أجنبي قديم

الفردوس المسموع | كيف أصبح بيتهوفن بطل بيتهوفن

كريم الصياد ۱۹/۰۷/۲۰۱٦

١. تمهيد

في دراستين سابقتين نُشرتا على معازف حاولنا طرح مدخل جديد لفهم وتحليل الأعمال الكلاسيكية لكل من رحمانينوف وسيبليوس، وذلك انطلاقًا من رؤية للفن بوصفه نشاطًا إنسانيًا واعيًا، يستهدف أساسًا استعادة أو إعادة بناء الهوية الشخصية للفرد الإنساني، تلك الهوية التي تتعرض للتفكك والتبدّل على مرّ الزمن واختلاف المَكان. كما تعرضنا لسيمفونية بيتهوفن التاسعة في مقال بعنوان لاهوت السيمفونية التاسعة، العنصر الديني في موسيقى بيتهوفن على معازف أيضًا، غير أن المقال الأخير لم يستعمل ذلك المنطلق سابق الذكر. وهذا المنطَلَق يفترِض في الفن محاولة للتغلب على (أثر الفقْد) الذي يقع تحت وطأته الفنان في هذه الصيرورة الزمكانية الحتمية، وبالتالي يمكن إعادة فهم الفن والعمل الفني باعتبار كل منهما إعادة تخليق لهوية أصيلة أكثر ثباتًا وامتناعًا على الصيرورة.

وبيتهوفن أصعب على التحليل من رحمانينوف وسيبليوس مثلاً من هذا المنطلَق؛ نظرًا لأنه لم يعمّر طويلاً (كسيبليوس) لنفترض تأثير الزمن والعمر المُبدِّل للهوية الشخصية، حيث عاش بيتهوفن حتى السابعة والخمسين فقط، ولم يهاجر إلى بلد غريب إلى حد كبير (كما هاجر رحمانينوف من روسيا إلى أوروبا ثم أمريكا مثلاً) بما يسمح بالبداهة بافتراض تأثير اختلاف المكان؛ فقد هاجر بيتهوفن فعلاً ولكن إلى فيينا، التي هي على بُعد مرمى حجر من بلده ألمانيا، دون اختلاف كبير في المكان من حيث الطبيعة والمدنية واللغة والثقافة. هذا، وتظل محاولة الكشف عن المفقود البيتهوفني بما هي محاولة بقطع النظر عن درجة نجاحها في غاية الأهمية؛ من أجل تفسير المنشأ الوجودي لأعمال أحد أهم الموسيقيين والفنانين قاطبة.

٢. مفقود بيتهوفن

نظرًا إلى أن موضوع المقال ليس فلسفة الفن أو الفلسفة الوجودية[Mtooltip description=” فلسفة الوجود الإنساني الفردي المتعيِّن” /] فإن منهجية استخلاص مفقود الفنان عمومًا ليست موضوعًا مركزيًا ينبغي أو يمكن التوسعُ فيه في هذا المقام، غير أنه من الممكن تحديد مصدرين أساسيين يمكن للناقد الاعتماد عليهما ابتداءً لفهم هذا المفقود، أولهما سيرة حياة الفنان في المصادر الأدقّ لها، وثانيهما أعمال الفنان نفسها من حيث سماتها الأساسية. فمن المعروف مثلاً أن بيتهوفن قد اهتم وتأثر كثيرًا بتجربة الثورة الفرنسية، وحياة نابليون بونابرت، وأنه تفاعل فنيًا معهما، كما أن كثيرًا من أعماله، كافتتاحية إيجمونت، والسيمفونية الثالثة إيرويكا، وغيرهما، تتضمن موضوعًا محددًا، يمكن تحليله وفهمه نظريًا.

ومن التفاصيل المنهجية الأهم التي يمكن التعرض إليها في هذا السياق هو ما نطلق عليه الفردوس المفقود، فلكل إنسان فردوسه المفقود، وبالتالي لكل فنان. وفَقْدُ هذا الفردوس هو ما يُحدِث لدى الإنسان أثَرَ الفقْدِ، بالإضافة إلى التغيرات الزمكانية سالفة الذِّكر. وبالتالي يسهم فهمنا لطبيعة فردوس بيتهوفن المفقود في فهمنا لمفقوده، وبالتبعية إعادة تصورنا النظري لأعماله من مدخل جديد، استعملناه كما سبق ذكره مع رحمانينوف وسيبلِيُوس.

يمكن تَعْدِيدُ ثلاثة فراديس مفقودة رئيسية عند بيتهوفن:

٢.١ الفردوس المَسموع أو الصَّوْتي

وهو مسموع بيتهوفن قبل أن يبدأ فقْدُ سمعِه تدريجيًا منذ عام ١٧٩٨[Mtooltip description=” Mai, Francois Martin, Diagnosing Genius: The Life and Death of Beethoven, McGill-Queen’s Press, p. 106″ /]. إن فقدَ السمع عند بيتهوفن هو على وجه التحديد فقده لأحد فراديسه الأجمل والأثرَى. إن الفنان لا يتلقى العالَم منفصلاً عن موهبته ومعالجته الفنية؛ فالفنان التشكيلي مثلاً لا يرى كما يرى غيره من غير التشكيليين ومِمن سواه مِن التشكيليين المخالفين له في مذهبه، بل يراه كما يحلله إدراكيًا في أشكال وطبقات وألوان وظلال تظهر بعد ذلك في أعماله. ويتفاوت الفنانون في درجة أصالة هذا التلقي، فمنهم من يقترب من التلقي المعتاد لدى الغالبية مِن قبلُ، ومنهم من يفارق هذا التلقي مفارقة بعيدة، لذلك قد تبدو أعماله صعبة على التلقي بقدر أصالتها، وهو التناسب الطردي بين أصالة تلقي العالَم وأصالة إبداع عالَم بديل. تتناسب درجة أصالة الإبداع طرديًا بدورها مع مدى نجاح العمل الفني في التغلب على أثر الفقْد، حين ينسج الفنان حول ذاته شرنقته الفنية الخاصة، التي تمثل عالَما بديلاً عن ذلك الذي جرى ويجري فقدُه. كذلك الموسيقار لا يسمع العالَمَ كغيره، فالعالَم المسموع عند بيتهوفنعلى أصالته الإبداعية أثرى كثيرًا وأكثر اختلافًا مما سمع ويسمع سواه. وقد فقدَ بيتهوفن هذا العالَم المسموع تدريجيًا منذ ذلك التاريخ أعلاه، ليتآكلَ مسموعُه ويتكونَ مفقودُه بالمعدَّل نفسه، وليصير بيتهوفن أول مَلَك ساقط من الفردوس المسموع. وربما صيغَ أهم عمل لبيتهوفن ، وهو سيمفونيته السادسة ، لمحاولة التغلب على أثر فقد الفردوس المسموع. فقد نصحه الأطباء بالبعد عن الضوضاء وإراحة سمعه من أجل الحفاظ على ما تبقى منه في بقعة تتميز بالهدوء. وبالفعل عاش بيتهوفن بقية عمره (أهم فتراته الإبداعية) قرب الريف الفييني، تلك الخبرة الصوتية التي أكسبته موضوعَ السيمفونية السادسة (الباستورال). إن السيمفونية السادسة لبيتهوفن تبين لنا كيف كان يحلل ويفهم أصوات الطبيعة بالذات، بما فيها من عناصر بشريةريفية وغير بشرية.

