المغرب المنسيّ

مقابلة مع مهدي نابطي | عن تقاطعات العيساوة والجاز

معازف ۲۰/۰۹/۲۰۱۷

مهدي نابطي (باريس، ١٩٧٨) عازف ساكسوفون وباحث في أنثروبولوجيا الموسيقى. يتحدث في هذا الحوار لمعازف عن مساره الموسيقي والأكاديمي وعن علاقته ببعض الأنماط الموسيقية التي يتطرق لها ملف المغرب. من موسيقى عيساوة إلى الجاز، يناقش المتحاوران على ضوء التقارب والالتقاء بين نمطين موسيقيين يشتركان في عمقهما الإفريقي والأطلسي، إشكالية المزج ومنزلقات التهجين وتحديات التجديد.

كرّستَ سنوات من طفولتك لتعلم الموسيقى الكلاسيكية، وانتقلت خلال مرحلة دراستك الجامعية للبحث في الأنثروبولوجيا إلى جانب ممارسات فنية، موسيقية بالأساس، متنوعة وغنية. حدثنا أكثر عن هذه التجارب.

ولدت في باريس وعشت بينها وبين الضاحية، ثم انتقلت للعيش في مونتريال منذ العام ٢٠٠٩. تنحدر عائلتي من منطقة القبائل، وتحديدًا مدينة بجاية بالجزائر. في فرنسا، تلقيت تعليمًا أكاديميًا، ودرست القيثار الكلاسيكي في المعهد الموسيقي منذ كان عمري ست سنوات، ثم الساكسفون الكلاسيكي والجاز بدءًا من عمر ١٥ سنة. لي أن أشكر والديّ على هذه التربية “البورجوازية” على الرغم من انتمائنا إلى الطبقة العاملة. تابعت بعد ذلك، في جامعة باريس ٨، إجازة في التواصل المعلوماتي ثم ديبلوم الدراسات المعمقة في علم الاجتماع. من هنا بدأت علاقتي بموسيقى الطرق الصوفية، خاصة بعدما التحقت بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية وناقشت به دكتوراه حول موسيقى الحضرة الصوفية عند عيساوة. لم أتوقف أثناء المرحلة الجامعية عن تطوير معارفي الموسيقية، فقد تابعت دروسًا مع عازفي الجاز فرانسوا جونو (تقنيات الارتجال) وماكس هدغر (هارمونيا الجاز)، وقمت بعد ذلك بتعميق معارفي على يد فيليب سلاّم وستيف كولمان وآندي إملير وموسيقيين آخرين أكثر تكتمًا يشجعون الإبداع والاكتفاء المعرفي.

أين تضع اليوم ممارستك الموسيقية والبحثية بعد هذا المسار المتقلب؟

مهدي نابطي: لقد نضجت ممارستي الفنية مع مضي السنوات وتقدم العمر وتجارب الحياة. خلال تسعينيات القرن الماضي، عزفت كثيرًا في حفلات موسيقية مختلفة بفرنسا: فانك وجاز وإلكترو وهاوس وأوركسترا إيقاعية وفلكلور إفريقي وموسيقى ارتجالية. بين عامي ٢٠٠٤ ٢٠٠٨، أنشأت وأشرفت على أوركسترا فرنسية مغربية للجاز العالمي جمعت موسيقيين من الجاز وموسيقيين من عيساوة فاس بالمغرب، وسميتها عيساوانية. مع هذه المجموعة، أعطيت ورشات وسجّلت حلقات مبتكَرة في كل من المغرب وإسبانيا وباريس. كما شاركنا في مهرجانات مختلفة من أوروبا إلى إفريقيا وكندا.

