.
“ضاق الراهب ذرعاً بالطيور التي كانت تتغوّط على ناقوس الكنيسة في ماردين، وأراد أن يتخلص منها، لكنه أحبّ قبل ذلك معرفة أصولها، فوضع على الناقوس طبقاً فيه جبنٌ وخمر. أكلت الطيور الجبن وشربت الخمر ثم تغوطت على الناقوس. فقال الراهب في نفسه: لا أفهم من أي شعبٍ وأي ديانةٍ هذه الطيور، فلو كانت يهودية لما أكلت الجبن، ولو كانت مسلمة لما شربت الخمر، ولو كانت مسيحية لما تغوّطت على الناقوس.”
“حكوية” (حكاية) شعبية ماردينية
Lo Lo Lo Bagiye
بين سريان وأكراد، تدور على مواقع التواصل الاجتماعي “أم المعارك” حول دبكة “باقية” Bagiye. مع كل فيديو يرفع على الشبكة، تفتح “باقية” (اسم فتاة) صندوق الشرور، فيتبادل الطرفان شتائم مقذعة وبذاءات طائفيّة نال منها العرب والأتراك نصيبهم الوافر. وإذ يحتج الأكراد بأن “لو لو لو” الورادة في لازمة الأغنية هي من خصائص الغناء الكردي، يجيبهم الخصوم بأن “باقية” هي أصلاً رقصة سريانيّة وليست أغنية، وأن الكلمات الكرديّة التي كتبت في مرحلةٍ متأخرة لا تثبت نسب الأغنية الكردي.
ليست الموسيقى هنا سوى حجة لإفراغ الغلّ الكامن في الصدور؛ فالدبكة التي غالباً ما تحضر في أعراس الطرفين المتخاصمين باتت مناسَبة ً لتصفية الحسابات التاريخيّة، فمن جهة: لم تشف الذاكرة السريانيّة الجريحة بعد من مشاركة بعض العشائر الكرديّة في مذابح “السَيْفو” عام 1915 في ماردين التركيّة. ومن جهة أخرى، لم يكن التاريخ أكثر رفقاً بالأكراد الذين عانوا بدورهم ما عانوه في نضالهم الطويل من أجل حقوقهم السياسيّة والثقافيّة. والحال أن الشعوب المقهورة الفاقدة رمزيّاً أو جغرافيّاً لمكانها الأصلي لا تحتمل المساس بموسيقاها أو المزاحمة عليها إذا ما أصبحت هذه الموسيقى وطناً بديلاً. كما لا يخفّف من حنق الغيورين على موسيقاهم الزعم بأن للجماعات التي تتقاسم العيش في مكان واحد إرثٌ موسيقيٌ مشترك. فهل يجدي حينها، والقوم غاضبون، أن يغازل كبير المغنين الأكراد شيفان بروير “ساري” (Sare) السريانيّة في أغنية رقيقة؟
“باقية” بلغات ثلاث وفق الترتيب التالي: الكرديّة والسريانيّة والتركيّة
كل تلك القسوة من أجل “باقية“.
أما الصراع على البلدة العسليّة، فذاك حديثٌ ذو شجون.(*)
Le Le Le Sabiha
في ماردين الشهيرة بحجرها الأصفر المنقوش، والمشرفة على سهول الجزيرة الفراتيّة، تجاور تاريخيّاً سريان وعرب وأكراد وأتراك وأرمن ويزيديون. غير أن الظروف التاريخية التي رافقت انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتأسيس الجمهوريّة التركيّة أدّت إلى موجات نزوحٍ متعاقبة من البلدة ونواحيها إلى الشمال السوري ولبنان وأوروبا. مع أتراك وأكراد والقليل من العائلات السريانيّة “الصامدة“، يعيش اليوم في البلدة “أولاد عمومتنا” من بني شيبان، أبناء قبيلة المْحَلَّمِيَّة المنتشرين بين البلدة وقرى منطقة “طور عابدين“. وهؤلاء “يقجمون” (يتكلمون) باللهجة المِرْدَلِّيَّة أو الجزراويّة القريبة من اللهجة الموصليّة، والمصنّفة من مجموعة لهجات “قلتُ“. ومن خصائصها لفظ الضمة على الفعل الماضي، والإمالة بالألف (ميردين“بدلاً من ماردين)، وإضافة الياء على كاف نسبة المؤنث (جارتكي بدلاً من جارتكْ). وهي، وإن دخلت عليها كلمات أعجمية، نظرا ًلاحتكاكها بلغات المنطقة، تضمّ مفردات فصيحة لا تعرفها العربيّة الكلاسيكيّة. وبنو شيبان إذا ما غنوا لا يشيرون إلى المحبوبة بـ“حبيبتي“، بل بكلمة “ضلال” Delal. وهي كلمة كرديّة شائعة في غناء فولكلور الجنوب الشرقي تعني “حبيبي“. الحبيبة في الغناء المِرْدَلّي هي “ضلال” و“ضلالي” و“ضلالتي” و“مدلّلتي” و“قصبتي” (كبدي، وفي روايةٍ أخرى رئتي وروحي). ورغم غناء أهل المدينة لـ“حليمة” و“ميمو” و“شَوْقو“، فإن معشوقة ماردين الأولى تبقى “صبيحة” التي يكاد اسمها أن يكون مرادفاً للبلدة:
صبيحة كِلْ سهرتي (كل وكت حرف تحقيق بمعنى قد)
قومي طلعي نامي
لي لي لي يار صبيحة (لي ولو مقاطع صوتية شائعة في الغناء الكردي)
مو نام ومو نام ضلال (لا أنام حبيبي)
لا مو تكون فحضاني (إلا أن تكون في أحضاني)
لي لي لي يار صبيحة (يارyar أي حبيبي بالتركية)
صبيحة بالتركيّة والسريانيّة والكرديّة والعربيّة
ثمة تراثُ غنائي مشترك يمتد من ماردين إلى الموصل وصولاً إلى بعشيقة وبحزاني (حيث تصبح صبيحة “جليلة“)، إذ يغني المردليون أيضاً: “ياردلي سمرة قتلتيني“، و“تحبّون الله ولا تقولون” بالعربيّة وبنسختها التركيّةBir ay dogar karsi’dan (يطلع قمرٌ قبالتي):
تحبّون الله ولا تقولون/ سعاد كل ماتت أوي ضلال
مبارحة العصريّة/ من تحت بيتنا فاتت
تحبون الله ولا تقولون/ ضلال و مو يِنْحَبّْ أوي ضلال (ينحب أي يُحَبّْ)
يِنحَبّْ ويِنْحَبّْ ضلال/ ويصير مرهم للقلب
وعلى اللحن نفسه يغني الموصليّون والمردليّون:
أنا رايح لحلب/ عليش تتوصيني أوي ضلال
لاوَصّي مشط ومري (مرآة)/ ومكحّلة لعيني أوي ضلال
وتذهب روايةٌ مردلية إلى أن المغني الموصلي حسين مرعي، الذي اشتهر بهاتين الأغنيتين، ينحدر من أصول محلمية.
بالإضافة إلى التراث المارديني– الموصلي، تشتهر ماردين بعددٍ غير قليل من الأغاني الفولكلوريّة، منها الأغنية الجزراويّة المعروفة “يا دلهو” بنسختيها العربيّة والتركيّة Mardinin kapisin’dan (من بوابة ماردين)، و“أي لي لي حنة“Ay le le Hinne (للعروس)، و“شوقو“şevko ، و“أوي ميمو” (Oy Memo). كما اقتبس ابراهيم طاتلي سس أغنيتين من التراث المارديني: Bu Gece (هذه الليلة) والتي تُغنى في الأعراس احتفاءً بالعريس، واسمها الأصلي “هالّيلة“، وAşk kalbimde yer almış (سكن العشق قلبي) والمعروفة في البلدة بـ“يا حلوة“.
“على الحدود“
يتقاطع في الأغنية المردلية تراث مختلف جماعات المدينة ونواحيها. وهي، وإن كانت ناطقةً بإحدى اللهجات العربيّة، تستمد فرادتها من التباس هويتها الثقافيّة، إذ يختلط في مقاماتها وإيقاعاتها الشاميّ والتركيّ والعراقيّ. لكن هذا الغناء الحائر الواقف على الحدود بين العرب والعجم، يبقى، رغم ثرائه، حبيس موقعه الثقافيّ “الهامشيّ” (peripheral) لبعده عن المركزين: التركيّ والعربي معاً، ويقتصر حضوره خارج ماردين والشمال السوري على أعراس المردليين وحفلاتهم الخاصة. ونادرا ً ما يجد المطربون المردليون سبيلاً إلى الإعلام العربي. لذلك شعر القوم بالغبن حين غنى وائل كفوري “مدللتي” من دون أن يشير ولو بكلمة إلى أصول الأغنية المردليّة.
