عربي جديد

من الحلميّة إلى زيزينيا

صالح ذباح ۲۲/۰٤/۲۰۱۳

تأملات موسيقية في الدراما التلفزيونية المصرية: شارات البداية والنهاية، موسيقى تصويرية وأغانٍ

شارات (تترات) المقدمة والنهاية: صنف موسيقيّ خاص

شكّلت شارات البداية والنهاية للعديد من المسلسلات المصريّة جزءًا من الوجدان الموسيقي للمتلقّي العربي. النموذج الأمثل هو شارة مسلسلليالي الحلميةلملحنه ميشيل المصري، والذي عرض جزؤه الأول عام 1987. قد تكون شارة المسلسل الأكثر رسوخاً ونجاحاً حتى يومنا هذا؛ فقد شكّل المسلسل بحد ذاته حالة استثنائية لمسلسل مصري ذي خمسة أجزاء، الأمر الذي لم يكن وارداً إلا في المسلسلات الأميركيّة في تلك الحقبة

يرجع السبب إلى الغنى الفكري والسردي لمؤلفه أسامة أنور عكاشة، الذي أغنى الدراما التلفزيونية المصريّة، وقام في هذا العمل برصد التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة للمجتمع المصري منذ أربعينيّات القرن الماضي إلى أوقاتنا هذه. مشكّلاً أحد أهم العمدان في تأسيس التصوّر الدرامي التلفزيوني العربي لحوالي عقدين من الزمن. على نسق هذه الشارة، ألّفت العديد من الشارات: “المال والبنون” (1993)،أرابيسك” (1995)،من الذي لا يحب فاطمة” (1993) وغيرها

في نظرة مترويّة قليلاً، تمكن ملاحظة نشوء صنف موسيقيّ– Genre يعتمد على روح مشتركة، وتقوم بالأساس على أهم شعراء العاميّة المصريين، وعلى رأسهم سيّد حجاب وأحمد فؤاد نجم. لذلك، خرجت هذه الأغاني مثقلة بالشجن، عاكسة الحالة المصريّة متمّثلة بمؤلفيها من الجيل الذي نشأ على أحلام ثورة يوليو والمشروع الناصري العروبي، والذي تهشّم على صخرة النكسة. وكأن هؤلاء الصنّاع لا زالوا عالقين في صدمة النكسة ولم يتخطوها، رغم العبور في أكتوبر. فمصر الثمانينيّات هي مصركامب ديفيدواغتيال السادات، لذا كان للمؤلفين حنين جارف لمصر التي عرفوها في ظل غياب لتصوّر مستقبلي محسوس ومشروع وطني ماثل للعيان في عهد مبارك.

في هذا السياق، تبدو الأعمال المرحليّة الهامة، مثلليالي الحلميّة، وكأنّها محاسبة ذاتيّة وطنيّة تبدأ من مصر الملكيّة إلى مصر التسعينيّاتالتي اتسعت فيها الهوّة الاجتماعيّة، واستمر فيها تآكل الطبقة الوسطى فيها. لم يخفَ هذا الهاجس في الأعمال الدراميّة الهامّة في الثمانينيّات والتسعينيّات لدى المؤلفين في البحث عن نماذج شهمة: سواءً من خلال ما نعرفه بـالجدعنة المصريّة“- والشخصيّة الأكثر حضوراً هيزينهم السماحيفيليالي الحلمية“. أو تناول الأبطال الوطنيين أمثال: جمعة الشوان، الذي مثّل شخصيته عادل إمام، فيدموع في عيون وقحة، أو رأفت الهجّان، لمحمود عبد العزيز، الذي سرد رواية الانتصار مجدداً رغم واقع التطبيع ومعاهدة السلام

وفي خط موازٍ وهام، تناولت الأعمال الدراميّة الاجتماعيّة المعاصرة مشاكل وأزمات المجتمع المصري الراهنة، كقلّة فرص العمل، وبحث الشباب المصري عن العمل في الخارج، مثل: “من الذي لا يحب فاطمةلأنيس منصور، وتناول بعضها ظاهرة صعود التيّارات الدينيّة المتشدّدة، مثل: “العائلةلوحيد حامد.

