.
هذا الجزء الثالث من سلسلة مقالات حول تاريخ الدَب. سيصدر جزء من السلسلة يوم الأربعاء من كل أسبوعين.
دقق رودي ريدوود، صاحب نظام صوت سوبريم رول ساوند، في القرص الأسود بين يديه، ملاحظًا قطره الأقصر ببضعة بوصات عن قرص الموسيقى العادي. ألقاه على مشغّل الأقراص، ليصبح واحدًا من أهم المخاطرات الرابحة التي لعبها مع الحشد الراقص، ومع الموسيقى بالعموم.
كان هذا القرص واحدًا من أقراص الدَب بلايت قرص استخدمه منتجو الموسيقى في جامايكا لنسخ الموسيقى الحصرية التي يملكونها. كان يُستخدم عادةً في اختبار التسجيلات قبل إتقانها لضغطها لاحقًا على أقراص الفاينل التي اشتهر ديوك ريد بتصنيعها. بفضل خطأ تقني ارتكبه مهندس الصوت بايرون سميث في استديو تريجور آيل سنة ١٩٦٧، اختفى صوت رجال فرقة ذ باراجونز الثلاثة عن أغنية أون ذ بيتش. أعجب الحشد بالموسيقى الآلاتية وغنّى معها بحرية، ما دفع ريدوود إلى إعادة لعبها سبع مرات تلك الليلة. عاد في اليوم التالي إلى ديوك ريد لطلب المزيد من هذه المقطوعات، مقترحًا وضعها على الوجه الثاني من كل قرص فاينل.
عند نهاية الستينات، دخل استديو تريجور آيل في مرحلة إنتاج هذه “النسخ (versions)”. تهافت المنتجون على الحصول عليها، ما اعتبره ديوك مصدر ربحٍ ماديٍّ جديد، فاهتم بالشق التجاري، واكتفى بقطع الأغاني ونسخها لمهندسي الصوت.
بعد سنة من حادثة مهندس الصوت، عيّن ديوك مهندسًا كهربائيًا جديدًا، أوزبورن رودوك. عمل الأخير منذ بداية الخمسينات مع معظم مالكي أنظمة الصوت، ولقِّبَ بـ كينج توبي. جاءت تسمية الملك من قدرته على الغوص في أحشاء مكبرات الصوت، قطع الأسلاك وإعادة توصيلها، حتى يصل الصوت إلى الدقة المطلوبة.
عمل توبي على تصليح الأجهزة الكهربائية، من الراديو والتلفاز حتى آلات تحميص الخبز. مع بداية الستينات، أسّس نظام صوته الخاص، هوم تاون هاي فاي (Hometown HI FI)، واشتهرت حفلاته القليلة بجودة المكبّرات التي صنعها وعدّلها يدويًا. كما بنى جهازًا لبث الراديو، وأطلق موسيقى السكا على إذاعة مقرصنة، قبل أن يقفلها خوفًا من الشرطة.
في استديوهات تريجور آيل، عمل كينج توبي على إزالة صوت الغناء عن مقطوعات الريجي، وفصلها عن باقي الأصوات باستعمال الفايدرز على ميكسر ديوك ريد التقليدي، ثم نسخها على أقراص خاصّة سُميت لاحقًا بالـ ريدِمز، كلمة مشتقة من الإنكليزية rhythm، ما وضعه على تماس مع المنطقة ما بين الموسيقى والتكنولوجيا.
سنة ١٩٧١، حصل توبي على آلة مزج MCI (في الصورة المرفقة)، مخصصة لفصل مساقات الموسيقى قبل نسخها على أقراص الدَب بلايت. عاد يومها إلى منزله في منطقة كينجستون ووترهاوس، دخل إلى غرفة نومه ونظر إلى المساحة الضيقة، ثم انهمك بإفساح مجالٍ بين أثاثه، حتى توسط الجهاز الغرفة. عمل توبي لساعات على توصيله بمكبرات صوته المُعدلة يدويًا، عالية النقاء، كما حوّل حمامه إلى غرفة تسجيل للأصوات. تحولت المساحة الضيقة تدريجيًا إلى وحدة كاملة لمعالجة الصوت.
قطع توبي الموسيقى وفرزها على اثني عشر مساقًا على الميكسر، استعان بماكينة تشغيل رباعية المساقات (4TRACK –PLAYER AMPEX) لزيادة عدد المساقات المتاحة، كما استعان بمسجلَي صوت، واحد لتشغيل الصوت والثاني لتسجيل العينات الجديدة. على الميكسر، حرَّك توبي الأزرار لخفض ورفع مستوى النغمات في كل مساق، مع إبقاء صوت الإيقاع على نفس المستوى. تلاعب بمخرج تأثير الريفرب لخلق مؤثرات صوتية فوق الموسيقى. القليل من الصدى هنا، بعض التأخير في الصوت هناك، بدأ توبي باستكشاف تأثيرات آلة المزج.
آتيًا من خبرته في تصليح آلات تحميص الخبز، وفهمه لحركة الدارات الكهربائية في المعدات، فكفك توبي مقطوعات الريجي إلى نماذج وعينات صوتية. عرف لاستخدامه فيلتر التمرير العالي (هاي باس فيلتر، يستخدم لعدة استعمالات منها السيطرة على ترددات أجهزة الراديو) لتغيير تصميم الصوت عبر اللعب بتردداته كهربائيًا. غيّر توبي فهمنا عن استخدام استوديو التسجيل بعد أن حول ميكسره الخاص إلى آلة موسيقية بين يديه، ومكّنته معرفته الموسيقية والإلكترونية من تطوير واحد من أول استديوهات المزج والإتقان في العالم، والذي كان شاهدًا على ولادة الدَب.