السيمفونية السادسة من أسهل الأعمال في التحليل الموضوعاتي[Mtooltip description=” Thematic” /]؛ نظرًا لتضمنها برنامجًا محددًا؛ فالحركة الأولى تمثل بهجة الفنان وهو يصل إلى الريف، وتحتوي على عنصرين أساسيين: موسيقى الفنان الداخلية، وهي المعبرة عن مشاعره في هذا الموقف، وموسيقى الطبيعة الخارجية، التي يتلقاها الفنان نفسه. وهي مدخل عام للطبيعة التي تحاكيها وتحكيها السيمفونية ككل. نسمع فيها الريح والمياه بالوتريات، خاصة الفيولا والتشيللو والباص، ونسمع مزجًا من أصوات الطيور والقوارض ممثلاً بتلوينات[Mtooltip description=” Colorations – التلوين الأوركسترالي هو تخليق أصوات عن طريق الدمج بين أصوات آلتين أو أكثر من آلات الأوركسترا. ويجب التمييز بينه وبين الهارموني بالنسبة لغير المختص” /] بيتهوفنية مميزة، فقدها بيتهوفن للأسف مع تقدمه في العمر وبالتالي في الصمم التلوينات في هذه السيمفونية بالذات هي الأوضح في سياق أعماله، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أن حالة الصمم لم تكن قد تقدمت به بعد. ولأن هذه السيمفونية أقرب إلى سيمفونية الصوت نفسه، فهي كالمسرحية التي تُعد لمعالجة المسرح ذاته مثلاً، أو اللوحة التي تصور فن التصوير، في نوع من اختراق الحائط الرابع للفن. يقول بيتهوفن هنا: هذا هو ما أسمع وكيف أسمع الآن!

تأتي الحركة الثانية المتهادية لتركز على أصوات الطبيعة غير البشرية. يتضح فيها صوت الطيور بالفلوت والأوبو والكلارينيت، ويسري صوت الجداول بالوتريات، مع رياح هادئة خفيفة، وسماء صافية. وفيها بشكل عام تركيز على الموسيقى الخارجية كما ذكرنا في الفقرة السابقة. أما الحركة الثالثة فعلى العكس: تركز أكثر على الموسيقى البشرية، إنها احتفال ريفي مرح بسيط قصير، تقطعه الطبيعة التي تدلهمّ فجأة بتتابع يفهمه من عاش في وسط أوروبا، حيث يظلم الجو ويعصف دون سابق إنذار. وهنا تبدأ الحركة الرابعة (العاصفة) متصلة بالثالثة، لتأكيد الخيط الدرامي. قال الدكتور حسين فوزي[Mtooltip description=” قال ذلك في البرنامج الثاني الذي كان يُبث من مصر ومخصصًا للموسيقى الكلاسيكية، يعاد بثه حاليًا على البرنامج الثقافي المصري” /]: “لكل موسيقار رومانتيكي عاصفته، وهذه هي عاصفة بيتهوفن. نسمع فيها البرق بالبيكولو، والرعد بالطبل، الذي ادخره بيتهوفن لهذه الحركة بالذات، ثم تضعف العاصفة تدريجيًا، ليصفو الجو في وهن، ثم في سطوع واضح، والمقام يستعيد العُلُوّ. وتبدأ الحركة الخامسة والأخيرة متصلة أيضًا بالهوائيات الخشبية، تعزف (أو تؤلِّف أمامَنا) اللحن الأساسي، بذلك الأسلوب البيتهوفني في استعراض اللحن من مفرداته الأولَى، وهو الأسلوب الذي يظهر كذلك بوضوح في سيمفونيته السابعة ثم التاسعة، حيث لا يستعمل أحيانًا أسلوب إعلان اللحن بشكله المكتمل (سابق التجهيز) الذي كان يستعمله موزارت وهايدن، وإنما يستعرض مراحله التكوينية أمامَ السامع قبل ارتقاء ونضج اللحن، ومن ثم تفاعله. وتتخذ الحركة صيغتها من الروندو[Mtooltip description=” صيغة موسيقية تنوع بين الألحان في صورة: أ، ب، أ، ج، أ، د،… وتنتشر في الحركات الختامية من السيمفونية والسوناتا والكونشرتو” /]، مع استعراض لبراعة غير مسبوقة في التوزيع واستنزاف الأوركسترا.

هل يمكن الحديث عن فردوس مسموع مفقود آخَر عند بيتهوفن سوى العالَم المسموع في الطبيعة والمدنية؟ إن كان يمكن ضم هذين الفردوسين المفقودين معًا تحت هذه النقطة، فإنه يمكن الحديث هنا كذلك عن الفردوس الموسيقي المفقود. فمن المعروف أن المدرسة الكلاسيكية بأعلامها الأربعة الكبار هايدن وجلوك وموزارت وبيتهوفن المبكر، قد حاولت تنقية الموسيقى من الزخارف والتكلف الباروكيين السابقين عليها في أعمال باخ وهندل ومونتفردي وفيفالدي وغيرهم، عن طريق اعتماد صيغ أبسط (التخلي مثلاً عن شكل الفوجه) وأسلوب أقل تعقيدًا، بحيث يمكن فهم العمل وتصوره كوحدة واحدة من النظرة الأولَى، مع اعتماد أقل على الهارموني. ولكن بيتهوفن الذي اشتهر بقدرته في شبابه كعازف ارتجالي قدير، وخاصة بعزفه لفوجات يوهان سيباستيان باخ، قد افتقد ثراء وبَرّية الباروك إن جاز التعبير، فحاول استعادة الأساليب الباروكية في سياق أطروحة الرومانتيكية الأشمل والأقدر على الاحتواء دون ضياع الماهية. وهنا نجد تفسيرًا ممكنًا لاستعماله شكل الفوجه أو بالأحرى ما أوثر تسميته بالتَفْوِيج في سياق معالجة اللحن أو التفاعل[Mtooltip description=” قسم الإنماء من صيغة السوناتا” /]. يتضح هذا مثلاً في الحركة الرابعة من السيمفونية الثالثة في أكثر من موضع، وفي السيمفونية التاسعة بطبيعة الحال في حركتيها الأولى والرابعة خاصة. كما يظهر في القسم التقديمي من الحركة الأولى من السيمفونية السابعة. وقد استعمل بيتهوفن شكل الفوجة مباشرةً في الفوجة الكبيرة[Mtooltip description=” Große Fuge” /] مصنف رقم ١٣٣، التي كانت في الأصل الحركة الأخيرة من الرباعي الوتري رقم ١٣ له[Mtooltip description=” Donelan, James H., Poetry and the Romantic Musical Aesthetic, Cambridge University Press, p. 169″ /]. يُضاف إلى ذلك توسعه في استعمال الهارموني والتلويين وإثراء الأوركسترا ذاتها بالعدد والآلات، هذا الذي وصل إلى أقصاه في أوركسترا السيمفونية التاسعة مع إضافة الصوت البشري وآلات إيقاعية لم تكن معتادة في السيمفونية كالمثلت والسيمبال.

