.
تأسّست لاباس لا يستخدم تعبير لاباس في الجزائر، وفي شمال افريقيا عموماً، كجواب فقط، بل هو سؤال، سؤال لا ينتظر الجواب. سنة ٢٠٠٤ على يد نجيم بويزول، الذي وصل مع عائلته إلى مونتريال قبلها بعام وهو في الثامنة عشر. قضى عاماً كاملاً يعزف على جيتاره في الحدائق العامّة وفوهات المترو، مُكتشفا ماذا يعني الفضاء العام بعد سنوات من الحرب الأهلية وحظر التجوال في الجزائر، وهو هاجس لازمه في كل أعماله وكتاباته. قامت الفرقة على خليط من الموسيقيين، كنديين ومغاربة، بقيادة نجيم الذي كان يكتب الكلمات ويلحّنها ويغنيها. تغيّر بعض الأفراد في الفرقة، لكن الآلات الأساسية كانت دائماً حاضرة: الجيتار، الترومبون، البايس، وآلات الايقاع من الدربوكة إلى الدرامز. صدر أول ألبوم للفرقة في ٢٠٠٧ واكتشفنا فيه أغان مذهلة مثل بابور اللوح وداوينا والالوان السبعة عبر إعادات تسجيل Covers لفرقٍ جزائرية صغيرة، قبل أن نتعرّف على عمل الفرقة التي كانت قد بدأت تخلق مساحة لنفسها، سواء في حفلاتها الخاصة الصغيرة أو في صعودها في المرحلة الأولى عبر حفلات موسيقيين كبار أمثال المالي ساليف كايتا والجزائري رشيد طه.
يهتم نجيم كثيراً بموسيقى الشعبي الجزائرية، هو عازف جيتار ابن تقليد قديم يمتدّ من محمد الباجي إلى كمال مسعودي، لكن سفره أيضاً جعله منفتحاً على الفلامنكو والرومبا، وحتى تأثير القناوة لم يذهب به بعيداً مثلما فعل مع الأغلبية الساحقة من الفِرق الجزائرية، بل كان وفرقته يقفون بألحانهم في مسافة وسطٍ بين الريغي والأفرو-بوب بكل تدرجاته، مما خلق في ألبومه الأوّل، وفي أكثر من أغنية، نوعًا قريبًا من أعمال الفرنسي مانو تشاو. إضافةً إلى هذا، أعتبر نجيم من أجمل كتّاب الكلمات في الجزائر، سواء بالعربية أو الفرنسية. ألبوم الفرقة الثاني هوية والصادر في ٢٠١٢ أكّد على ذلك، وجاءت مشاركتهم في النسخة الأولى من مهرجان موسيقى والسلام بتونس في نفس العام لتُطلق شهرتهم، وترسّخها مع أغانِ مثل الكاس يدور وفي صحرائي وخاصة بشّار الخير، وحتى استعاداته لعمل كمال مسعودي.
عندما برز اسم كمال مسعودي في ساحة الشعبي خلال عقد الثمانينات، كان الشعبي قد بدأ في دخول مرحلة خمول لا تزال مستمرة. استقر الشيوخ على عروشهم يشتغلون في الحفلات الكبيرة أو الأعراس، يردّدون نفس القصائد المغربية القديمة التي تجاوز عمرها القرنين، وتوزع الشباب تحتهم بين مقلّدين ومغمورين. حاول كمال مسعودي إحداث بعض التغيير، ليس فقط بالكيبورد الذي كان من أوائل من أدخلوه في الفِرق الشعبية، لكن أيضاً بجيتاره ونصوصه القويّة. ذلك لا ينفي أن نغمات الفلامنكو التي أدخلها كانت قياسية عادية، لكن مزاوجتها مع الشعبي، الذي يتشارك جزء منه معها بشكل أو بآخر في بلد المنشأ إسبانيا، خلقت سحرها، خصوصاً أن جُمَلُ الجيتار كانت أطول وأكبر مساحة من جُملِ المندول.
عرف مسعودي أن اسم خوليو الجزائر قد التصق به، بداية من ألحانه اللاتينية وأغانيه مثل الشمعة والدنيا ويا دزاير راه طاب القلب وأنا وأنتِ يا جيتارة، التي تحكي عن العاصمة التي ضربها الإرهاب والقتل لـ عِقدٍ كامل، والعديد من العناوين الأخرى كانت تُطلبُ بالاسم في الحفلات والأعراس رغم بُعدها عن المواضيع المعتادة وحزن الكلمات واللحن. كان كمال مسعودي قد وجَد أسلوبه الخاص وسار فيه بنجاح، مستغّلا الجسور الموجودة بين الفلامنكو والشعبي الذي جاء من تمازج الموسيقى الأندلسية والأمازيغية. بعد موت مسعودي في نهاية التسعينات في حادث مرور غرق الشعبي في خموله أكثر، وحتى عمل مسعودي نفسه لم يعُد يتمتع بعنفوان وشباب الموسيقيين، لكن نجيم بويزول استطاع وفي أكثر من مناسبة أن يعبر الجسور القديمة بين الضفتين ذهاباً وإياباً.
