هذه النار حاضرة | مقابلة مع فرج سليمان

كتابةرشا حلوة - March 21, 2017

موعدي مع فرج سليمان لإجراء المقابلة صباحا في مقهى فتوش. أنطلق مشيًا من بيتي لغاية المقهى الذي يقع في الحي الألماني، مسافة ١٠ دقائق. أسكن في بناية تقع في شارع هلل، ويُقال إنه كان يحمل اسم شارع الحمير قبل نكبة عام ١٩٤٨. بالعموم، تُضحِك هذه المعلومة كلّ الأصدقاء والصّديقات الذين يسكنون هذا الشّارع، قالت لي صديقة مرة: “شكلهن كانوا عارفين إننا بدنا نسكن هون!”. معظم بيوت حيفا تطلّ على البحر، حتّى وإن بدا البحر في هذه المدينة صعب المنال بعد أن حوّله الاستعمار إلى ميناء تجاريّ، ويحتاج سكّان المدينة إلى ركوب المواصلات أو السّيارات للوصول إلى مساحة يلمسوا فيها الموج، أو يتأملونه عن قرب.

حيفا مدينة جبل أيضًا، حيث تقع على سفح جبل الكرمل، ولهذا فهي مليئة بالأدراج التي تربط الشّوارع ببعضها البعض. من شارع الحمير أنزل أقرب الأدراج إلى بيتي، والذي يؤدي إلى شارع الجبل الذي أطلقوا عليه اسم جادة الصّهيونيّة، لكنه لا يزال شارع الجبل لسكّان المدينة الفلسطينيين، وهو يصل ما بين البلد التحتى ومنطقة مركز الكرمل. عندما أصل بالقرب من حيّ وادي النسناس، وعند تقاطع شارعي الجبل والكرمة، أمشي يسارًا باتجاه الأخير، أصل إلى ميدانٍ يقع عند آخر حدائق البهائيّين، ومنه أمشي يمينًا باتجاه جادة الكرمل، أو ما تُسمى اليوم بجادة بن غوريون، وهي تقع في الحي الألماني، أحد الأحياء التي بناها الألمان حوالي عام ١٨٦٩، والذي تحوّل منذ نهاية تسعينات القرن الماضي إلى حيّ سياحيّ مليء بالمقاهي والمطاعم التي كان أوّلها فتّوش الذي فُتح عام ١٩٩٨، والذي كان له، بشكل أو بآخر، دورٌ مركزي في إحياء المشهد الثّقافيّ العربيّ الفلسطينيّ في المدينة.

حين وصلت المقهى، كان فرج يجلس في الطّابق الثّاني، في الغرفة التي أُطلق عليها اسم فيروز، والتي تضم بروتريه لفيروز رسمته الفنانة إيرينا كركبي ومقاطع من أغانيها كتبها الخطّاط أحمد زعبي.

“بلشتي تسجلي؟”، يسألني. “آه، عم تحكي أشياء مهمة من ساعة ما أجيت!”، أجبته ضاحكة.

بدأ حديثنا عن المدينة، والمرتبط باسم وروح ألبومه الذي أصدره في شباط / فبراير ٢٠١٧، كان يا مدينة. تطرقت بدوري إلى دور المشهد الثّقافيّ في حيفا، وما يقوم به من استعادة لشكل المدينة التي دمرها الاستعمار، مشيرةً إلى أن المدينة هُمشت خلال السنوات الأخيرة من المُنتَج الثّقافيّ، فكان للقرية حضورها الأقوى، كما أن المدينة، بصخبها، تمنح عزلة ما. في بيان الإعلان عن الألبوم يقول فرج: “يجمع الألبوم صورًا وحكايات مركزها المدينة؛ من المدينة التي تُدمّر في الحرب، إلى المدينة التي يمشي فيها شاب وفتاة في أوّل لقاء لهما. الموسيقى في هذا العمل تُجسّد ما تُضفيه المدينة من قسوة واغتراب، وتبحث فيها عن مساحات حميميّة وشخصيّة رغم الصّخب.”