منذ سبع سنوات الآن، دخلت مرحلة تأليف غزيرة، أوثق عملي وأسّجل باستمرار ألبومات أبيعها مباشرة لجمهور المنصات الرقمية. هذه أولويّتي الراهنة. ما أحاول القيام به هو تهييء موسيقى مرتجلة ومعاصرة يمكن أن تنخرط في سياق ما أسمّيه بـ”الاستمرارية الآفرو-أمازيغية”. يتعلق الأمر بتأليف وارتجال انطلاقًا من تقنيات مستخلصة من التقاليد القديمة والقروسطية، الأمازيغية والجنوب صحراوية. يمكن تركيز هذه العملية في النقاط التالية: إيقاعات وتوليفات وأشكال وبنيات مستقاة من إيقاعات موسيقى الحضرة الصوفية في المغرب الكبير (عيساوة وحمادشة)، وصيغ لحنيّة آفرو-أمازيغية وأندلسية، وتقنيات غير موسيقية آفرو-متوسطية مطبقة على الموسيقى: التنجيم والهندسة؛ بالإضافة إلى استحضار موسيقي للتاريخ المنسي والمجهول لشمال إفريقيا وجنوب الصحراء، والنابع من أساطير أمازيغية قديمة ومن رموز تاريخية ومآثر عمرانية وفضاءات جغرافية مختلفة ومتنوعة.

إني أقوم عمليًا بإدغام أفكار قادمة من مجالات مختلفة في تلك “الاستمرارية الآفرو-أمازيغية”، خاصة من الفلسفة والتناظر الرياضي وعلم النقائش، ولكن أيضًا من الفانتازيا البطولية والخيال العلمي، وبالتحديد التاريخ البديل وأفكار مقتبسة مباشرة من إسحاق آسيموف. أشتغل بالتوازي مع ذلك على تأليف كتب ومقالات حول الموسيقى في شمال إفريقيا، فقد صدر لي مؤخرًا عن دار لارماتان[Mtooltip description=” L’Harmattan” /] كتاب تحت عنوان “التواجد العربي والأمازيغي والشمال إفريقي في كندا. ٥٥ عاماً من الموسيقات الجمعيّة (١٩٦٢-٢٠١٧).

أصدرت بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٦ مجموعة ألبومات، تقترح في كل منها إنتاجًا هجينًا، أي عملًا موسيقيًا معاصرًا متأثرًا بالموسيقى الصوفية في المغرب الكبير خصوصًا، وهي الموسيقى التي بحثت فيها وخصّصت لها أطروحة دكتوراه منشورة تحت عنوان “عيساوة. التصوف والموسيقى وطقوس الحضرة في المغرب”. أين تتبدى بالتحديد تجليات تأثر تلك الموسيقى على ما تكتبه أو تعزفه ارتجالًا؟

في الأصل، كان دافع عزف موسيقى معاصرة بالنسبة لي بديلًا عن الهيمنة الثقافية الأمريكية الشمالية ومهربًا من تلك الجمالية القادمة من الشرق، الشهوانية تارة والبكائية تارة أخرى، منذ الستينات وحتى اليوم، وأقصد هنا بالذات الأغاني العاطفية والرومانسية. مختلف هذه التيارات الشعبية السالفة الذكر أخفت التعددية في التعبيرات الموسيقية للمغرب الكبير والقائمة على إيقاعية شديدة وتنوع وتهجين. لقد فوجئت كثيرًا وأنا أدوّن وأسجّل الموسيقات الفلكلورية ضمن أبحاثي في المغرب، فقد وقفت على تقنيات موسيقية يمكننا تسميتها بالطليعية حقًا، جديرة بمؤلفين حديثين أمثال بارتوك أو مسيان، فهي الأخرى تستخدم التناظر الرياضي وقياسات غير منتظمة والقلب المستوي[Mtooltip description=” palindrome” /] والإيقاعات التكميلية والإيقاعات المتعددة والانشقاقات وتنويعات في الحجم الصوتي وتسريعات وتبطيئات وتقاطعات في السرعة وتداخلات في الحركات والألوان، وكولاجات وسلسلة لامتناهية من الأسئلة والأجوبة. تصير كل هذه المعطيات أكثر إثارة للاهتمام عندما نعرف بأن الأمر يتعلق بأنواع موسيقية جمعية مرتجلة على نطاق واسع، تلعب في الزمن الفعلي، بشكل جماعي ودون أي كتابة موسيقية. وعبر لعب هذا النوع من الموسيقى في سياقها الثقافي الخاص، تأخذ مفاهيم التركيز والتواصل وجودة الأداء والترابط بين الموسيقيين معنى وأهمية. يمكننا القول بإيجاز إن المفردات الموسيقية هي أكثر شعبية في عدد من مناطق العالم لكنها اندثرت تمامًا من الموسيقى التجارية الحالية. يبقى هذا الموروث الحي غائبًا حتى اليوم عن كل المناهج التعليمية الرسمية لكنه يبلغ بعض المقبلين عليه بجدية. لذلك يجب الدخول في تجربة تلقين تقليدية، عبر الذهاب إلى عين المكان للقاء الناس والنقاش والمشاركة وتمضية الوقت برفقتهم في اليوم، بهذا يتحقق ما أسعى إليه، أي الامتلاك الإبداعي لتلك التقاليد القديمة التي صارت مجهولة بفعل تغوّل القيم الثقافية الأمريكية من جهة، وصعود القومية العربية التي أعطت الأفضلية لأنواع موسيقية مشرقية على حساب التراث المحلي في المغرب الكبير.

