.
مايكل جاكسون معازف بوخارست
أجنبي قديم

مايكل جاكسون في بوخارست | موسيقى عبادة الشخصية

شادي لويس ۲۰۱۸/۰٦/۰۱

كنا قد وصلنا إلى حديقة هيراستراو في الجانب الشمالي من بوخارست لزيارة قصر العائلة الملكية التي يتوسطها، وكذلك متحف القرية المفتوح الذي يشغل مساحة تتجاوز المئة ألف مترًا مربعًا. لم تخيب الزيارة ظني، فالحديقة الوطنية، التي تم افتتاحها في ١٩٣٦ كانت نموذجًا فريدًا لعبادة شخصية مؤسسها الملك كارول الثاني، ولأيديولوجيا عصرها وتقلباتها العنيفة مع الوقت. الملك كارول الثاني (حكم من ١٩٣٠ إلى١٩٤٠) الذي منح لنفسه ألقاب الحارس الأعظم، وملك الإحياء والمخلّص، والقائد، افتتح الحديقة قبل عامين فقط من تعطيله للدستور وإعلانه الديكتاتورية الملكية المطلقة.

لم تكن الحديقة مجرد ساحة للمواكب العسكرية والمسيرات الجماهيرية التي تبدأ من قوس النصر على مدخلها، وتتجه إلى القصر الملكي في وسطها حيث كان يرفع عشرات الألوف من المشاركين أذرعهم بالتحية الفاشية للملك القائد، بل بالأحرى كانت تكثيفًا ماديًا لأفكار العهد الجديد الذي أسسه كارول، حيث الحداثة والأصالة يقفان جنبًا إلى جنب. وبالرغم من السقوط السريع لديكتاتورية كارول، عادت طموحات التفكيك الاجتماعي وإعادة البناء التي جسدتها بيوت الحديقة الريفية بعد الحرب العالمية الثانية، في العهد الشيوعي (١٩٤٧١٩٨٩)، إذ تم تغيير اسم الحديقة من كارول الثاني إلى ستالين، والذي نُصب له تمثال ضخم في مدخلها. سرعان ما أصبحت الحديقة مركزًا لطقوس عبادة الديكتاتور الجديد، وأضحت شاهدة على مشاريع التحويل الاجتماعي القسري الضخمة.

لكن هيراستراو لم تكن فقط مجرد علامة على هوس الأنظمة الشمولية المتعاقبة بعبادة شخصية القائد، فمنذ ١٩٥٣، تم البدء بنصب تماثيل نصفية لشخصيات أدبية وفنية وموسيقية في كافة أنحاء الحديقة. لم تقتصر الخيارات على شخصيات رومانية، أو منتمية لدول الكتلة الشرقية فقط، فبالإضافة إلى تشيكوف وتولستوي ودوستويفسكي وشيفتشينكو، يمكن رؤية تماثيل لهوجو وجوته وطاغور وشكسبير وداروين ومارك توين، بالإضافة إلى بتهوفن وشوبان. تلك التماثيل، التي يصل عددها إلى ٣٥ شخصية، ترسخ كغيرها من التماثيل العامة لمنطق العبقرية الفردية، لكنها تكشف أيضًا عن رغبة في تأكيد انتساب لتراث إنساني عالمي، أوروبي في غالبيته الساحقة بالطبع، وانعكاسًا للمحاولات المحمومة للنخب الحاكمة لرومانيا الريفية للحاق بأوروبا الحديثة.