تعليقًا على حديثي، يقول فرج: “اخترت أن أعيش في عزلة بقلب حيفا، بعد قضاء سنوات طويلة فيها، أردت بيتًا معزولًا كي أعمل فيه. ربما جاء هذا القرار كردة فعل على ضجة القرية، وخلافًا عن فكرة الرّيف وهدوئه، القرية فيها ضجة من نوع آخر، ضجة المجتمع الذي يتدخل في حياتك ليلًا ونهارًا، وعليك أن تجيب على أسئلته ومبرراته. هنالك هدوء تمنحي إياه المدينة، وأنا سعيد بهذا الهدوء وهذه العزلة. اختياري لأن أخرج إلى ضجة المدينة، هو اختيار ذاتي، والعودة إلى العزلة كذلك. وهذا لا تمنحه القرية اليوم”.

سنعود لنتحدث عن المدينة لاحقًا. سؤالي الأوّل مرتبط بأرشفة الإنتاجات والمواد الموسيقيّة، حيث ضاع الكثير منها سواء مواد كلاسيكية عربية أو مواد موسيقية فلسطينية من الثمانينات. كيف برأيك كانت لتساهم هذه المواد، لو وُثقت، في تشكيل المشهد الموسيقي العربي والفلسطيني؟

أوّلًا، في مواد منيح إنه ما تسجلت (يضحك). ثانيًا، هذا الإهمال موجود منذ مئات السنين. بدأ الغرب بكتابة النوتة منذ ٨٠٠ سنة. حتى سيد درويش لم أسمع أن هنالك نوتات موسيقية لأعماله، ونتحدث هنا عن فترة قريبة زمنيا. الأزمة هي بأن الموسيقى لم تكن معرفة كباب ثقافي، إنما مساحة للطرب والسلطنة والترفيه، وربما هذا أحد الأسباب التي ساهمت بعدم توثيق الموسيقى. لا أعلم متى تحوّلت الموسيقى لتصبح أمرًا مهمًا على المستوى الثّقافيّ. أعتقد أن الأمر حديث نسبيا. إذا أردنا أن نتكلم عن الفضاء المحلي، بإمكاننا أن نتهم الاحتلال، ونقص الموارد والميزانيات. على الرغم من رأيي بأنه من الجيد أن هنالك موادا موسيقية لم تُسجل، لكني سعيد بإمكانية التسجيل والتوثيق المتوفرة هذه الأيام.

تحمل فكرة مستمرة في الإنتاج الموسيقيّ والتأليف وهي أن تقدّم الجديد وغير المألوف إلى المألوف. على سبيل المثال في تسجيل دخول، وكل فكرة تقديم موسيقى وألحان عربيّة بشكل أخرى، ودعوة للموسيقيّين بالتفكير بالموسيقى بشكل جديد، كالحوار الذي تصنعه ما بين البيانو والآلات الشّرقية، والعود تحديدًا. ماذا يحمل كان يا مدينة من جديد على المستوى الموسيقي؟ ولماذا هذا الهاجس؟

لعدة أسباب، الأول بأن هنالك ما يكفي من الناس التي تعمل على إنتاجات مجترة، هنالك ما يكفي من الناس التي تعيد وتزقل ترمي بنفس الأفكار. ثانيًا، بهذه الطريقة لا يمكن أن أشعر بالملل. كأنه لدي الفضول لأن أجرب كل الوقت بأفكار ومواد جديدة. ربما لو قمت بتسجيل مواد عرض ثلاث خطوات كما هي، بلا تغييرات وإضافات، لم أكن لأتحمس لذلك، سيكون الأمر كأني أقوم بأرشفة المواد كي تكون موجودة. الجديد في كان يا مدينة هو أني بحثت في العلاقة ما بين البيانو الشرقي والدرامز وجيتار البايس، هي تجربتي الخاصّة في التجديد، ربما يحتاج الأمر لأن يكتب أحد مادة نقديّة حول الجديد في الألبوم. بالنسبة لي كتجربة، وليس كنتيجة، بحثت في علاقة جديدة بين هذه الآلات، أن أقّدم مقطعًا شرقيًا على البيانو ومن ثم أنتقل إلى الرّوك، هذه مساحة جديدة بالنسبة لي على مستوى التّجربة. ربما لن يشعر المستمعون بشيء. هنالك تفكير مستمر، بالنسبة لي كملّحن، في كتابة مواد للعازفين، هنالك توجّه غربيّ بهذا الأمر، نحن لسنا فرقة موسيقيّة تجتمع لتُلّحن مواد موسيقية سويةً، أنا أقوم ببناء كل المواد الموسيقية لكل عازف، أعطيه مواد واضحة ودقيقة بلا ارتجال.