نلاحظ في السنوات الأخيرة محاولات كثيرة في مزج الأشكال الموسيقية والدمج التجاري، التي تطرح نفسها باعتبارها حركة تحديث وعصرنة، لكنها غالبيتها تسقط في الاستسهال. ما رأيك بخصوص هذه الظاهرة الموسيقية؟

في البدء، يجب التنويه إلى أننا، نحن الجمهور، من الفنانين والصحافيين والسياسيين والناشرين، تقع على عاتقنا مسؤولية بخصوص وضعية الفن والثقافة التي صارت مرادفة للتجارة والصناعة، فكثيرون يتبنون موقف السوق مقترحين تخيلات لما يُفترض أن الجمهور يريده، ويتبرؤون منها في ذات الوقت. إن السلطة المُستلِبة والقسرية للسوق تقسم ظهر الإبداع وتحطّ من الفرد والفنان إلى حالات استهلاكية وانتاجية سلبية. من الضروري التذكير أن الفن والصناعة هما شيئان مختلفان، بل متناقضان تمامًا.

أعتقد أن هذا “الاستسهال”، الذي طُرح التساؤل بشأنه، مرتبط بظاهرة الهوس بالقديم التي تمس شتى جوانب القطاع الثقافي العالمي منذ بداية الألفية الثالثة، بالاعتماد المتكرر على مرجعيات وجماليات موسيقية قادمة من الماضي أمر يفطن له بسرعة أي مستمع عادي، ويفطن له أكثر المتيم بالموسيقى. إنّ دينامية الإبداع التجريبي غائبة عمومًا في المناهج الموسيقية لدى عدد من الموسيقيين المنتسبين لما يعرف بـ المزج والدمج. وما يزال التأثير العام لأنواع النسخ واللصق هذه دون أي معنى ببساطة شديدة، ما دامت حمولتها الرمزية والتقنية والجمالية فقيرة وفي تراجع ملحوظ. حتى إن كان هؤلاء الموسيقيون يتمتعون في حالات كثيرة بمَلكة تقنية رائعة، فإن هذه المقاربة تضجرني. هذا ما يجعلني أتساءل دائمًا: ما الذي يجعل فنانًا يبحث عن الانتماء إلى محيط استسهالي تتوفر فيه الموسيقى داخل البيت من خلال بضع نقرات.

زيادة على ذلك، يمثل ميول هؤلاء الموسيقيين نحو مواكبة اكتشافات وفتوحات المشاهير في محيطهم المحدد بالنسبة لي نوعًا من العجز عن إيجاد الذات عبر تطوير منهجية تعيد الاعتبار للخاصية الفردية في التأليف الموسيقي.

توجد إذن مماثلة وتجانس في المقاربة المتشارَكة بين عدد من موسيقيي زمننا الراهن، ما يجعل مسألة تصنيفها صعبة للغاية. قد يكون هؤلاء العازفون مهنيين للغاية، لكنهم لسوء الحظ متشابهون حد التطابق. أنصت لموسيقيين نموذجيين بإبهار، لكن غالبيتهم في رأيي تفتقد للمقاربة التأويلية والمفهومية ولمنطق عام في صياغة العبارة الموسيقية أحيانًا. لا أقول أنهم ليسوا موسيقيين جيدين، بل أشير إلى انعدام الاختلاف في أعمالهم. ولو أنهم حفروا زيادة في الأرشيفات الموسيقية الأكثر إهمالًا، في التقنيات المستعملة في الموروث الشفهي والنقوش القديمة والمخطوطات مثلاً، لوجدوا ذخيرة غير مستعملة من الأدوات الضرورية لتحقيق الانفصال عن السائد. لا أطرح شيئًا جذريًا للغاية، بل فقط تقنية أراها ناجعة على المستوى الشخصي ومقاربة مفاهيمية بإمكانها المساهمة في تطوير الأفكار والجمل الموسيقية؛ إنه مجرد نداء صوت فردي ومحاذاة ذاتية لتلك الموضوعات.