٢.٢ الفردوس الجَمْعي (السياسي)

كأغلب مثقفي عصره، تحمس بيتهوفن للثورة الفرنسية بما تضمنته من إعلان مبادئ الإخاء والمساواة والديمقراطية واللا طبقية والقضاء على نظام اقتصادي استعبد الأغلبية لحساب الأقلية، وبما بشرت به من انتشار، وبما زلزلت به عروش ملوك أوروبا التي لا تميد. وقد خاب أمله بقدر اندلاع حماسته من قبلُ مع عودة نابليون بونابرت إلى فرنسا وتنصيب ذاته إمبراطورًا مطلَقًا، ليقضي على هذه التجربة السياسية – الحضارية الإنسانية في قلبها. ليس هذا وحسب؛ فنابليون نفسه كان بطلاً مقدسًا عند بيتهوفن، وقد سقط سقوط الأبطال: في هوة الأبد، بإرادته الحرة[Mtooltip description=” Comini, Alessandra, The Changing Image of Beethoven: A Study in Mythmaking, Sunstone Press, p. 87. Also compare: Rumph, Stephen, Beethoven after Napoleon: Political Romanticism in the Late Works, University of California Press” /]. إن ذلك الفردوس الجمهوري، الذي لم يتحقق قط في حياته، هو أحد أهم الفراديس المفقودة لبيتهوفن، والذي لا بد أنه حاول استعادته أو إنقاذه موسيقيًا بشكل واضح ومباشر.

لا يعرف الكثيرون أن نشيدًا إلى الفَرْح Ode an die Freude لشيللر الذي لحنه بيتهوفن في الحركة الرابعة من سيمفونيته التاسعة، والذي نُشر عام ١٧٨٦ قد اشتهر في ألمانيا كتغنٍّ بالمثل العليا للثورة الفرنسية[Mtooltip description=” Freitag-Community-Mitglied YPA, Die Geschichte hinter dem Song: Beethoven’s »Neunte Sinfonie« Der Freitag, Kultur” /]، وهو على التحديد التفسير الأكمل لاختيار بيتهوفن هذا النشيد بالذات. إن بيتهوفن يعلن في تاسعته انحيازه المشروط للثورة الفرنسية، المشروط بمبادئها ذاتها. ليس فقط من حيث اختيار الكلمات، بل الألحان كذلك؛ فإن من سمع موسيقى مسارح أوروبا التي انحاز فنانوها للثورة الفرنسية، وبخاصة في فرنسا، قادر على تتبع أثرها في ألحان بيتهوفن بدءًا من سيمفونيته الثالثة[Mtooltip description=” Broyles, Michael, Beethoven: The Emergence and Evolution of Beethoven’s Heroic Style, Excelsior Music Publishing Co., p. 233.” /]. ونظرًا لجوهرية السيمفونية الثالثة من حيث كونها القنطرة التي عبرت عليها فعلاً الموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانسية من جهة أولى، وترتيبها في أعمال بيتهوفن المبكر والتأسيسي بالتالي بالنسبة للمرحلة الفنية الأصيلة من حياته الإبداعية من جهة ثانية، واعتبارها الاختبار الحقيقي لأسلوب بيتهوفن الأصيل في التأليف، والذي نجح فيه بحق، من جهة ثالثة، فإنه ليس من قبيل المبالغة إطلاقًا اعتبار الثورة الفرنسية إلهامًا أساسيًا لبيتهوفن (على وجه الإيجاب)، وبالتالي افتراض ما لفردوسها المفقود من تأثير عليه (على وجه السلب).

تختلف ثالثة بيتهوفن عن تاسعته موضوعيًا اختلافًا هامًا: فبينما تركز الثالثة على البطولة الفردية، من حيث هي بطولة مشروطة كذلك بشروط مبادئ الثورة الفرنسية (لذلك شطب بيتهوفن الإهداء إلى بونابرت بعد سماعه بخبر إعلانه نفسه إمبراطورًا)[Mtooltip description=” Comini, Alessandra, loc. cit” /]، فإن التاسعة تركز على البطولة الجمعية الجمهورية المشروطة بالشروط الإنسانية نفسها. إن التاسعة إذن ليست أنشودة دينية، إذا دفع أحد إلى هذا الظنِّ ما بنشيد شيللر من شِبه ترنيمة مسيحية[Mtooltip description=” راجع بقية هذا التحليل للسيمفونية التاسعة، وراجع كذلك مقال لاهوت السيمفونية التاسعة على معازف” /]، وليست سيمفونية بطولية فردانية على غرار الثالثة، وهذا لتضمّن نشيد شيللر إحالات واضحة مباشرة نحو هوية إنسانية واحدة متحضرة مسالمة وجمعية. وهذه القدرة على تجاوز القومية الضيقة هي السبب في اختيار الاتحاد الأوروبي لهذا النشيد على لحن بيتهوفن ليكون الأنشودة القومية له[Mtooltip description=” Wikipedians (Ed.), The European Union, PediaPress, p. 1456″ /].