ألا تفكر بأن هنالك إضافة جميلة بالارتجال الموسيقيّ لعازف يعمل معك في المشروع؟

هذا الفرق ما بين الموسيقى الكلاسيكية والجاز. في الجاز هنالك عالم متفق عليه، ونحن بالأساس نُبحّر فيه. الكلاسيكية أكثر دقة، وكل نوتة معروفة، ومن يعمل بالكلاسيكية يعمل نقطة أمام نقطة، نقاط عموديّة تمشي أفقيًا، وكل عازف يعرف دوره، هنالك ربط بين المقطوعات. لكن في الجاز هنالك روح أخرى تلائم الجوّ خلال العزف. لكن في الكلاسيكية، كما حالة ألبوم كان يا مدينة، نحاول أن نخلق لغة كاملة فقط الملحن هو الذي يقوم بها، ولا يمكن لأحد أن يضيف نوتة أو يرتجل. مثلما يعمل مخرج على إخراج مسرحيّة، ويأتي مخرج آخر لزيارة قصيرة، يعطي فكرة حول الإخراج، ويذهب. في مثل هذه الحالة، يصبح المخرج الثاني دخيلًا، هذا هو مبدأ الموسيقى الكلاسيكية، لا يمكن لأحد أن يكون دخيلًا. رغم أن هذا يلائم الجاز.

لطالما حملت آلة البيانو حضور الموسيقى الغربيّة، غير الشّرقيّة، هل تُشكّل هذه الآلة تحدٍ مستمر بالنسبة لك، سواءً على مستوى التأليف الموسيقيّ أو على مستوى علاقتها مع الجمهور في هذا المكان من العالم؟

أنا اليوم لا أشعر أنها آلة غربية. خلال فترة دراستي، كنت أشعر بأن بحضورها الرسمي والكلاسيكي، في منتصف البيت، وكأنها دخيلة عليه ولا علاقة لها بديكور المنزل. حين كنت أتوجه إليها، أشعر بطقس خاص، كأنني انتقل إلى منتصف برلين مثلًا. لكن مع الوقت، أصبح البيانو جزءًا من بيتي وحياتي، واليوم لم يعد بمثابة آلة غربية بالنسبة لي، ولا شرقية، لكن إحساسي بأنها غربية كما كانت منذ سنوات، اختفى.

ما الذي تغيّر؟

العزف المتواصل، الوقت الذي أقضيه مع الآلة، أكثر ما جلست بجانبه في العالم هو البيانو. هنالك تجارب عديدة لعازفين بيانو بنوا تجربتهم الخاصة، كسروا الحاجز بينهم وبين الآلة، قالوا للأوربيّين بأنهم درسوا آلاتهم، لكن دعوهم للاستماع إلى ماذا يخرج منها من موسيقى شرقيّة أو غير غربيّة. هنالك تجارب مهمّة موسيقيًّا تسيطر اليوم على مهرجانات أوروبا. الموسيقى الكلاسيكية لا تزال نفسها، إنما في كل تجارب الجاز وموسيقى العالم، نجد عازف بيانو من أذربيجان أو أرمينيا أو الجزائر أو تركيا، يقدّم الجديد إلى هذا العالم، لا بالبيانو فقط، إنما الترومبيت أيضًا، إبراهيم معلوف على سبيل المثال، وكيف وظّف آلة الترومبيت الغربيّة في موسيقى غير غربيّة.

