fbpx .

معرض الموسيقى في باريس | تضافر الكيتش والاستشراق

فادي العبد الله ۲۰۱۸/۰۵/۰۹

يجمع معرض “الموسيقى” المستمر حالياً حتى منتصف أغسطس ٢٠١٨ في فيلهارمونيا باريس بين عدد من النوايا الحسنة ـ منها التنبه  إلى أن الموسيقات العربية ليست آخر ولا دخيلًا، إنما كانت وتستمر في كونها جزءًا من النسيج الموسيقي الموجود في الغرب منذ الأندلس وصولًا إلى الراي، والتنبه إلى أن إدوارد سعيد انتقد الاستشراق قبل ثلاثين عامًا بالتمام والكمال فينبغي تاليًا استكتاب عدد من المعنيين بالأمر من أبناء تلك الشعوب نفسها، وتقديم أمارات الاحترام والإنصات لتلك الموسيقات ـ وعدد من الأفكار الحسنة كمعرض تخصيص قاعة للأطفال ليلعبوا وليقرأ لهم الأهل فيها، وإدخال أعمال فنية عربية معاصرة تتناول من قريب أو من بعيد أثرًا موسيقيًا أو ثيمة من المعرض.

إلا أن طريق الجحيم مفروش، كما يقول الفرنسيون أنفسهم، بالنوايا الحسنة. فالمعرض مشبع بكيتش بصري لا مثيل له سينوغرافيًا في أي معرض مشابه في العالم، بدءًا من الألوان المائية والتصميمات الاستشراقية (الخيمة، ومكبر الصوت فوق ما يلوح كأنه قنطرة لبرج جامع) ونثر الطرابيش وعلب النيدو ورب البندورة واللانشون في أنحائه، والاستخدام المتكرر للنجمة المثمنة على أوراق كرتونية واقتراح الزليج والقبب كعناصر بناء على الأطفال كما لو أن أحدًا سيقترح في معرض عن الموسيقى البريطانية أن يبني الأطفال مدينة لندن باستخدام العقود القوطية أو العواميد الرومانية، بدلًا من ناطحات السحاب الزجاجية. أيًا كانت نوايا أو خطاب أصحاب المعرض، فإن العربي يمثّل بصريًا بوصفه الآخر والقديم باستمرار.

 فضلًا عن ضعفه التقني (ضرورة وصل السماعات بالحائط مثلًا بشكل بدائي للاستماع إلى المقتطفات الصوتية) وفقره المضموني (لا تسجيلات أو مخطوطات نادرة إلا القليل جدًا ولا آلات موسيقية ثمينة عدا عود نحات ـ جورج لا عبده ـ وحيد ومتأخر زمنًا، ١٩٣١) فإن المعرض وأصحابه، من عرب وفرنسيس، يعانون من مشاكل مفهومية تنتشر على كامل مستويات المعرض.

المشكلة الأولى تتعلق بالطبع بالإسلام ومماهاة العرب به. فأصحاب المعرض لم يقرؤوا ما كتبه عبد الرؤوف أورتاني في كتاب معرضهم نفسه، من أن الموسيقات العربية لا يمكن تعريفها بالإسلام ولا تماهيها معه. إذ يستقبل الداخل إلى المعرض مجسم لتاريخ العرب في ٢٥ موعداً تبدأ مع نبي الإسلام، ثم يستمر المعرض في نقاش موضوع الشعر الجاهلي والحداء والإسلام والموسيقى والأمويين فالعباسيين، أما حين يتحدث عن التأثيرات على الموسيقى العربية آنذاك فما يذكر هو فارس والحبشة، وفي مكان آخر عن الصوفية (التي لا تعرض إلا بوصفها شطحًا وأضاحي وتصرفات غرائبية) تأتي التأثيرات من أفريقيا جنوب الصحراء. بمعنى آخر، لا يتنبه أصحاب المعرض إلى أن ما ندعوه اليوم الموسيقات العربية (والجمع أوفق تعبيرًا عن تعددها الكبير وتنوعها الذي أشار إليه أورتاني) هو موسيقات الشعوب في الدول التي تعرف نفسها بكونها عربية الوجه بشكل ما، وأن ذلك يعني أن من المستحيل افتراض أن تاريخها بدأ من الحجاز مع الإسلام وتجاهل الإرث الشامي/البيزنطي والمصري/القبطي والرافديني والمغاربي/البربري وغيرها مما سبق بآلاف السنين ولادة الإسلام ولم ينقطع أثره في موسيقات هذه الشعوب وصولًا إلى اليوم. فالموسيقى ليست كاللغة ويمكن لها أن تستمر وتنتقل حتى وإن تغيرت لغة الأقوام بأثر الحروب ولغة الحكام، وما تعريب الليتورجيا في الكنائس المشرقية إلا مثال بسيط على ذلك، ومثله الغناء الديني اليهودي بالعبرية في مصر ولكن بموسيقى لا تختلف أبدًا عن الموسيقى المصرية (أنظر مثلًا ترنم زكي أفندي مراد بالعبرية).