تبدأ السيمفونية التاسعة بداية حرجة حقيقية: من الصمت والصمم، مع نداءات أو تساؤلات متقطعة بالوتريات، لا تلبث إلا أن تندمج في وحدات أكبر، في تسارع تكويني يصل سريعًا إلى صيغة إعلان وافتتاح واضحة مباشرة. الحركة الأولى كلها هي هذا الافتتاح، فهي افتتاح للعمل ككل، الذي يبدأ مما وراء الحائط الرابع، مع بداية تشبه دَوْزَنَة الأوركسترا التي يقوم بها العازفون عادةً قبل العزف. ويُعاد هذا التتابع من الاندماج ثم الإعلان ست مرات. على هامش التأويل يمكن القول بأنها صيغة فنية فريدة في حد ذاتها؛ حيث لا تتضمن الحركة سوى هذا الافتتاح المتكرر، في عمليات نشأة وارتقاء وانحلال متتابعة، ومتسقة، مع العديد من التجديدات الميلودية والإنمائية، بما يجعل هذه الحركة لو اتُّخذتْ كعمل مستقل بذاته عملاً فريدًا في نسقه البنائي، ثريًا إلى حد مِن الندرة بمكان، وإشكاليًا؛ حيث لا تنطبق على هذه الحركة صيغة السوناتا بتمامها؛ فهي تبدأ بما يمكن اعتباره تفاعلاً لا عَرْضًا، ليتكون جسد الألحان، ثم يتفكك في شبه تفاعل ثانٍ، لتنتهي الحركة كما بدأت، أو فلنقل أنها صيغة سوناتا مقلوبة. وتنتهي الحركة بالتكوين، تكوين تلك الجملة ذات النغمات التسع، في سيادة ووضوح صادمين. وتمثل هذه الحركة وحدها إضافة هامة في سلسلة إبداعات مؤلفها، ويغلب على ألحانها طابع ألحان الثورة الفرنسية.

تبدأ الحركة الثانية سريعة حية[Mtooltip description=” Molto Vivace ” /] بدلاً من الحركة المتهادية التقليدية. وربما كان السبب في هذا التبديل بين موقعي الحركتين الثانية والثالثة أن الحركة الرابعة تبدأ هي الأخرى بداية قاصفة سريعة، مما يفرض بالضرورة في نظر بيتهوفن إرجاء الحركة المتهادية، كي يتدرج المستمع في السرعة من السريع إلى حد ما في الحركة الأولى، إلى السريع الحي، إلى المتهادي، ثم إلى السريع مرة أخرى[Mtooltip description=” قارن: حسين فوزي، بيتهوفن (دار المعارف، القاهرة، ط2، دوت تاريخ) ص ٧٦” /]. وربما شعر بيتهوفن بدرجة من التنافر في السرعة والطابع العام بين الحركتين الثانية والرابعة، فآثر أن يفصلهما بحركة متهادية، ذات طابع غنائي حالم توَّاق. إن الحركة الثانية من التاسعة حركة إيقاعية كما هو بيِّن؛ أي أن الإيقاع يحتل فيها موضع الصدارة، فهي رقصة درامية نشطة على صيغة السوناتا، يتجرد فيها الإيقاع في قسم تفاعلها من النغَم، وينفرد بالبطولة على ضربات الطبل (أم هي رجيف قلب؟). ويعد جزء التريو فيها (الجزء الأوسط من الرقصة) ثريًا بالتوزيع والتلوين في تكامل بنائي بيتهوفني خاصّ. وتستكمل ألحانها ذلك الطابع المُحِيل إلى الثورة الفرنسية موسيقيًا.

جاءت الحركة الثالثة متهادية غنائية، يميزها ذلك التفاعل الحميم الهادئ بين لحنين، للأول حسب ترتيب الورود إمكانية التفكيك والتركيب، بينما يتمتع الثاني بميلودية قوية مستعصية نسبيًا بطبيعة الحال على التلاعب في البنية، ويقطعهما مرتين ذلك النداء الشهير بالنحاسيات، الذي يتم تجاهله من اللحنين في المرة الأولى، والذي يستجيبان له وتردده الأوركسترا فيما يشبه الصدى فيما بعد، وربما رمز به بيتهوفن لدعوة ثورية ما، أو إرهاص بالحركة الرابعة. وقد ارتأى بعض المحللين أن الحركة الرابعة سيمفونية داخل سيمفونية، فهي أكثر ثراء وتعقيدًا من أن تعد مجرد حركة في عمل[Mtooltip description=” Compare: Rosen, Charles, The Classical Style: Haydn, Mozart, Beethoven, New York: Norton, 1997, p. 440″ /] هي أقرب إلى عمل كامل هو نفسه إعادة معالجة لموضوع الفانتازيا الكورالية قبل عشرين عامًا من حياة مؤلفها[Mtooltip description=” Compare: Di Grazia, Donna M., Nineteenth-Century Choral Music, Routledge, p. 12″ /]. وتتعدد سمات هذه الحركة، من التنويعات، للمارش، للترنيمة، للفوجة. وكان دمْج الكورال فيها بالأوركستر فتحًا في حد ذاته لعديد من المؤلفين الذين تجرَّأوا فيما بعد إلى حد استعمال الكورال في السيمفونية، مثل هكتور برليوز في سيمفونية روميو وجولييت، وفرانز ليست في سيمفونيتي فاوست ودانتي، ورحمانينوف في سيمفونية الأجراس، ومالر في سيمفونياته رقم ٢، ٣، ٨، وسترافنسكي في سيمفونية المزامير، وبنجامين بريتن في سيمفونية الربيع، وغيرهم. ومن الغني عن الذكر أنها تمثل كذلك استفادة من طابع ألحان موسيقى الثورة الفرنسية.

لقد حاول بيتهوفن في التاسعة استعادة فردوس الثورة الفرنسية المفقود، وتأسيس جمهورية موسيقية، بنبرة نطق لفظ الجمهورية وما يُحيل إليه من قيم ومبادئ وأحلام وطموحات في عهود الثورة ضد الملكية. صحيح أن المستمع اليوم لا ينتبه عادة إلى هذا الطابع الثوري في تاسعة بيتهوفن، أو لا ينتبه إلى مدى تأثيره وتناقضه مع موسيقى القرن الثامن عشر الكلاسيكية، لكنه من الممكن دائمًا أن يفهم هذا الطابع المميز إذا وضع في اعتباره السياق التاريخي لتكوين العمل، وللفكرة الجمهورية نفسها، التي لم يعد العالَم يحفل بها كثيرًا، في ظل سيادة عشرات من الجمهوريات الدكتاتورية، التي هي أسوأ بمراحل من الملكية في كثير من الأحيان، وفي ظل استمرار ملكيات دستورية ديمقراطية إلى حد بعيد كما هو الحال في المملكة المتحدة وهولندا وغيرهما.