قلت يومًا في حوار أجريته معك قبل حوالي أربع سنوات: “وظيفتي في الموسيقى إحضار الناس لسماع الموسيقى الآلاتيّة”. هل لا زلت تعتقد كذلك اليوم؟ ولماذا؟

نعم، ما زلت أفكر هكذا اليوم. لدي همّ بأن يبدأ الناس باعتبار الموسيقى بابًا ثقافيًا وليس ترفيهيًا فقط، وحسب رأيي، تُسهّل الموسيقى الآلاتية هذا الطريق وتمهده للناس، وليست الأغنية. الأغنية تأخذك إلى أماكن مريحة، من خلال الكلام، بلا تفكير، ولدنيا مرجعيّة كبيرة للأغاني. الموسيقى الآلاتيّة تقول للمستمع تعال لسماع شيء جديد لست معتاداً عليه. وهذا حسب رأيي ممكن أن يقربنا أكثر لاعتبار الموسيقى بابًا ثقافيًا مهمًا. لا زلت أشعر أن هذه هي وظيفتي. هنالك عدد كبير من الأغاني، وأنا أيضًا أقوم بتلحين أغانٍ للمسرح والعروض، لكنني أشعر أن النقص يكمن في الموسيقى الآلاتية؛ إحضار جمهور لمدة ساعة كاملة لسماع موسيقى آلاتية.

المنطقة عمومًا غير معتادة على الموسيقى الآلاتية. تاريخيًا، لم يذهب أحد لسماع محمد عبد الوهاب بعرض لموسيقى آلاتية بلا كلمات. وبالتالي، هو تحدي كبير لك ولغيرك ممن يقدمون، بأغلب إنتاجاتهم، الموسيقى الآلاتية.

الموضوع اختلف نوعًا ما اليوم، خاصة لدى جيل الشباب. في الماضي، كان البلد كلّه ينتظر الاستماع إلى أم كلثوم عند السّاعة السّادسة والنّصف مساءً. اليوم الناس محاطة بالمقطوعات الموسيقيّة، وهنالك شيء شبابيّ بهذا الجانب أكثر، وللشباب استعداد أكبر للاطلاع على عوالم جديدة.

هنالك مجازفة بإصدار ألبوم بإنتاج ذاتي وخاص. على ماذا اعتمدت بهذه المجازفة؟

تياسة، (يضحك). لا أعرف ماذا أقول لك. أقدمت على خطوة أكثر تياسة من هذه، حجزت تذاكر سفر لعازفَين فرنسيين لعرضي القادم، حبّ بلا قصّة، في حيفا. وأنا كحيان (يضحك). لماذا؟ لأني إنسان يريد أن يُنتج موسيقى. في موسيقى لازم تطلع، لا بيت أو عائلة ولا أطفال لدي. حين شعرت بأني أريد أن أُصدر ألبومًا موسيقيا، اتخذت هذه الخطوة. أرسلت طلب منحة لبعض الأماكن، ولم يحالفني الحظ. لكني قلت لنفسي: فش مصاري؟ منجيب مصاري … فحصلت على قرض من البنك.

كنت في حديث مع صديق حول موضوع الإنتاج الثقافي، وقال لي، بما معناه، أن الإنتاج هو شعور ذاتي للفنان / للمبدع، في حال لم يفعل شيئًا، سيشعر بأنه غير موجود. على الرغم من آلاف الإنتاجات، لكن هناك نار يشعر بها الفنان بشكلٍ شخصي إزاء الإنتاج.

صحيح، هذه النار حاضرة، وآمل أن لا تنطفئ. الأشهر الأخيرة شهدت جنونًا من ناحية الإنتاج، خلال شهر واحد قمت بتسجيل ألبوميْن، واحد مع أوركسترا وآخر مع عازفين، وقريبًا لدي عرضٌ جديد ومن ثم سفر. لدي حاجة للإنتاج المستمر، وعشرين فكرة مسجلة لمشاريع سوف أنفذها خلال السنوات القريبة. هذه النار حاضرة كل الوقت، وآمل أن تبقى وتستمر. لربما هذه النار تنبع من فكرة بأني لم أقدم شيئًا على مدار ثمانِ سنوات مليئة بالتخبطات والأسئلة: هل أبدأ أم لا؟ هل عندي مواد موسيقية أم لا؟ بإمكاني أن أقول إني أضعت ثمانِ سنوات، أو أن أقول إن هذه السنوات كانت بمثابة مخزن، واليوم، وبعد ثلاث سنوات، أنتج كما لو أنها ثمان سنوات.