لم يكن هذا كله هدف زيارتنا للحديقة، فهناك علامة أخرى كنا نسعى لرؤيتها. بالقرب من أحد مخارج الحديقة، كان يوجد شاهد لموسيقي آخر لا ينتمي للعصر الكلاسيكي. “موسيقاه ستعيش إلى الأبد، كانت هذه الجملة تزين الشاهد الرخامي الأبيض الذي وجدناه بالصدفة في طريق خروجنا، بعد أن كنا قد يئسنا من البحث عنه. نُصب الشاهد شديد الفقر في تصميمه والمتواضع بصريًا مقارنةً بباقي معالم الحديقة في أيلول / سبتمبر ٢٠٠٩،  لتخليد ذكرى مايكل جاكسون الذي توفي في حزيران / يونيو من نفس العام. إلا أن شاهد ملك البوب لم يكن علامة شاذة عما حوله أو مجرد إشارة ساخرة لدهاء التاريخ، الذي أحل نصب لجاكسون بالقرب من تمثال لينين المهدوم في حديقة كانت تحمل اسم ستالين. شاهِد مايكل جاكسون ربما كان امتدادًا لكل هؤلاء، ولطقوس عبادة الشخصية، وللعبقرية الفردية، التي انتقلت من عالم السياسة والحكم الشمولي والفنون العليا إلى عالم النجومية الموسيقية والإنتاج الفني التجاري الكثيف.

في ليلة الميلاد عام ١٩٨٩، كان النظام الشيوعي في رومانيا قد تهاوى بالكامل، فيما نقلت الشاشات مشهد إعدام تشاوتشيسكو وزوجته رميًا بالرصاص على عجل بعد محاكمة عسكرية صورية. بالرغم من تلك البداية الدموية، فإن مسار رومانيا نحو الديمقراطية الليبرالية والسوق الحر لم يشهد عنفًا يذكر بعدها، إلا أن الأعوام اللاحقة القليلة كانت قد حملت الكثير من التخبط السياسي، مستويات عالية من التضخم والبطالة، وانهيار للخدمات العامة، وحالة واسعة من خيبة الأمل في جنة الرأسمالية الموعودة، ويأس من إمكانية اللحاق بالعالم الحر، أو الاعتراف بالانتماء إليه.

كان لكل هذا أن يتغير في الأول من أكتوبر عام ١٩٩٢. بعد أقل من ثلاثة أعوام من سقوط سور برلين، كانت بوخارست على موعد مع حدث سيترك علامة فارقة على مسار تاريخها الحديث. كانت المرحلة الأولى من جولة داينجرُس لـ مايكل جاكسون قد وصلت إلى محطتها الأخيرة. بعد أن مرت الجولة التي مولتها بيبسي بألمانيا وهولندا وإيطاليا والنرويج والدنمارك والنمسا وسويسرا وإسبانيا والبرتغال، اختتمت حلقتها الأوروبية في بوخارست. كانت رومانيا هي البلد الوحيد من الكتلة الشرقية السابقة التي توقفت بها الجولة. لم يكن هذا مجرد اعترافٍ بأحقية رومانيا، أخيرًا، في الانتماء لأوروبا الغربية والسوق الرأسمالي، بل كانت كذلك شارة استثناء تستدعي الفخر مقارنة بدول شرق أوروبا الأخرى. تمت إذاعة الحفل، الذي أقيم في الاستاد الرئيسي في بوخارست على الهواء مباشرة حول العالم، عبر عشرات المحطات التلفزيونية. اختير حفل بوخارست تحديدًا، دونًا عن كل المدن الأوروبية الأخرى التي مرت بها الجولة، لتسجيله، ليصبح أول حفل مسجل لـ مايكل جاكسون يتم طرحه في سي دي في الولايات المتحدة.