إن نشيد شيللر نفسه مما يجب التركيز عليه بما هو نص أدبي عند تحليل هذا العمل الموسيقي؛ نظرًا لأن اختيار بيتهوفن له لم يكن اعتباطيًا بطبيعة الحال. لقد اختار بيتهوفن أنشودة من أناشيد الثورة الفرنسية هكذا مباشرة، ليقدمها في عمل موسيقى ملحمي شامخ، ويعلن انحيازه السياسي غير مستنكفٍ من المباشَرَة، اعتمادًا على قوة بيانه الموسيقي، الذي لا يحفلبسبب قوته من جهة وبسبب استهدافه كخِطاب فني من جهة أخرىبالتورية والغموض. كانت الأوضاع السياسية في كل أوروبا لم تزل في مرحلة الغليان والصراع الطبقي العنيف، ولم يكن بمستغرَب أن يقدم بيتهوفن هذه الأطروحة في وقته، وربما كان جزءًا من التقدير الفني، الذي حظيت به هذه السيمفونية في لحظة إعلانها الأولِ، راجعًا إلى انحيازها السياسي المباشر. ومن الواضح أن نشيد شيللر لا يُحيل إلى قومية محددة، وإنما يتحدث بلسان الإنسانية كلها، وصحيح أنه نشيد مسيحي بشكل ما في بعض أجزائه (في تعبيرات مثل: “من المؤكد أنه فوق قبة النجوم يقبع أبٌ حبيبÜberm Sternenzelt muss ein lieber Vater wohnen) لكنه لا يحيل إلى أبعد من ذلك في اللاهوت المسيحي، ومن المبالغة اعتباره نشيدًا مسيحيًا في جوهره بطبيعة الحال. يستعمل شيللر كذلك لفظ إخوةBrüder في مواضع أكسبها التلحين مركزية وتَكرارًا، بما تحيل إليه اللفظة من مبادئ الإخاء في الثورة الفرنسية، بينما تقبع الترنيمة الدينية في موضع أقل مركزية وتَكرارًا.

إن السيمفونية التاسعة سيمفونية بطولية كذلك مثل الثالثة والخامسة بلا شك، لكنها بطولة مختلفة كما سلف ذكره، بطولة إنسانية عامة، تنشد الفرْحَ والقوة والمجد للإنسانية بما هي كذلك، بما هي سلالة متآخية.

٢.٣ الفردوس الفردي (النفسي)

بيتهوفن من سادة الفقد؛ ما أكثر ما فقد وما أغلاه! وما أعظم وأبعد المدى الذي وصلت إليه محاولاته في التغلب على هذا الفقد! وإذا كان الفقد السمعي مدخلاً مناسبًا لفهم سيمفونيته السادسة، وإذا كان الفقد الجمعيالسياسي مناسبًا لتحليل سيمفونيته التاسعة، فإن الفقد الفرديالنفسي مدخل هام فيما نزعم لفهم الكثير من أعماله.

لم يفقد بيتهوفن فحسب سمعه، وجمهوريته التي حلم بها، وإنما كذلك فقد البطل والنموذج. والسؤال الصعب مِن ثمَّ هو: من بالضبط بطل بيتهوفن؟ لماذا تعلق بيتهوفن إلى هذا الحد بفكرة البطل وعبّر عنها، لدرجة افتراض وجود مدرسة خاصة بالبطولة في الرومانسية المبكرة، يمثلها بيتهوفن منفردًا؟ هو سؤال تظل إجابته غير دقيقة؛ إذ لا بد من إجراء تحليل نفسيتكويني موغل في التفاصيل، وغير مضمون النجاح. لكن يمكن الوقوف على مجموعة من الافتراضات ذات الوجاهة: أولها أن بطل بيتهوفن افتراضي بحت، وقد حاول أن يركِّب عليه من ارتأى فيهم البطولة الافتراضية. هل كان مصدر إلهام هذا البطل هو موزارت؟ من المعلوم أن بيتهوفن تأثر في شبابه بموسيقى ونموذج موزارت العبقري الإلهي، أو الطفل المعجِز. هل مات موزارت ففقد بيتهوفن بطله؟ أم هل لم يتحقق لبيتهوفن الطفل والشاب ما حقق موزارت طفلاً وشابًا فظل بيتهوفن يضرب مفاتيح الموسيقى بحثًا عن بطله الغائبالحاضر أو بعثًا له؟ إن التساؤلات كثيرة على كل حال، ولكن يمكن إقرار أحد الافتراضات الأكثر عمومية مما سبق بوجه من الاطمئنان، حين يقال إن بيتهوفن نفسه قد تمنى لو يقود جيشًا كنابليون بونابرت، فيدافع به عن الثورة والإنسانية والعدالة. تمنى أن يكون بطلاً ميثولوجيًا كبروميثيوس، أو تاريخيًا كإيجمونت، لكنه موسيقار أولاً وأخيرًا، مما دفعه لمحاولة تحقيق (وليس فقط التعبير عن) بطولة حقيقية ينفرد بها المؤلف نفسه. وهو فرض معقد يحتاج قدرًا من التحليل لفهمه. وبالتالي يمكن القول إن بيتهوفن قد تأثر بأربعة نماذج من الأبطال:

٢.٣.١ البطولة الميثولوجية (بروميثيوس)

وذلك في تأثره ببروميثيوس، ذلك الطيطان الذي منح البشر سر النار، وأحب المخلوق الفاني، لدرجة التضحية في سبيله، والعذاب من أجله، بين جبلين، يأكل الرخ كبده وهو معلق بينهما كل يوم، بحيث يُبَدَّل ليلاً كبدًا جديدًا، ليذوق العذاب من جديد. ألّف بيتهوفن موسيقى باليه لقصة بروميثيوس بعنوان Die Geschöpfe des Prometheus[Mtooltip description=” مخلوقات بروميثيوس” /] في مقتبل المرحلة الثانية الأثرى من حياته الإبداعية عام 1801 وفقًا لنص كتبه المؤلف والكاتب الإيطالي سالفاتوري فيجانو[Mtooltip description=” Salvatore Viganò +١٨٢١ ” /] وهو الباليه الوحيد المكتمل لبيتهوفن. هذا الاختيار أيضًا ليس اعتباطيًا بالتأكيد حيث يتسق داخليًا مع اختيارات بيتهوفن لموضوعات المعالجة في بقية أعماله ذات الموضوع. ويلاحَظ في الحركة السادسة عشرة Finale منه لحنُ الحركة الرابعة من السيمفونية الثالثة التي قدمت بعد ذلك بأربعة أعوام عام ١٨٠٥. ويمكن للمستمع المدقق المقارنة بين معالجة اللحن نفسه – على بساطته التي تميز ألحان بيتهوفن عمومًا – في الباليه الذي يتميز بطابع موسيقيّ خفيف راقص، وفي السيمفونية البطولية (إيرويكا)، حيث يستخلص منه بيتهوفن على بساطته تنويعات كثيرة متباينة هي أهم مرتكَز تقني يميز موسيقاه في رأيي (القدرة على التنويع)، ودمجه بصيغتي المارش والفوجه، في تصعيد بطولي مخيف[Mtooltip description=” Compare with: Lockwood, Lewis, Beethoven: The Music and the Life, W. W. Norton & Company, 2005, pp. 149-150″ /]. هذه الاستفادة من لحن بروميثيوس في الإيرويكا يعكس هذا التداخل على مستوى رؤية بيتهوفن بين نموذجي بروميثيوس ونابليون بونابرت، الذي كانت إيرويكا في الأصل مهداةً له. لقد رأى بيتهوفن نابليونَ في لحظة ما كبروميثيوس تاريخي، كتجسيد واقعي لنموذج ميثولوجي، مما استدعى ربما اللحن نفسه.