كيف يمكن لموسيقي اليوم، في العصر الحديث والإنترنت، أن ينشر موسيقاه، وبنفس الوقت أن يعيش منها؟

من الصعب أن يعيش موسيقي من موسيقاه، أو أن هناك طريقًا صعبًا وطويلًا. لكن بيع ألبومات ومقطوعات لا مردود مادي منه، خاصة لأن المواد تُنشر سريعًا عبر يوتيوب وساوندكلاود. الموسيقي يعيش من المهرجانات والعروض والسفر، بالإضافة إلى إنتاج موسيقى للمسرح والسّينما.

هنالك مشهد موسيقي جيد في فلسطين، ولأن الظروف صعبة، وبيع الألبومات ليس مصدرًا للرزق، يختار الكثير أن يعيش في أوروبا، لوفرة فرص العمل والعروض وسهولة الحركة. ماذا عنك؟ ماذا تعطيك حيفا وفلسطين؟ ولماذا أنت هنا؟ وهل تفكر بتركها قريبًا؟

قبل عام أو عامين كنت أفكر بأني يجب أن أبقى في البلد وأعمل منه، اليوم لا أفكر بهذا الشّكل. أنا على استعداد للسفر والانتقال لأني تعبت. تعبت من فكرة الوقت الذي يبذله الموسيقي لتقديم مواد موسيقية أو عرض، وبالقوة الناس بتيجي عَ العرض، لم يتبقى إلا أن تذهبي لفتح باب السّيارة ودعوتهم إلى العرض. متعب جدًا. لا يمكن أيضًا مواصلة الطلب من أصدقائك بأن يعملوا مجانًا ضمن مشروع فني ما. بالمقابل، هنالك مهرجان بيانو في ميلانو، ٣٥٠ نشاط موسيقيّ بفضاءات عامة، تم اختياري لفيديو الإعلان عن المهرجان. أسأل نفسي: أنا منيح؟ ولا مش منيح بالبلد؟ وهذا متعب، من جهة ثانيّة، بدكوش تسمعوا، بلاش. كل هذا الشّعور لا يلغي حاجتي الأساسيّة بأن أقدّم أوّل عرض لمشروع جديد في البيت، في حيفا. العرض القادم حجزت تذاكر سفر للعازفين كي يأتوا إلى حيفا، بالمقابل كان يمكنني أن أحجز تذكرة واحدة وأذهب إلى باريس لتقديم العرض وتسجيله وسيسوّق نفسه بنفسه. لكن الانطلاقة يجب أن تكون من حيفا، من البيت، وهذه مبادرتي أنا، لن أنتظر أن تأتي المدينة وتدعوني إلى مهرجانات وعروض وما إلى ذلك.

هي علاقة حبّ من طرف واحد مع المدينة؟ أنا أحبّها ولا أنتظر منها شيئًا؟

هنالك إنتاجات موسيقيّة عديدة، لكن لا تشبه أحدها الآخر، لا تشبه موادي ما يقدّمه الآخرين. أقدّم عرضًا واحدًا في السّنة، ويُعلَن أن ما من عرض آخر في البلد، ومع ذلك أشعر بأن هنالك فعل ترجي الناس للحضور، وبالمقابل تشعرين بهذا الاهتمام الحقيقي من الخارج.

