أجنبي جديد

متأمِّلتان | راهبة أثيوبيّة وموسيقى بيانو

يارا سعدي ۱۸/۰٦/۲۰۱٤

عندما سمعت معزوفات الراهبة الأثيوبيّة أمهوي تساجا مريم[Mtooltip description=” 1923 – Tsegué-Maryam Guèbrou” /] للمرة الأولى، خطر ببالي كلاود ديبوسي وتحديدًا معزوفته الأرابيسك الأولى، وإريك ساتي في معزوفاته جيمنوبيديس[Mtooltip description=” Gymnopédies” /] ومعزوفات عدّة لـ شوبان. بعد قراءة بعض النصوص عن أمهوي، وجدت أن ذات أسامي المؤلفين تتكرّر في عدة مقالات عنها، إلا أن المثير في الأمر هو أن معزوفات أمهوي مختلفة جدًا عن جميع هؤلاء والفترات التي عاشوا خلالها.

ولدت أمهوي عام ١٩٢٣ في أثيوبيا باسم ياوبدر جفرو، لعائلة أرستقراطيّة. في السادسة من عمرها، انتقلت أمهوي مع أختها الكبرى للدراسة في السويد لمدة خمسة أعوام، هناك تعرفت على الموسيقى الكلاسيكيّة وتعلّمت العزف على الكمان ومن ثم البيانو. في بداية الأربعينيّات، سافرت لتتعلم الموسيقى في مصر عند ألكساندر كونترويتش[Mtooltip description=” Alexander Kontorowicz” /]، وبعد عودتها من مصر تلقّت منحة لتعلم الموسيقى في لندن، لكنها لم تحصل على تصريح للسفر خارج أثيوبيا لأسباب جندريّة. أثّر الرفض على نفسيّة وصحة أمهوي، وبعد فترة، – في سن الـ٢١ تحديدًا – اختارت أن تصبح راهبة،  وتبنّت اسمها الجديد والذي يرافقها حتى اليوم: أمهوي تساجا مريم. بعد عشرة أعوام أقامت فيها في دير راهبات في شمال أثيوبيا، والتي هجرت خلالها الموسيقى، عادت أمهوي إلى الموسيقى عبر تعليم الأطفال الأيتام والعميان، ورجعت للعزف والتلحين. السنوات التي تلتها كانت أكثر السنوات إنتاجًا موسيقيًّا، وقد خُصص قسم من إنتاج أمهوي الموسيقي لحملات جمع الأموال للأطفال.

في الستينيّات، درست أمهوي الموسيقى الدينيّة في القرن السادس عشر، ثم أصدرت أسطوانتها الأولى عام ١٩٦٧. رغم عودتها إلى العزف والتلحين إلا أنها قامت بعدد قليل من العروض والتسجيلات خلال حياتها. تعيش اليوم المؤلفة الراهبة في دير راهبات في القدس، وفي غرفتها بيانو ما زالت تعزف عليه وقد تجاوزت التسعين عامًا.

لعلّ السيرة الذاتيّة لأمهوي، تكشف بعضًا من مصادر التأثير على معزوفاتها، وأسباب تشابهها مع واختلافها عن ساتي، شوبان، ديبوسي وآخرين. فهي تشترك مع شوبن وديبوسي في استخدام الـ سلم الخماسي (غير الأوروبي والمستخدم في الموسيقى الأفريقيّة) في مقطوعاتها للبيانو، ما قد يفسر لمَ تذكّر مقطوعاتها بمعزوفات هؤلاء الملحنين. حيث يبدو أن نقطة التقاء أمهوي مع الملحنين الأوروبيين من الفترة الرومانسيّة، ومن ثم الانطباعيّة والقرن العشرين، تكمن في محاولة إدراج عوامل موسيقيّة جديدة، شعبيّة وغير أوروبية على المعزوفات الكلاسيكيّة. ففي هذه الحقبات، لم يتأثر الملحنين بأنواع موسيقيّة أخرى فحسب، بل قاموا بإدخالها بشكل واع في الموسيقى الكلاسيكية. على سبيل المثال، قام بيلا بارتوك بدراسة ومن ثم تبني ألحان فولكلوريّة شرق أوروبية لمعزوفاته، كما استعمل جورج جرشوين الجاز في موسيقاه. مثال آخر للعوامل الجديدة هو تبنى بُنًى وإيقاعات موسيقيّة شعبيّة، كرقصة الفالس وبلورة شكل كلاسيكي لها، وإيقاع الهابانيرا الكوبي في أوبرا كارمن لبيزي. خلافًا لـ أمهوي، بقيت جميع هذه المقطوعات ضمن السياق الموسيقي الكلاسيكيّ بشكل واضح، حيث تخضع كل معزوفة للغة الموسيقيّة الغربيّة الخاصة ببنيتها وحقبتها الزمنيّة.