٢.٣.٢ البطولة التاريخية القديمة والوسيطة (كوريولانوس وإيجمونت)

قدم بيتهوفن لكل من النموذجين افتتاحية: افتتاحية كوريولان عام ١٨٠٧ عن مسرحية Heinrich Joseph von Collin بالعنوان نفسه (لشكسبير كذلك معالجة شهيرة تحت هذا العنوان يحدث أحيانًا خلطها مع معالجة فون كولِن)[Mtooltip description=” Bell, Richard H., Wagner’s Parsifal: An Appreciation in the Light of His Theological Journey, Wipf and Stock Publishers, p. 295.” /]، وافتتاحية إيجونت Egmont عن دراما ليوهان فون جوته عام ١٨١٠. وبفرض أن كوريولانوس شخصية تاريخية حقيقية، على الشك في ذلك[Mtooltip description=” Compare with: Braund, David, Gill, Christopher (Ed.), Myth, History and Culture in Republican Rome: Studies in Honour of T.P. Wiseman, University of Exeter Press, p. 73″ /]، فهو قائد روماني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، واشتهر بحصاره لروما بعد أن نفاه مجلس الشيوخ منها، فقاد جيشًا من أعدائها لاقتحامها، وحسب المصادر التاريخية كبلوتارخ فقد تراجع عن حصار روما بعد أن استعطفته كل من زوجته وأمه[Mtooltip description=” Plutarch, Lives of the Noble Grecians and Romans, Translated by John Dryden, Edited by A. H. Clough, The University of Adelaide Library” /]، وحسب فون كولن فقد انتحر حين لم يجد مخرجًا لا في الاستمرار في الحصار ولا في الانتصار ولا في الهزيمة، وحسب شكسبير فقد قُتل. لقد تبنى بيتهوفن النهاية الأكثر تراجيدية ونُبلاً، النهاية التي افترضها فون كولن بالذات، حيث استقدم الموت على نفسه، في موقف مأساوي رهيب. لقد توحد بيتهوفن مع ذلك البطل الإشكالي في لحظة بعينها –خاصة بُعَيْدَ إصابته بالصمم التدريجيجعلته يختاره لهذه المعالجة. ويمكن القول أن البطل في هذه الافتتاحية هو بيتهوفن نفسه، مما يجعل بالإمكان بالتالي ضم هذا التحليل أيضًا للقسم الأخير من فقرة البطولة في هذا المقال.

أما افتتاحية إيجمونت فهي أقل إشكالاً وأكثر وضوحًا في تعبيرها عن نموذج البطل التاريخي الإنساني البروميثيوسي. في الواقع فإن هذه الافتتاحية الشهيرة، التي تعتبر أحد أهم أعمال بيتهوفن، وربما أجمل افتتاحياته، تتألف من عشر مقطوعات وضعت لتمثيل تراجيديا إيجمونت مسرحية جوته، لكنها الأشهر، وآخر ما ألفه بيتهوفن من تلك المقطوعات العشر. وإيجمونت أمير إسباني منحدر من هولندا، قاوم محاكم التفتيش في زمنه، وأعدِم عام 1568، وتسبب إعدامه في انتفاضة أدت في النهاية إلى استقلال هولندا1. إنه ثائر مبكر ضد الاستبداد الدينيالسياسيالإقطاعي، ثائر حسب مبادئ الثورة الفرنسية قبل وقوعها بأكثر من مائتي سنة. وربما يمكن عقد مقارنة ذات مغزى بين افتتاحية إيجمونت والسيمفونية الخامسة للمؤلف نفسه؛ فكل منهما تبدأ بإعلان قوي صاعق متجهِّم، ثم ترد الأوركسترا على هذا الإعلان في توجس ووجل بالغين، ثم يسير التتابع الشعوري العام في العملين من التوجس وانتصار الإعلان القوي الابتدائي إلى التهادي في جو شبه جنائزي، ومنه إلى تحدٍ واضح، ومنه إلى انتصار ساطع مجنون ومُهيب، أو قد يمكن اعتبار إيجمونت تلخيصًا للسيمفونية الخامسة بشكل ما.

٢.٣.٣ البطولة التاريخية الحديثة (بونابرت)

سبق الحديث هنا عن علاقة ببيتهوفن ببونابرت، التي تلخصت في الإعجاب والتقدير البالغين اللذين لم يعدلهما سوى السخط والغضب فيما بعد. وكانت السيمفونية الثالثة (إيرويكا أو البطولية) مهداة في الأصل لنابليون بونابرت، ثم أزال مؤلفها الإهداء بعد سماعه بخبر قيام ديكتاتورية بونابرت، ويُقال أنه أوشك على تمزيقها، لولا أنقذها من غضبه بعض أصدقائه[Mtooltip description=” Compare with: Comini, Alessandra, loc. cit” /]. وتمثل هذه السيمفونية إنجازًا ضخمًا كما سبقت الإشارة إليه في فقرات هذا المقال في سياق إبداع المؤلف، وسياق المرحلة التأسيسية للرومانسية في الموسيقى. ولكنْ أبعد من ذلك، تمثل الإيرويكا محاولة بيتهوفن للتغلب على أثر فقد البطولة التاريخية الحديثة (المعاصرة له).

تبدأ السيمفونية بداية مختصَرة بضربتين للأوركسترا يليهما ذلك اللحن المأخوذ من افتتاحية باستيان وباستيين لموزارت في هدوء وفخامة، يليه استعراض اللحن نفسه بقوة، وهو السمة الأولى في صيغة السوناتا التي تتكون منها الحركة الأولى. تليها مباشرة السمة الثانية، ثم يكتمل استعراض الألحان، ليبدأ التفاعل. ويُعَد تفاعل هذه الحركة من أطول وأثرى التفاعلات التي ألفها بيتهوفن، لا يفوقه سوى تفاعل الحركة الأولى من تاسعته. يظهر فيه التداخل والتعارض والصراع بين السمتين، والتصعيد الدرامي المطوَّل، الذي ميز من حينه فصاعدًا أعمال بيتهوفن السيمفونية. وينتهي التفاعل لتبدأ إعادة العرض، ثم الكودا. ويمكن استنباط أن وقع هذه الحركة كان ثوريًا بكل المقاييس ومستغربًا بالقدر نفسه حين عُرضتْ للمرة الأولى، مخالِفةً في الطابع والتوزيع والتلوين والهارمونية وتركيب الألحان وطول التفاعل وطبيعة الإنماء كل التراث الموسيقي السابق عليها؛ ولكن يمكن أيضًا توقع أن كل ذلك كان متفهَّمًا من قبل الجمهور لحظةَ الإعلان؛ فهي سيمفونية تتخذ من نموذج الثورة ومثلها الأعلى (على مستوى المثال على الأقل لا الواقع) موضوعًا.