“مدلّلتي قصبتي” و“حيران للمدلل/ قربان للمدلل” (حيران= معجب أو مغرم، قربان= فدوى)
ورغم أن الهجرات من ماردين وجنوب شرق تركيا عموماً، عنت في وجه من وجوهها انفصال الموسيقى عن مكانها الأصليّ، أعادت الموسيقى المهَجَّرة إلى الشمال السوري إنتاج بيئة أناضوليّة مختلطة تداولت فيها الجماعات الثقافية لغات وموسيقى بعضها. نتيجة لذلك، برز فنانون جزراويون يحملون تقاليد موسيقيّة متعدّدة. فغنّى السرياني الراحل جان كارات بجميع اللغات الجزراويّة، واشتهر الفنان الأرمني ابراهيم كيفو بغناء الفلكلور اليزيدي، من دون إغفال الفنان المردلي اللبناني رشيد موسى المعروف بأسلوبه الكردي في الغناء. ومن القامشلي تحديداً، خرج الفنان الكردي (المارديني الأصل) جوان حاجو، كما خرجت أولى محاولات إحياء الأغنية الشعبيّة السريانيّة بصوت الفنان حبيب موسى، وأغنية “شامو مر” (قولي يا شامو) في أواخر الستينيّات، بينما انصرف أستاذ الموسيقى السريانيّة الملفونو نوري اسكندر (الأورفلي الجذور) في حلب إلى تدوين الألحان الكنيسة السريانيّة التابعة لمدرستي الرها (أورفة) ودير الزعفران المجاور لماردين.
“مدللتي“
في قصيدة “حبذا أرض ماردين” يقول صفي الدين الحلي عن البلدة:
“جمعت سائر المنى فلهذا/ ما أتاها ذو الحِلْم إلّا وتاها“
ويعلم “ذوو الحَلْم” الذين قُدّرَ لهم التيه في أزقة “ميردين“، أنها ما زالت، كما وصفها الشاعر العراقي، “اجتماع الأماني“، بعمارتها، ولغاتها، وغنائها الذي لا بدَّ أن يتنبه الموسيقيون العرب يوماً إلى فرادته وثرائه.
(*) عن خطوط التوتّر الماردينيّة: بين السريان والأكراد جرح تاريخي مفتوح نظراً لمشاركة عشائر كرديّة في المجازر السريانيّة عام 1915. وممّا زاد الأمر سوءاً أن حزب الله الكردي الأصولي الذي صنعته المخابرات التركيّة لمجابهة نفوذ حزب العمال الكردستاني تكفل باضطهاد ما تبقى من سريان الجنوب الشرقي. ولم تكن لدى العرب الذين أدركوا منذ تأسيس الدولة التركيّة حساسية وضعهم كأقلية أي طموحات قومية، فلعبوا تاريخيّاً دور المواطن التركي “الجيّد“. وهم اليوم ينظرون بتوجّس إلى حضور الأكراد القويّ في البلدة، بينما يعتبر الأكراد الموالون لحزب العمال الكردستاني ماردين جزءأ من الوطن الكردستانيّ، ويتّهم بعضهم العرب بالتواطؤ ضدهم مع الدولة التركيّة.
ملحق
ترنيمة “حاشو دموران” (آلام المسيح) للمرتّل السرياني توماس إينان، شاموشو (خادم) كنيسة مار قرياقوس في إنشيدة –هولندا. هو في الأصل من قرية عرناس (بغلارباشي) القريبة من مديات في ولاية ماردين. خامة فخمة حائرة بين كرديين، ابراهيم طاتلي سس ومحصون قيرمزي غول.
من الفولكلور السريانيBedrine بصوت الفنان فؤاد إسبر (من القامشلي) مع النسخة التركية بصوت إبراهيم طاتلي سس.
“أوي ميمو” غناء محلّمي من قرية أبشة (شنكوي)
المغنية التركية شوّال سام تغني “يمّمت شطر ماردين” Yola ciktim mardine أغنية حب لفتاة تدعى حليمة.
جميلتي Rindamin. (بالكرمنجي) هذه أغنية يحب أهل ماردين غناءها بالعربيّة، لكنّ من المتعارف عليه أنها من أجمل أغاني الفولكلور الكردي، مع العلم أن الأذريين يدّعون أيضاً أنها من تراثهم. من حفلة ابراهيم طاتلي سس في أربيل.
موسيقى “الريحاني” Reyhani من تراث ماردين