هل يمكننا الحديث عن نوع من العلاقة بين موسيقى عيساوة والجاز، خاصة في مسألة الارتجال، على النحو الذي ينحوه بعض المؤرخين والإثنوموسيقيين لمقاربة موسيقى كناوة بالبلوز مثلاً؟

يستهدف الجاز، وهو موسيقى جمعية وفردية في آن، تصورًا للانشراح الذاتي اعتمادًا على التعاون وعلى نوع من الصرامة التقنية وعلى فردانية إيجابية. تاريخيًا، كان تعليم الجاز يتم من خلال التراث الشفهي، أي عبر التقليد والسماع والملاحظة. وأؤكد مجددًا على أن الجاز، على اعتبار كونه في الأصل تراثًا شفهيًا لطبقات اجتماعية مسحوقة ومهمشة للمجتمع الأمريكي، قد كان ما يمكن وصفه بموسيقى الـ برانيين[Mtooltip description=” blédards” /]. من كل ذلك، تتشارك موسيقى الجاز بعض خاصياتها مع الموسيقى الآتية من التراث الشفهي في إفريقيا، في المغرب الكبير وغيره، أي الرفقة الأخوية والربرتوار الجمعي والارتجال والسعي نحو الحضرة وتجاوز الجسد. للأسف، فقد خسر الجاز المعاصر الكثير من تلك العناصر ليصير موسيقى كلاسيكية جديدة، بورجوازية وبلا طعم. لهذا السبب بحثت عن التقرب من الأنماط الموسيقية التقليدية في المغرب الكبير.

بخصوص مسألة الارتجال في الجاز وعند عيساوة، يمكننا أن نجد بعض القواسم المشتركة. القاسم المشترك الأول هو ارتجال الآلات الإيقاعية، ما يسمى لدى عيساوة بـ الزواق على إيقاع “أم” يسمى حاشية. والقاسم المشترك الثاني هو الارتجال في اللّحن والمتحقق أثناء إنشاد الموال (ارتجال غير مقاس معياريًا). بدورهم، يقوم عازفو الغيطة بارتجال أغنيات آلاتيّة على إيقاع سحر العزف (in the groove) بين لحنين منتظمين. تسمى هذه العملية بـ السيمارة، وإذا عزف الغيّاط وحيدًا دون أي مرافقة، يسمى ذلك رمضان. في جميع الحالات، يتعلق الأمر بارتجال محكم الانتظام داخل جمالية مقترحة، وقد يتقارب ذلك مع الجاز الأصلي مثل الديكسلاند أو السوينغ، لكنه غير مرتبط قطعًا بالجاز الحر.

كيف لنا أن نتحدث إذن عن عالمية هذه الموسيقى المطبوعة بقوة بتقنيات الارتجال مع صعود ساحق لموسيقى تعتمد التقانة، في كل تجلياتها التكنولوجية والآلاتية، لفرض وجودها؟

إن الكونية تتحقق بالارتجال والعزف الجماعي، وذلك ما يبينه استمرار الموسيقات التقليدية حتى الآن في ممارستها وعرضها. إنها المميزات الأساسية التي تسمح للموسيقى بالتجدد. على المستوى الفلسفي، ينبع الطابع العالمي لهذه الموسيقى من جانبها الإبداعي، المتطور والمتأقلم، فهي موسيقى حية بامتياز لا يمكن تبخيسها إلى موسيقى للحنين أو جعلها محصولًا نكوصيًا[Mtooltip description=” rétro-vintage” /] لموضة مؤذية للإبداع تحصر الموسيقى في متحف مُتخيّل. إنّ الإبداع يأتي من الداخل، وهو بذلك لا يخضع لقوانين أخرى غير تلك النابعة من رغباته وأحاسيسه الأكثر حميمية. فأن تكون مبدعًا لا يعني عزف أشياء لأنها موضة العصر، أو لأن هناك من يملي خطط النجاح وجني المال، وإنما بتقوية الثقة في النفس والحفر في التجربة الذاتية. هذا يعني أيضاً عدم التقوقع داخل أسلوب أو نمط موسيقي مدى الحياة. لهذه الأسباب لا أعتقد أن هنالك أنواعًا موسيقية أكثر إبداعية من الأخرى، فيمكن للموروث والموسيقى التقليدية بدورها أن تكون مبدعة. يتبقى دور الموسيقيين المطالبين بتملك الوسائل الضرورية للتعبير عمّا يسكن دواخلهم، فأن تكون ما أنت عليه هو تحد تزداد صعوبته أكثر فأكثر داخل مجتمعاتنا النمطية التي تدفع المتلقي بشكل ماكر إلى تناسب خاضع مع أذواق الآخرين وإلى استلاب بقانون الأكثر مشاهدة، وذلك ببساطة للظفر بحظ البقاء على قيد الحياة.