أما موسيقى أمهوي المتأمّلة، فمعزوفاتها ذات طابع خاص يجعل من أسطوانتها الصادرة عام ٢٠٠٦ عن تسجيلات بودا ميوزيك ضمن سلسلة أسطوانات إثيوبيك، متماسكة بشكلٍ بارز. تحتوي الأسطوانة على ستّة عشر معزوفة للبيانو، يتراوح طولها بين الدقيقتين والتسع دقائق. من ميزات المعزوفات هو الاستخدام المكثف للسلم الخماسي والذي ينحاز بالمعزوفة لألحان شعبية ويسرّب طابع جازي. يندمج السلم الخماسي مع إيقاع فضفاض داخل مبنى دائريّ، ما يجعل المقطوعات مألوفة بسرعة من ناحية وغير اعتياديّة من ناحية أخرى. ففي العديد من المقطوعات، مثل: ذ ستوري أوف ذ ويند وهومسيكنس وذ هوملِس وُندرر ومذرز لَف، تقدّم أمهوي جملًا لحنيّة طويلة، تبدو أحيانًا أشبه بارتجالات مزاجيّة تختلف بطولها الواحدة عن الأخرى، وبالمقابل تختتم الجمل بـ جواب قصير وصارم إيقاعيًّا، قد يشكل قاعدة تنطلق منها وتعود إليها الجمل الأولى، وبذلك يُبنى إطار ما للمعزوفات.

يشكل الإيقاع عاملًا بارزًا في معزوفات أمهوي – فإذا تناولنا مقطوعة ذ هوملِس وُندرر، نجد أن الملحّنة تستهل المقطوعة بجملة موسيقيّة تنازليّة مرتكزة على السلم الخماسي بإيقاع غير منتظم، وتختتمه بجوابٍ نقيض قصير ومستقر إيقاعيًا، يليها تكرار للجملة الأولى مرات عديدة تتوسّطها جمل موسيقيّة قليلة تكرّر نفسها هي الأخرى. قرب منتصف المقطوعة، تكرّر أمهوي الثيمة الأولى ولكن هذه المرة (في الدقيقة ٣:٠٧)، بإيقاع مختلف، ليس بالسرعة ولكن بالبنية. هذه الخطوة مثيرة إذا تمّت مقارنتها مع التغيّرات المعتادة في الموسيقى الكلاسيكيّة على الثيمة الرئيسيّة، مثلًا في بنية السوناتا، تُعاد الثيمة الأولى في أول مقطع، أي العرض، بشكل مختلف وذلك من خلال تقديم ذات الثيمة ولكن بسلم مختلف، إلا أن التغيير لا يصل عنصر الإيقاع. إضافة إلى ذلك، يبدو أن أمهوي تستغل التغيير في الإيقاع لتبني التوتّر المطلوب لبلورة المعزوفة، وذلك على الرغم من التكرار المكثف. في المقابل، في مقطوعة إيفننج بريز، تستخدم أمهوي الإيقاع بشكل مختلف، فتبني المعزوفة على إيقاع الهابانيرا في الخلفية (يمكن تمييزه بوضوح في الصوت المنخفض بالدقيقة ٠٠:٠٦)، وهو إيقاع مرتبط بالشعوب اللاتينيّة والأفريقيّة. رغم انخفاض نبرته في معظم المعزوفة، إلا أنّه يرافقها حتى النهاية بشكل ثابت، فيساهم بخلق استمرارية وسلاسة للمقطوعة، بعكس وظيفته القائمة على خلق التوتر في المقطوعة السابقة.

في إحدى المقابلات مع أمهوي حول اللغات الموسيقيّة المختلفة في معزوفاتها، قالت إنّه بالنسبة إليها فهي “تلحّن شوبان”. قد يكون هناك تأثيرات من شوبان وموسيقى أوروبيّة كلاسيكيّة أخرى، إلا أن تراكم هذه التأثيرات مع موسيقى غير أوروبيّة، تضفي على معزوفات أمهوي طابعًا خاصًا. فالدمج الذي تقدمه مختلف بشكل جذري عمّا نتج عن مؤلفين أوروبيين كلاسيكيين مع ذات العوامل. إذ أنها لا تصب عوامل شعبيّة في بُنَى كلاسيكيّة، كما ومن الصعب ضمّها لإحدى الحقبات الكلاسيكيّة أو لأي نوع موسيقي آخر. بالتالي، بدلًا عن الحلول الخاصة لكل نوع وفترة موسيقيّة، تقدّم حلولًا أخرى كاستغلال الإيقاع لخلق التوتر أو الاستمراريّة كما ذكرنا في الفقرة السابقة. بذلك تكّون مزاجًا خاصًا بها في نقطة التماس بين العوالم الموسيقيّة المختلفة.

المزيـــد علــى معـــازف