جاء الألبوم الثالث والأخير بعد مرحلة نضج جلبت معها الكثير من الأشياء الجيدة كتابة وتلحيناً، لكنها لم تخلو من بعض التكرارات ومقطوعات آلاتية بحتة قد يرى البعض أنها زائدة، خاصة عندما يمتد الألبوم لـ ٢٢ أغنية ومقطوعة متجاوزًا الساعتين. لكن هذه التكرارات لم تؤثر على متن الألبوم، خاصة عندما نكتشف أن نجيم الذي يقترب من الأربعين قد وضع في الألبوم أغانٍ كنّا قد سمعناها على يوتيوب منذ سنوات بعيدة، في جلسات خاصة للفرقة أو له وحده قبل أن يصير معروفاً، مثل الحقرة التي ظهرت أول مرّة سنة ٢٠٠٧ على يوتيوب: شاب يلبس بيريه ويجلس أمام مسبح في مكان ما بكاليفورنيا حسب ما يقوله الفيديو ويغني عازفاً على جيتاره أغنيةً عن الظلم في حومته، وعن الشرطة التي تعتقل وتقتل شباباً يلعبون بمسدسات بلاستيك. ليقول في آخرها “والحل الوحيد هو الهجرة للقطب الشمالي.”
أكد نجيم في هذا الألبوم أيضاً أنّه ليس فقط عازف جيتار جيد يخرج علينا محبوه كل فترة بفيديو له في شارع أو داخل عربة مترو، في باريس أو بمونتريال وهو يعزف ويغني غير مبالٍ بأحد، لكنّه أيضاً أفضل شخص يروي قصة الجيل الذي عاش الثمانينات والتسعينات، وأنّه وريث تقليدٍ عريق في الموسيقى الجزائرية من سليمان عازم ودحمان الحرّاشي إلى رشيد طه وهو موسيقى الغُربة. في أغانٍ مثل L’archie التي تحكي يوميات أولاد مهاجرين بين الفن والجنس والمخدرات، أو في إنسومني، والتي تعود على موضوع الهوية لكن بطريقة أكثر هدوءً، أو ربما هو تسليم بالأمور أكثر منه هدوء، وهو يستلهم اسم الألبوم منها عندما يقول: “في بلادي يسمّوني مغترب، وفي الغربة يسموني مهاجر، وأنا ما بقى لي غير الطريق اللي تونّسني.”
هذا الالتباس بين الهُنا والهُناك نجده أيضاً في إحدى أشهر وأنجح تراكات الألبوم، تمانينات، الأغنية السردية والتي بقليل من التركيز نكتشف أنّ نجيم استلهم لحنها من الشارة الختامية لأحد أشهر مسلسلات الرسوم المتحرّكة في الثمانينات مُدن الذهب الساحرة. تحكي الأغنية عن فتى عبر الثمانينات بكل بؤسها ونهايتها الصعبة، مع الربيع الجزائري سنة ١٩٨٨ والذي أدى لحرب أهلية لاحقاً، هذا الفتى الذي شهد بلاده تنهار ورئيسه يُقتل، وحتى عندما نجا وتزوج فرنسية وعاش في بلادها وأنجب منها أولاداً، احتار في تسميتهم فسمّاهم أسماءً بين العربي والأجنبي، وانصرف ليشاهد أخبار القتل في نشرة الأخبار.
الشعبي حاضر ليس فقط في التوزيع مع الدربوكة والجيتار، بل في استعادات أقرب منها للفلامنكو من الشعبي ونغماته، كما في أغنية فلسطين، وهي استعادة لأغنية شعبية معروفة عن فلسطين اسمها شوفوا ما صار، حيث قرّر بعد تأديتها أكثر من مرة أن يُدخلها في الألبوم من غير غناء، إعادة توزيع وعزف فقط. أيضاً في أغنية آيلي يا سيدي يا ربي، وهي استعادة لإحدى أشهر أغاني الشعبي، الحرّاز، وأيضًا في ليلى والدنيا التي تقدم استعادته الثانية لمسعودي، وأخيرًا أغنية في بالي التي تدوم لتسع دقائق، وتصير محاورة الجيتارت في نهايتها إلى فلامنكو صافي. الشعبي حاضر كروح إذًا، وهنالك أيضاًُ في أغانٍ بالإسبانية والفرنسية مثل نوتي فويا وصلام وديدي باراشو.
قد يشعرنا ألبوم طويل وفوضوي من اثني وعشرين أغنية بالاستنزاف عند سماعه كاملًا للمرة الأولى، كما قد يبدو أن الفرقة استنفذت كلماتها وألحانها خلاله، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول خطوتهم المقبلة، خاصًة بعد ظهورهم يؤدون ترجمةً شعبية لأغنية الكريسماس Mon Beau Sapin في فيلمٍ كندي جديد. لكن ما يبقى مضمونًا في ألبومات نجيم بويزول وفرقته في الطريق وما سيليه هو ذاك الخيط الرفيع الذي يربطهم ليس فقط بموسيقى الشعبي الجزائرية، لكن أيضًا بكل موسيقى الساحل الغربي لإفريقيا وما يقابله على ضفة المحيط الثانية في أمريكا اللاتينية. موسيقى بحرية، راقصة رغم حزنها.