الحركة الثانية في الواقع أكثر شهرة، هي المارش الجنائزي، وهي أقرب لموسيقى جنائزية لشهيد أو بطل راحل، انتشرت حولها الأقاويل والتخمينات: من البطل الذي توفي؟ ولماذا توفي؟ وكيف تستكمَل السيمفونية بالضبط بعد وفاته؟ وليس من سبيل للإجابة عن هذه الأسئلة سوى انتهاج منهج النقد التكويني في علاقة تكوين العمل عند هذه النقطة بالسيرة الشخصية لبيتهوفن وأفكاره المساوقة لهذه اللحظة، سوى ذلك يمكن فقط رؤية الحركة على مستوى التحليل الشعوري في علاقتها ببقية حركات العمل باعتبارها استكمالاً لجوانب بلورة جوّ البطولة، فالبطل لا يكتمل كبطل إلا باستمراره بطلاً كذلك بعد رحيله، وفي تكريمه الجنائزي يظهر مدى تقديره حالَ غيابه. وربما كان التتابع الزمني المعتاد للسيمفونية (سريع، متهادٍ، سريع، سريع) هو الذي فرضَ وضْعَ المارش الجنائزي في صدر العمل على هذا الترتيب.

أما الحركة الثالثة فهي أخفّ حركات العمل، أقرب إلى دعابة موسيقية، تعيد استثمار جوّ العظَمة في ثوب خفيف برّاق تطيّره الريح في رقصة ما، يميزها لون رباعي الكورنو في قسم التريو وهو يصوّر مزاح البطل أو استرخاءه. تأتي الحركة الرابعة لتعيد التوازن بين طرفي السيمفونية في عمق الموضوع، واستثمار الألحان. وكما ذكر سالفًا: استعمل بيتهوفن لحن الحركة الختامية من باليه بروميثيوس ليعيد استعمال سمة بروميثيوس نفسها ربما وليس فقط المادة اللحنية. هذه الحركة بالذات، إلى جوار الحركة الأولى من السيمفونية الخامسة، هي أهم ما يوضح قدرة بيتهوفن على التنويع وتدوير الألحان واستنزافها. اللحن ذاته في منتهى البساطة، يمكن لأي عازف مبتدئ عزفه (وهي سمة أساسية في ألحان بيتهوفن ووجه من أوجه امتناع بنيانه كما قدمنا) لكن المعالجة أسطورية دون مبالغة. هذه الوحدة البسيطة يستعملها المؤلف ليبني بها صرحًا معقدًا متحركًا مرنًا، كعمارة هائلة، مليئة بالتفاصيل والتراكيب، وهي تتحرك كبناء حيّ، وترقص، وتكر، وتفر، وتنتصر في النهاية. ولا تستعمل الحركة أية ألحان أخرى رغم طولها (قرابة اثنتي عشرة دقيقة في أغلب الأداءات).

لقد حاول بيتهوفن بَثَّ فكرة البطولة في قالب سيمفونية، وتجسيدها موسيقيًا، ليصنع موسيقى حلم البطولة ذاته، أو فكرتِها في سيمفونيته الثالثة، هذه الفكرة التي لا تعبر فقط عن نموذج بونابرت أو غيره من أبطال التاريخ، بل التي تصنع لمؤلفها نفسه بطولة موسيقية، ليس فقط بعبقريتها، ولكن أيضًا بموضوعها المحدد، ليتغلب بها على أثر فقد البطولة وكل أثر للفقد في سيرته الشخصية.

٢.٣.٤ البطولة الشخصية (بيتهوفن نفسه)

يعني هذا العنوان أن بيتهوفن في لحظة بعينها صار بطلاً لبيتهوفن. والنقطة البيوجرافية التي وقع فيها ذلك هي بداية إصابته بأعراض الصمم التدريجي في أواخر العشرينات من العمر، وهو الموسيقار الواعد لنفسه، قبل أن يكون واعدًا بالنسبة للجمهور والنقاد والموسيقيين. لقد صار بيتهوفن في منظوره الشخصي أشبه ببطل تراجيدي، تعترضه الأهوال، شأن كل أبطال الملاحم في التراث البشري المتنوع، لكنه يقهرها بإرادة تستعصي على الفهم، إرادة أسطورية إن جاز التعبير، ليكمل التأليف، متفوقًا ليس فقط على أسلافه وأقرانه الموسيقيين، بل كذلك على شخصه الذي كان محتفظًا حتى حينٍ بقدرة السمع.

إذن فإن فقْدَ السمع التدريجي عند بيتهوفن لم يكن فقط فَقْدًا للفردوس المسموع كما سلف في الفقرات الأولى من هذا المقال، بل كذلك اكتسابًا لبطولة من نوع خاص، ينفرد بها بين الموسيقيين. لكل موسيقاركما لكل قدّيس معجزة، ومعجزة بيتهوفن هي الصمم. بيتهوفن ليس الوحيد بين الموسيقيين الذي أصابه الصمم؛ فقد أصاب الصمم التدريجي أو المفاجئ العديد من المؤلفين، أشهرهم سوى بيتهوفن كلٌّ من سميتانا، وشارل فورييه، غير أن الصمم المفاجئ الذي أصاب سميتانا في الخمسين من العمر، أو التدريجي الذي أصاب فورييه في التاسعة والخمسين، قد أصابهما في مرحلة متأخرة تلت مرحلة التبلور والنجاح والشهرة فعلاً، كما لم تكن أعمالهما المتأخرة في قوة وعبقرية السيمفونية التاسعة مثلاً التي ألفها بيتهوفن وهو أصم كليّةً، فلم يصبهما الصمم في مرحلة التكوين، وقد أعاقهما عن الاستمرار بعد النضج، أما بيتهوفن فإن الصمم قد أصابه في مرحلة التكوين، ولم يعقه في مرحلة النضج. سوى هؤلاء يعرف تاريخ الموسيقى عددًا قليلاً من المؤلفين الذين أصابهم الصمم لأسباب مختلفات مثل William Boyce وIgnaz Holzbauer وغيرهما، لكنهم لم يكونوا بشكل عام على مستوى أهمية هؤلاء الثلاثة أعلاه وشهرتهم وتأثيرهم، وهو معنى الانفراد بالبطولة في عالم الصمت، أو بطولة بيتهوفن كبطل لبيتهوفن.