ممكن أن يكون هذا الأمر مرتبط بالظروف الماديّة للمؤسّسات والمهرجانات؟ مثل ظروف البلد عمومًا…

عروضي ليست باهظة الثمن فعلًا مقارنة مع عروض أخرى في هذا البلد. لم يسألني أحد عن تكلفة عروضي. لو سألوني، وقالوا إن التكلفة عاليّة، سأعرض مجانًا. مرة قدّمت عرضًا في قرية عرابة، كان عرض تسجيل دخول، وكنت سعيدًا بأن أقدّم عرض سولو بيانو في عرابة. وعلى الرّغم من عدد الجمهور القليل، لكن حين كنت أنظر إلى وجهوهم كانت تشع فرحًا، شعروا بشيء مختلف، لا أقول بأنهم أحبّوا كل شيء، لكن كان الجو مفرحًا.

لربما هناك من يعتقد، من القائمين على المهرجانات، بأن الجمهور لن يحّب ما تقدّمه وأنه “ما ببيع”؟

صح، هذا موجود. ما بعرف إذا أنا ببيع قد ما حدا ثاني ببيع، لكن الفكرة أنّ ما يقدّم من عروض موسيقيّة وأغانٍ بكافة أنواعها توضع في نفس الخانة، ومن غير المنصف أن يقوم شكلٌ من أشكال المبارزة بين عرض جديد لموسيقى آلاتيّة مثلًا مع عرض موسيقيّ لأغانٍ من سنوات الخمسين. كل عرض موسيقي أو غنائي هو عالم خاص لوحده. الناس بالضرورة تحبّ المألوف، وهذا شرعي، لكن المألوف والجديد من الموسيقى ليسا في نفس الخندق.

ما هو أكثر ما يعطيك إيحاءً لكتابة الموسيقى. وهل للمكان والناس هنا صلة أساسية بذلك؟

أجلس على البيانو وأبدأ بالعزف. هنالك قرارات تأتي لكتابة الموسيقى، هنالك شيء عقلاني وخيارات فنية. بالتأكيد تحتوي على جملٍ موسيقيّة بإيحاء من تجربة ما، لكني لا يمكن أن أشير إليها في هذه اللحظات. هنالك تراكمات تجارب، أعرف أحيانًا من أين جاءت مقطوعة ما، وأحيانًا أخرى لا أعرف. وغالبًا الإيحاء يأتي من البيانو، نوعه وصوته. حين ذهبت لتسجيل تسجيل دخول، وصلت إلى الستوديو مع ثمانِ مقطوعات وخرجت مع عشرة، وهذا بسبب البيانو الذي عزفت عليه. هنالك بيانو دافئ وآخر جاف لا يمنحني أي شيء. العلاقة ليس بأساسها مع المكان أو التجربة، إنما بالحوار مع الآلة نفسها، بغض النظر عن جودتها. كان لدي بيانو أوكراني، وأنا نادم جدًا لأني قمت ببيعه. كان بمثابة آلة أسألها وتجيبني. الإيحاء بكثير من الأحيان يأتي من البيانو، هو شريك.

العودة إلى المدينة.

في نهاية حوارنا عدنا للحديث عن حيفا، وعن المشهد الثقافي في فلسطين. “فلسطين هي العالم العربي اليوم، يقول فرج، بالماضي، وأيام الرّحابنة وعبد الوهاب، كان هاجس الموسيقيين الوصول إلى العالم العربي وتقديم أعمالهم الفنّيّة أو الموسيقية هناك، اليوم لدينا في فلسطين موسيقيين وكتاب لا يقلوا مستوىً عن العالم العربي، لم يعد هنالك شعور بالدونيّة من العالم العربي وإنتاجه الفني. سأقارن حيفا ببيروت، قبل عشرين عامًا لم يكن لدينا موسيقيين بمستوى بيروت، اليوم بيروت ليست أفضل من حيفا، وعمان ليست أفضل من حيفا. كذلك على مستوى الأدب، مستوى الأدب في حيفا لا يقل عن أي عاصمة عربيّة. وهذا يدلّ على الحركة الثّقافيّة التي تشهدها حيفا المدينة اليوم؛ الأبواب مفتوحة، العوائق مشتركة في بيروت وحيفا والقاهرة، بنفس الوقت، إنتاجنا الثّقافيّ لا يقل مستوى أن أي مدينة عربيّة“.