لاحقًا، انتقلت حفلات الجولة ذات المائة طن من المعدات على طائرتي بوينج وطابور طويل من اللوريات إلى آسيا: اليابان، تايلاند، سنغافورة، روسيا، وتركيا، وبالطبع إسرائيل، قبل أن تنتقل إلى البرازيل وتشيلي والأرجنتين والمكسيك في أمريكا اللاتينية. كانت الجولة تأكيدًا على عالم جديد واحد، انتصرت فيه السوق الحرة وصناعة الترفيه الجماهيري، بشكل نهائي، وعولمة تنتقل فيها رؤوس الأموال والمعدات، والبضائع، والفنون ومبدعوها دون حدود تقف أمامهم، وكانت بوخارست في القلب من كل هذا. الجدير بالملاحظة أن جولة دينجرس في العالم القديم والجديد لم تتوقف في أفريقيا على الإطلاق، وكانت الدولة الوحيدة من الكتلة الشرقية بالإضافة إلى رومانيا التي توقفت بها الجولة هي روسيا، المركز القديم للإمبراطورية البلشفية. لكن محطة روسيا كانت جزء من الزيارة لآسيا، لا أوروبافقط رومانيا كانت الدولة الشيوعية السابقة التي تم الاعتراف بها كجزء من أوروبا. لا يبدو مفاجئًا، وضع روسيا، التي لطالما نظر لها في العصر القيصري كجزء من التخلف الشرقي، في الرحلة الآسيوية من الجولة. وكذا يبدو مفهومًا اختيار رومانيا، التي وحدها تتكلم لغة لها أصول لاتينية، بين بحر من اللغات السلافية حولها، بوصفها الممثل الأوروبي الوحيد في الشرق السلافي/الشيوعي السابق. كل هذا جعل من حفلة بوخارست حدثًا شديد الاستثنائية لسكانها حينها، وترك خلفه هوسًا مستمرًا إلى اليوم بذكرى مايكل جاكسون هناك.

في بحثه حفلة مايكل جاكسون الموسيقية في بوخارست عام ١٩٩٢: تحويل النجم إلي قديس، يقدم الباحث في دراسات النجومية، ميهاي كومان، تفصيلًا للآليات الرمزية التي قامت وسائل الإعلام الرومانية عبرها بتحويل الحفلة العادية إلى حدث أو ظاهرة معتمدةً على وسائل الحشد الجماهيري. يتجاوز كومان آليات الميديا لفرض بريق الاستثناء على الحدث، إلى اللغة الطقوسية والروحية والأسطورية التي استخدمتها الصحافة الرومانية لفرض هالة من القدسية على مايكل جاكسون. يخرج كومان بأحكام عامة بخصوص تسليع القداسة والبطولة التي تترافق عملياتها في نفس الوقت مع عملية تقديس النجوم، لكن يظل حريصًا على التأكيد على الدلالات الخاصة السياسية والاجتماعية لتلك العمليات في تلك اللحظة في التاريخ الحديث لرومانيا.

هكذا، فإن عمليات تسليع المقدّس وتقديس التجاري التي تتراكب وتتوازى في نفس الوقت، تقدم محورًا لتحفيز عملية الاعتراف بالانتماء إلى العالم الحر، وبأحقية الانتساب الأوروبي الغربي، التي حملتها جولة داينجرس معها. إلا أن ما لا يقل أهمية هنا، هو الالتفات إلى الخيط الخفي لطقوس عبادة الشخصية، التي تربط بين ظواهرها من كارول الثاني، مرورًا بلينين وستالين وتشاوتشيسكو، وصولًا إلى مايكل جاكسون. تنتصر الرأسمالية أخيرًا، ليحل نجم موسيقى البوب، مكان القديس والبطل، ويفسح القائد والزعيم مكانه لبطل الفنون التجارية ليكون محورًا لعبادة الجماهير. لكن تبقى عمليات الحشد الجماهيري، ودور الإعلام في تحفيزها كما هي، وإن كانت قد تسلحت بأدوات أكثر فاعلية وكفاءة، هي حرية الاستهلاك والخيار الفردي.

في مشهد معبر عن دهاء التاريخ أو سخريته المتعمدة، يقف مايكل جاكسون في شرفة مبنى البرلمان الروماني في وسط العاصمة بوخارست، ثاني أكبر مبنى في العالم بعد البنتاجون، والذي بدأ تشاوتشيسكو بناءه على أمل أن يخطب من شرفته في الجماهير عند الانتهاء منه. يُقتل الديكتاتور قبل أن يحقق حلمه، ويقف هناك جاكسون، أمام عشرات الألوف من الرومانيين، هاتفًا: “هالو بودابست أقصد بوخارست.” في ذكرى وفاة مايكل جاكسون عام ٢٠١٦، انطلقت جولة جديدة حول العالم، ضمت الأعضاء الأصليين لجولة داينجرس، وكان أول عرض لها في بوخارست.

المزيـــد علــى معـــازف