المشكلة الثانية تتعلق بالطبع بالهوية الفرنسية لهذا المعرض، حيث يلوّح لزائره أن أصحابه معنيون أكثر بمسألة موقع المغاربة والجزائريين من فرنسا منهم بالموسيقى نفسها. فيحشر في معرض “الموسيقى” ثيمة تخصص لها أكبر قاعات العرض عن الموسيقى في المهجر، غير أن هذا المهجر فرنسي حصرًا، فلا أثر مثلًا للتسجيلات العربية المهجرية في البرازيل والولايات المتحدة من النصف الأول للقرن العشرين ولا لحضور جاليات أخرى في إسبانيا وبريطانيا، إلخ. ما يهم أصحاب المعرض هو في نهاية الأمر حي باربيس الباريسي حيث يحضر أبناء المغرب والجزائر وتذكر الصالات التي أسسوها والاستقبال الذي حظوا به أثناء وبعد حروب الاستقلال، ويُقدم الشاب خالد أو بشار، ابن مارسيل خليفة، باعتبارهما يرفعان أعلام فرنسا على الساحة الدولية كما لو أن الموضوع مونديال كرة القدم. ولئن كان من حق أصحاب معرض باريسي استدخال مثل هذا الموضوع إلا أن تضييق زاوية النظر إليه دال على ضيق النظرة لا شمولها وعلى قرب الهدف السياسي منه بدل أن يكون هدفه متساوقًا مع السمو المعرفي الذي يحب أصحابه أن يفترضوه في أنفسهم وأن يعلنوه.

المشكلة الثالثة تتعلق، بالطبع أيضًا، في الاستشراق وفي استخدام كتّاب عرب بكل استسهال ليخدموا تلك النظرة الاستشراقية المتعارضة مع تصريحات أصحاب المعرض أنفسهم عنه بوصفه لا استشراقيًا. فالكتّاب عربًا وغير عرب لا يتمايزون عن بعضهم في النظرة الاستشراقية الغرائبية وفي الاستسهال العجيب وغير المقبول. يبدأ الاستسهال من مقارنة الترجمات العربية والفرنسية والإنكليزية ببعضها واكتشاف تفاوتها، البالغ والخطير أحيانًا، فحيث يتحدث النص الفرنسي والإنكليزي عن وجود “عناصر ميلودية” مهمة في الإسلام والأذان والتجويد، يتحدث النص العربي عن أهمية “التلحين”! أما أنيس فريجي حين شاء أن يعرض الموسيقى العربية المعاصرة فلم يتناول في مقالته سوى مؤلفين اثنين فقط، زاد ملتقى وأحمد السيد وآرائهما متجاهلًا عددًا لا يحصى من الآخرين ذوي التوجهات المغايرة. ويستمر ذلك في إهمال التدقيق اللغوي والتأريخي، فتكتب مسؤولة المعرض فيرونيك ريفيل في أن مؤتمر الموسيقى العربية عقد في ١٩٢٢ (والصحيح ١٩٣٢ بعد أن نضجت نتائج ثورة ١٩١٩ والمسار السياسي المصري المستقل عن الخلافة العثمانية) وآخر يتحدث عن “شحط” مولانا (والصواب الشطح).

ولا يقصّر باقي الكتاب سواء من الفرنسيس أو من أبناء جلدتنا العرب في الغرائبية والكتابة السطحية والكيتشية، فينافس كريستيان بوشي نفسه، في السخافة في مقال عن الناقة الموسيقية يسترجع فيه حكايات المستشرقين في ربط الغناء العربي بالنوق، وفي الكذب الإكزوتيكي حين يعرض روايات لا سند لها عن التاكسيات الأولى ما بين دمشق وحلب وأغنيات أم كلثوم التي تستمر الواحدة منها لأربع ساعات! أما ناديا مفلح فمُصرة على القول بأن سامية جمال كانت مغنية إضافة إلى كونها راقصة وعلى وصف عبد الحليم بأنه سيناترا النيل أما فريد الأطرش فهو الكرونر ذو الوجه الحزين!

ولئن كانت المقالات الكثيرة عددًا، القصيرة جدًا حجمًا، منعت آخرين من تقديم عروض أو أفكار غنية فإنها لم تجبرهم على الاستسهال! بل إن اثنين منهما نجحا حتى في تقديم نقاش مفيد، فها جان لامبير مثلًا يتحدث عن مؤتمر الموسيقى العربية في ١٩٣٢ والذي شهد ولادة التعبير نفسه واستبداله بالموسيقى الشرقية، الذي كان رائجًا قبل ذلك، وعن علاقة ذلك بالتطورات السياسية وعملية بناء الهوية العربية ورغبة الموسيقيين المصريين والعرب في الابتعاد عن الإرث العثماني مع الاحتفاظ بالمؤلفات الآلية منه وإدماج ذلك مع إرث الموشحات العربية في عملية التطوير التي جعلتهم يصطدمون بالخبراء الأجانب الذين يريدون من وجهة نظر إثنوـ موسيقولوجية الحفاظ على كل الموروث وتسجيله دون تطويره. وها عبد الرؤوف أورتاني يشرح أن لا الإسلام ولا اللغة العربية ولا حتى المقامية هي عناصر كافية لتعريف الموسيقى العربية في منطقة تضم خليطًا من الأديان والأقوام والأنماط الموسيقية، فينتهي به المطاف في نقطة قريبة من تحليل لامبير لمؤتمر الموسيقى العربية، أي في القول بأن اصطلاح “الموسيقى العربية” إنما يعبر عن “إرادة بناء هوية عربية” والإطار السياسي التاريخي والجغرافي لذلك، وفي السؤال ـ لا عن الموسيقى العربية في ذاتها ـ بل السؤال: بالنسبة لمن تكون “الموسيقى العربية” تلك “عربية”؟

تُوجه ريفيل الشكر إلى عدد كبير من أصدقائها ومن كتابها، ونسبة معتبرة منهم عرب بحسب ما يستشف المرء من أسمائهم، إلا أن ذلك ليس “نظرًا من الداخل” وليس يعصم من الكيتش (في معناه البصري المبتذل) ولا من الاستشراق، فكيف بتضافرهما معًا!

المزيـــد علــى معـــازف