اختلف معنى كلمة ديجاي في جامايكا، فالـ ديجاي هنا هو المتحدث، أو التوستر (toaster)، بينما تقع مسؤولية اختيار الموسيقى على السيليكتور وذوقه. كان الـ ديجاي يتكلّم ويهتف فوق الموسيقى لبث الحيوية وتشجيع الحشد على الرقص، أو ما بدأ يعرف بفن التوستينج خلال فترة رواج ثقافة نظام الصوت في بداية الخمسينات.
عمل توبي في حفلات نظام صوته مع واحد من من أهم روّاد التوستينج، الديجاي يو روي المشهور بصوته الحماسي القادر على إشعال ساحة الرقص. في واحدة من الحفلات، أحضر توبي الميكسر معه إلى السهرة، حرك الإبرة على مشغل الأقراص الموصول بالميكسر، وبدأ بمعالجة عينات الصوت في عرضٍ حيّ. اقترب يو روي، حمل المايكروفون، وألقى كلماته في تزامنٍ مثالي مع الإيقاع والذبذبات الإلكترونية الممغوطة من جهاز توبي. أعطاه غياب الأصوات الغنائية المساحة الكاملة للارتجال والتلاعب بطبقات صوته. غيّر يوروي وتوبي بعد هذه الليلة مفهوم الديجاي من مجرد شخصية استعراضية مهمتها إلقاء النكات بين الأغاني، إلى مؤدٍّ أساسي في العروض الحيّة.
في مقطوعة كينج توبي سكانك، شدد توبي على صوت البايس، وأحدث خللًا مقصودًا في ترددات الصوت على بعض المساقات للخروج بعينات مختلفة، بينما ألقى يو روي جملًا جريئة مثل “أريد إعادتك إلى غرفة نومك”، مستخدمًا طريقة التلاعب بالقوافي في اللهجة الجامايكية. بعد هذه الأغنية، ارتجل الـ ديجايز فوق الموسيقى، ألقوا أشعارًا تعنى بمواضيع اجتماعية أبعد من مجرّد تحميس الجماهير. طوّروا طرق إلقائهم، وتحولوا من متحدثين إلى شعراء عاميّة. حدث هذا سنة ١٩٧٢، قبل سنواتٍ قليلة من ظهور ثقافة الهيب هوب.
“كان الديجاي مجرد شخص يأتي إلى الحفلة، ويتحدث عبر المايكروفون فوق التسجيلات، أو يقرأ الدعوات ويعلن عن اسم المقطوعة التالية. من كان بإمكانه التصور بأن هذا كله سيتغير بهذا الشكل.” – يو روي
حالت المساحة الضيقة في غرفة نوم توبي دون وجود فرق كبيرة، التي حلّت محلها الأجهزة والأسلاك ووجوه المنتجين الجدد المذهولين بالتقنيات أمامهم. لم يهيمن هاجس الربح على توبي، الذي قدَّم المساعدة للمنتجين والموسيقيين غير القادرين على تأسيس استوديو خاص بهم، واستفاد من خبرتهم التقنية والموسيقية. في خطوة معاكسة لنهج المنتجين التقليديين، أراد المنتجون الجدد، مثل نايني ذ أوبزرفر، الخروج بنسخ مختلفة على أقراص الدَب بلايت، بعد إعادة إنتاج مقطوعات من حقبتي السكا والريجي. سميت هذه الموسيقى بـ الدَب، ورمزت إلى عملية التفكيك التي أجراها المنتجون في مختبر كينج توبي للموسيقى التجريبة.
حملت هذه الأعمال أسماء ملتصقة باسم كينج توبي، مثل مقطوعة كينج توبي ميت ذ روكرز مع أجوستو بابلو. أراد الأخير إعادة إنتاج واحدة من أغانيه سنة ١٩٧٥، كاسافا بيس، فاستعان بتأثيرات توبي على صوت عزفه لآلة الميلوديكا، وطلب منه إدخال عينات غناء بصوت جايكوب ميلير من أغنية بايبي أي لوف يو، ليمزج المقطوعتين بتزامن إيقاعي، مع مراعاة إعداد المزج ليتناسب مع مكبرات الصوت الضخمة. في نسخ الدَب، كانت جهود المنتج أبرز من جهود الموسيقي، بفضل توبي الذي مدّد وأغنى عينات صوت الجيتار على جهاز المزج، وهندس التوازنات بين مستويات صوت المساقات في النسخ، كي تتحول إلى فضاء صوتي ثلاثي الأبعاد في رأس المستمع.
في النصف الثاني من السبعينات، بدأت تقنيات الإنتاج الإلكترونية تزاحم آلات المزج القديمة التقليدية في جامايكا. تسارع منتجو حقبتي السكا والريجي لمجاراة توبي الداخل كالشهاب في فضاء الإنتاج الموسيقي الإلكتروني. افتتح المنتج لي سكراتش بيري استديو ذ بلاك أرك، وعمل على إنتاج موسيقى الدَب بتقنيات مختلفة عن توبي، قبل سنوات من صعود هذه الموسيقى واعتبارها واحدةً من أولى أصناف الموسيقى الإلكترونية، ونذيرًا لصعود أصناف أخرى مثل الجانغل والدَبستِب والهيب هوب.