جديدة.
في ٢٠١٨، أصدر عصام أغنية كافيار، التي رافقها فيديو من إخراج إلياس غريّب لفت انتباه محبّي الأغاني المصورة بشكلٍ فوري. أخرج عصام كافة أغانيه اللاحقة بنفسه بدايةً من تراب بلدي؛ انطلق من أسلوب كافيار وأضاف إليه وغيّره قليلًا في كلّ فيديو جديد، كما أفسح مساحة أكبر للموضة في هويّته البصريّة، ليعزل نفسه عن بقيّة المشهد عبر اختيار مصادر إلهامه بعناية. ترافق ألبوم كريستال بفيديو واحد، حتى الآن على الأقل، لأغنية ورا الطبيعة. حمل الفيديو الكثير من الثيمات المشتركة مع مواضيع الأغاني كالشياطين والوحوش والملائكة والهلاوس، والتي يحاربها عصام ويحللها بشكلٍ مشابه لفيديو كافيار، أي ضمن حدود الأسرة. لو تجاوز عصام غرفة الجلوس وخرج عن بيت العائلة، فهو لا يبتعد أكثر من حدود الحي.
عبر الفيديو، يرى عصام العلاقات العائلية على أنها عقدة الأحداث، فضمن العائلة كما يختار أن يراها هنالك شخصيات معقدة ومتلونة، تظهر متنكرةً بالكامل أحيانًا قبل أن تكشف لبضعة ثوانٍ غير ملحوظة عن وجهٍ آخر. تظهر شخصية عصام مثلاً بقرون شيطانية من بداية الفيديو، ثم تُغافلنا في نهايته في لقطةٍ سريعة ينتزع خلالها أحد قرونه ويتلمس مكانها بغرابةٍ، وكأنها خيار كاذب منحه لنفسه لبث الرعب في الآخرين دون أن ينسى حقيقته، أو كأن هذه العائلة هي من حوّلته إلى الشيطان. يمنح عصام جميع الشخصيات تصنيفات رمزية من خلال إكسسوارات وأقنعة بدائية وبسيطة للغاية، تبدو كمجاز يفضح مدى سطحية وطفولية هذه التصنيفات، أو مدى كوميديتها حتى. يغص الفيديو برمزياتٍ كثيرة، بعضها يسهل تأويله وبعضها يبقى غامضًا؛ يضفي جميعها طبقة من التعقيد على الألبوم، وتلعب بعضها دورًا في تفسير ألغازٍ مبعثرة في أغانٍ أخرى.
هل سرق ترافيس سكوت بيت أغنية من عصام؟ لا يهم، فعند سماع الألبوم يتكشف لنا أن عصام يحاول سرقة بقعة الضوء من التراب الأمريكي وتسليطها على المغرب، على التراي، على كازا وعلى نفسه، ويحقق نجاحاتٍ مبهرة في كل واحدة من هذه السرقات. كريستال هو ألبوم سنعود إليه كثيرًا لقياس إصدارات التراي اللاحقة، ولتقدير مساهمته في رحلة المشهد المغربي نحو العالميّة.