بالتأكيد هي السيمفونية الخامسة (القدر) ذلك ما يعبر عن هذا البطل وهذه البطولة الخاصة جدًا. ويمكن القول أن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن هي الحَقّ مجَسَّدًا أو مسموعًا. إنها التكامل البنائي الذي لا يكاد يجاريه فيه فنان. هي عمل يوحي لسامعه كأنما وُضِعَ في لحظة أو جلسة تأليفٍ واحدة، كضربة مطرقة مفرَدة، شديدة الإيجاز، عظيمة البلاغة، فادحة التأثير. وصل فيها أسلوب بيتهوفن المميز في استثمار الوحدات اللحنية الأولى إلى أقصاه؛ حيث لا تمثل ضربات القدر في الحركة الأولى لحنًا في حد ذاتها، بالمعنى المألوف للحن، هي مجرد ضربات، أو طرقات على باب، أو نبضات قلب راجف، لكنها تتراكب وتتلون وتبدل مواقع وحداتها بالغة البساطة لتصنع بناءً ليس في شُهُوقِ السيمفونية التاسعة، ولكنْ في بلْوَرةٍ نادرةٍ تجمع بين صلابة الماس ونقاء العدَم. الصلابة والشفافية هما ما يلخص بنية السيمفونية الخامسة على وجه الإجمال.

ولما كانت هذه السيمفونية بالذات موحية بالتلقائية أكثر بكثير من الصنعة والتخطيط، فمن غير المناسب منهجيًا نوعًا تحليلها بافتراض ضرورات بنائية وبنيوية معينة أدت في إطارٍ من فرضية العناية المسبقة إلى استعمال هذه أو تلك من الصيغ والتقنيات. ومع ذلك يمكن للمستمع المخضرم والمبتدئ كليهما أن يريا كيف استثمر بيتهوفن هذه الضربات الأربع السريعة في البداية بطول الحركة الأولى، ثم في ظهورها الثاني على (مستوى) ثانٍ من الاستثمار بشكل مختلف برباعي الكورنو ثم بالأوركسترا بعد مطلع الحركة الثالثة، ثم على مستوى ثالث في الفاصل بين الحركتين الثالثة والرابعة على هيئة ضربات الطبل المتسارعة المتلاحمة رويدًا رويدًا، حين يتحول المقام من دو الصغير إلى دو الكبير بالتدريج. إنها خفقات القلب المتسارعة حين يقبل البطل على الانتصار أو حين يفهم حقيقة انتصاره في مزيج من الشك والفرحة الجنونية، ثم يحسم (وتحسم الأوركسترا) الأمر بالانتصار. هو صراع مختلف عن صراع البطل في السيمفونية الثالثة؛ فالثالثة لا تعرض موقف الهزيمة فالنصر، لا تحكي معركة واحدة، بل سلسلة من المعارك بما فيها من هزائم وانتصارات؛ لأنها سيمفونية البطولة نفسها في بنائها الملحمي، أما الخامسة فهي معركة واحدة محددة، تنتهي بانتصار متعيّن يتحقق لمؤلفها فعلاً بعد الانتهاء من تأليفها. الثالثة تصور كفاح البطل عمومًا، والخامسة تصور بطلاً محددًا هو بيتهوفن نفسه. الثالثة تنتهي بالعظَمة، والخامسة تنتهي بالنصر. الثالثة حكاية، والخامسة فِعْل.

ربما أمكن تحليل الخامسة بالأحرى على مستوى الموضوع؛ فهي تعرض التتابع الرباعي الشهير: التجهّم والتهديد والهزيمة التراجيدية المرثية البطولية – التحدي الانتصار، ذلك التتابع الذي استعمله فيما بعد عدد من أهم الموسيقيين، مثل تشايكوفسكي في رابعته، ورحمانينوف في ثانيته، وفرانز لِست في القصيد السيمفوني بعنوان المقدمات، وغيرهم. وهو وجه آخر لتأثير بيتهوفن التأليفي والفلسفي في استكشاف تتابعات شعورية أساسية، ومناطقَ بِكرٍ من الروح.

في النهاية ينتصر بيتهوفن لنفسه على قدره. إن بيتهوفن الواقعي يستعيد بيتهوفن المستحيل عن طريق بيتهوفن الممكن؛ حين يقوم في خامسته بتحقيق تصوره الخاص عن نفسه قبل الصمم، ذلك التصور الذي ظنَّهُ مستحيلاً بعد صممه، عن طريق مُستَطاعه الإبداعي والوجودي. إن الموسيقى التي ألفها بيتهوفن بعد أن أصابه الصمم هي التي كان يبغي وضعها لو لم يصبه. هي وجوده الإنساني المستعاد من قَبْضِ الصمت.


المصادر والمراجع

١. حسين فوزي، بيتهوفن، دار المعارف، القاهرة، ط2، دوت تاريخ.

٢. Bell, Richard H., Wagner’s Parsifal: An Appreciation in the Light of His Theological Journey, Wipf and Stock Publishers.

٣. Braund, David, Gill, Christopher (Ed.), Myth, History and Culture in Republican Rome: Studies in Honour of T.P. Wiseman, University of Exeter Press.

٤. Broyles, Michael, Beethoven: The Emergence and Evolution of Beethoven’s Heroic Style, Excelsior Music Publishing Co., p. 233.

٥. Comini, Alessandra, The Changing Image of Beethoven: A Study in Mythmaking, Sunstone Press.

٦. Di Grazia, Donna M., Nineteenth-Century Choral Music, Routledge.

٧. Donelan, James H., Poetry and the Romantic Musical Aesthetic, Cambridge University Press.

٨. Encyclopædia Britannica Eleventh Edition, 1911.

٩. Freitag-Community-Mitglied YPA, Die Geschichte hinter dem Song: Beethoven’s »Neunte Sinfonie« Der Freitag, Kultur.

١٠. Lockwood, Lewis, Beethoven: The Music and the Life, W. W. Norton & Company, 2005.

١١. Mai, Francois Martin, Diagnosing Genius: The Life and Death of Beethoven, McGill-Queen’s Press.

١٢. Plutarch, Lives of the Noble Grecians and Romans, Translated by John Dryden, Edited by A. H. Clough, The University of Adelaide Library.

١٣. Rosen, Charles, The Classical Style: Haydn, Mozart, Beethoven, New York: Norton, 1997.

١٤. Rumph, Stephen, Beethoven after Napoleon: Political Romanticism in the Late Works, University of California Press.

١٥. Wikipedians (Ed.), The European Union, PediaPress.

١٦. 1Encyclopædia Britannica Eleventh Edition, 1911.

صورة الغلاف لـ وزلي ميريت Wesley Merrit.

المزيـــد علــى معـــازف