.
خلال السنتين الماضيتين تشكلت مسيرة عصام واتخذت مسارًا نحو الأمام بهدوء. بالنظر إلى سجل أغنياته الصادرة حتى اليوم ونسب مشاهداتها، يمكن استنتاج أن كل خطوة في مسيرة عصام نزلت بثقة على أرضية ثابتة لتترك تأثيرها قبل الانتقال للخطوة التالية. آخر هذه الخطوات كانت تراب بلدي، الأغنية الستايلش التي تبث كمًا هائلًا من الحيوية بمجرد سماعها أوالرقص عليها في سهرة ما أو حتى مجرد مشاهدة الفيديو الذي يولد فيك رغبة تلقائية بالاختلاف، كأن ترتدي ملابس مختلفة وتتكلم وتتحرك بطريقة مختلفة وأن تكون بالعموم على سجيتك أكثر.
يأتي هذا التأثير من تفسير وحيد هو أن عصام ذاته قد ترك نفسه على سجيته. في أغنياته الضاربة الأخيرة جميعها: حسني وبونآنيه وكافيار وتراب بلدي، ظهرت تأثيرات موسيقية عديدة تبدأ عند يانج ثَج وتنتهي عند الشاب حسني، لكنها تملك مع ذلك فرادة تخصها وحدها. في ماكاينش الزهر نجد أنفسنا أمام إصدار فريد من ناحية الشكل والمحتوى على نحوٍ يصعب تخيل إمكانية صدوره عن فنان آخر.
في كلمات هذه الأغنية، كما معظم أغنياته الضاربة، نجد أن معاناة عصام واضطراباته الشخصية في علاقته مع العائلة والمدينة والمحيط هي بطلة القصة. إن كان أسلوب كتابته حتى الآن لم يغادر هذه الدوائر أو يحاول تجديدها بكتابة دس من هنا أو افتعال نبرة تحدي واستعراض من هناك، كما قد يفعل أي رابر آخر في بداية مسيرته، إلا أن ماكاينش الزهر تحاول تقديم هذا التجديد من خلال إيجاد زوايا جديدة لتحليل هذه المعاناة، كالحظ العاثر والعين والحسد. “عارف حتى في جهتي ماكاينش الزهر / كنلوح كلشي ورايا وكنزعف” يأخذ الرابر خطوة إلى الوراء لمعاينة الأمور فيتبين أن الحظ لم يكن يومًا إلى جانبه، وأنه كان مضطرًا بالنتيجة للمضي قدمًا بكل الأحوال دون أن يعتمد أو يتوقع أي مساعدة.
فيما يلي الإنترو الذي يلخص باقتضاب جوهر الأغنية، حيث يرى عصام نفسه كرجل بسيط عاش حياته بلا سندٍ سوى من المدينة التي تلهمه، ننتقل إلى بضع ثوانٍ تصعيدية لها وقع جسر الجيتار السولو في أغنيات الروك قبل أن ندخل المقطع الأول. تنتهي الأغنية من حيث بدأت، مع المقطع والكلمات ذاتها، وما بين البداية والنهاية إيقاع جذّاب ثابت على امتداد الأغنية، يمنحها طابعًا تقليليًا بغياب العينات أو المؤثرات الصوتية في إنتاج تايمنتكن الذي يتعاون مع عصام للمرة الأولى. لو وضعنا الإيقاع الإيقاع جانبًا، يسهل علينا ملاحظة أن الأغنية تستند بشكل أساسي إلى أداء عصام، الذي يجسد بصوته انعطافات المقاطع وتبدل الفلوهات، ويقدِّم أحد أفضل أداءاته كرابر، مسلمًا زمام القيادة لصوته الهادئ الواثق الذي يجعله أقرب للحكواتي.
فيديو ماكاينش الزهر هو ثاني تجارب عصام في الإخراج فيما يلي تراب بلدي. رغم حميمية وشخصية الظروف التي ترويها الأغنية، ورغم الجهد والعناية الكبيرين الموضوعين في الرؤية الإخراجية، إلا أن شيئًا من السخرية والمرح يضاف للأغنية مع كمية الرموز وأيقونات طرد أثر العين والحسد المنثورة في الفيديو، وكأن عصام لا يصدق نفسه في محاولته لوم الحظ والقدر ويشير إلى أن هذا التصور هو نتاج تفكير وموروث شعبي. رغم افتقار سجل عصام حتى اليوم إلى ألبوم كامل سواء قصير أم طويل، وقلة إصداراته المنفردة وتباعدها، إلا أننا نعذر هذا كله عندما تبدو كل أغنية جديدة بمثابة مشروع متكامل في الكتابة والإنتاج والناحية البصرية.
تناول عصام لحظه العاثر في الأغنية الجديدة يعيدنا إلى حديث له تلى صدور أغنية كافيار التي أنتجتها وأخرجتها منصة نار، حيث روى عصام رفض الحكومة الفرنسية منحه تأشيرة دخول للمشاركة في حدث موسيقي دُعي للأداء فيه في فرنسا، ووجد أن الرفض غير عادل بحقه كموسيقي تمت دعوته من جهة رسمية. وناقش بمرارة صعوبة تقبله فكرة أنه رغم كونه فنانًا مستقلًا إلا أنه لم يغادر بلده الأم حتى اليوم إلى أي وجهة، الأمر الذي يصعب تصديقه آخذين بعين الاعتبار الثقافة والذائقة الفنية العالية التي تحملها موسيقى عصام وفيديوهاته.