زيادة على ذلك، كل الأنواع الموسيقية لها صعوباتها التقنية الخاصة واللازمة لتأديتها، والجمهور ليس مطالبًا بمعرفتها، فليس لذلك أهمية بالغة. إنّ على الموسيقيين بكل بساطة أن يمتلكوا الأدوات التي تسمح لهم بإخراج ما بدواخلهم. فعمل الفنان يقتضي إقناعه لا غوايته.

سؤال أخير، قد يكون بمثابة قفلة مفتوحة لحوارنا. هل تتصور إمكانية الوصول إلى شكل من أشكال المساكنة أو المصالحة بين الموسيقات المسماة تقليدية والتقنيات الحديثة؟

لا وجود للموسيقى بمعزل عن الناس الذين يصنعونها. لذلك يستلزم الحديث عن تلك المساكنة بين الأنواع الموسيقية التطرق لها من زاوية الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والتلقين المتواتر بين الأجيال، فالموسيقى دائمة الارتباط بخصوصياتنا كبشر وباختياراتنا الفلسفية والجمالية والسياسية. أمّا الإجابة عن هذا الاستفسار فتبدو لي ثقافية في عمومها. على الفنانين الذين يمكنهم التعاون بتلقائية، سواء كانوا موسيقيين “تقليديين” أو “عصريين”، أن يكونوا مجايلين لبعضهم ومن نفس البيئة التعليمية، وأن يشتركوا في الأفكار المتعلقة بحال المجتمع والموسيقى داخله، وأن تكون لهم خاصة مراجع ثقافية متقاربة ومتجذرة في تجاربهم، أي أن عليهم الاشتراك في رؤيتهم للعالم. ليس مهمًا حينئذ أن تكون الجمالية الموسيقية مختلفة، ما دام الهدف هو إبداع موسيقى تعكس بأمانة أذواقهم ورغباتهم وأشجانهم وتقاليديهم وتاريخهم الجمعي. على هذا النحو يتحقق اللقاء في الموسيقى ونكون قادرين على سماع التعبير الفردي للموسيقيين وكذلك تعبير كل المحيط الثقافي الذي يغديهم ويؤثر فيهم ويزدهرون داخله.

إنّ كل موسيقى هي نتاج محيط وفضاء ثقافي ممنوح في لحظة معينة من التاريخ. من جهة أخرى، هناك فنانون لهم خلفية ثقافية مزدوجة أو أكثر، ما يسمح لهم بالتعاون مع فنانين من مختلف مناطق العالم، لأنهم يتوفرون على تأثيرات ومراجع مشتركة مع أنهم ليسوا من نفس الوسط الثقافي أو من نفس الجيل. كل هذه الثقافة المشتركة تسمح لهم بإبداع موسيقى مبتكرة وبتشكيل بنية علائقية بين لغاتهم بغية إيجاد أقاليم مشتركة يمكن للتبادل أن يتحقق فيها. هناك عدد كبير من الموسيقيين في كل مكان من الذين يقدمون موسيقى تقف عند تقاطع هذه العوالم والأحقاب والتفاعلات، لكن معظم وسائل الإعلام وأيضًا المهرجانات أصبحت أماكن خضوع للمظاهر التجارية والأغنية الشعبية المبتذلة والعروض الماضوية. بيد أن الهوامش، على الهوامش تمامًا، بهدوء وثبات ينبثق صوت اليوم والغد.

المزيـــد علــى معـــازف