تعاطت شارات المسلسلات التي ذكرناها معانٍ اجتماعيّةإنسانيّة، وابتعدت عن الرسائل السياسيّة المباشرة، إلا رسائل عشق  الوطن التي غذّتها قصائد أحمد فؤاد نجم بعشقه للاسكندريّة في شارتي مسلسليزيزينيا، غناء محمّد الحلو، وريّا وسكينة، غناء خالد عجاج، والتي استطاع عمّار الشريعي أن يصيغها لحنيّاً بدفء وشعبيّة راقية يوازيان ثقل قصائد نجم

الأصوات المحبوسة في الشارات

خلقت الشارات نجوماً، ذكوراً في الغالب، تميّزوا بأدائها. إلا أن بعضهم بقي محبوساً فيها، ولم يستطع تقديم ما يرقى إلى مستوى نجاحها. ومنهم:

محمد الحلو: “زيزنياوليالي الحلمية“. وعلي الحجار: “المال والبنون، مسألة مبدأ،الليل وآخره،بوابة الحلواني“. ومحمّد ثروت: “من الذي لا يحب فاطمة“. ومدحت صالح: “الحقيقة والسراب“.

في الجانب الآخر، كان للأصوات النسائيّة نصيب أقل في غناء الشارات، على الرغم من امتلاء الساحة الغنائيّة المصريّة بالعديد من المطربات العربيّاتالمتمصرّاتوالناجحات تجاريّاً وشعبيّاً. إلا أن الأصوات المصريّة كانت كما رآها صنّاع الأعمال الدراميّة: الأنسب على توصيل الرسالة الاجتماعيّة للمصريين في هذه الشارات

ومن أهم الشارات التي قامت بغنائها مطربات:

أنغام: “العائلة“. وحنان ماضي: “المال والبنون، وتتر النهاية بمشاركة علي الحجار. وهدى عمّار: “هوانم غاردن سيتي“.

شارةليالي الحلميّة

شارةزيزنيا

شارةريّا وسكينة

الموسيقى التصويريّة: أكورديون، بيانو وربابة

من أهم الأسماء في صناعة الشارات عمّار الشريعي. معتمداً على تلحين شارات البداية والنهاية من القصائد العاميّة، ومساهماً في صناعة عدد من أهم الأعمال الدرامية المصريّة. تاركاً فيها بصمة تميّزه عن دونه، وخالقاًذاكرة صناعيّة“(1) للمشاهد. هذه الذاكرة التي تتجلّى في مسلسلات مثل: “رأفت الهجّان، فمن لا يشعر بأنه في مهمة جاسوسيّة عندما يسمع النغمات الأولى من الموسيقى التصويريّة للمسلسل؟ ومن لا يتخيّل الاسكندريّة الكوزموبولوتيّة عندما يستمع إلى أكورديون الشريعي فيزيزنيا؟ ويتخيّل فترة بأكملها على وقع موسيقاه التي خلق منها صِيَغًا مختلفة في المسلسلات تلائم الأحداث والمتغيّرات الدراميّة. إضافة إلى الموسيقى التصويريّة للمسلسلات: “أرابيسك،دموع في عيون وقحة،نصف ربيع الآخر،الراية البيضا،ريّا وسكينة،أم كلثوم،بنات أفكاري،الشهد والدموع،  “حديث الصباح والمساءوغيرها.

كما وترك الموسيقي عمر خيرت في التلفزيون بصمته الخاصة غير القابلة للتقليد. متميّزاً بالمزج بين شرقيّة اللحن وأوركستراليّة التوزيع الموسيقي، مبقياً على البيانو كآلة موسيقيّة مهيمنة. وأهم ما ألف تليفزيونيّاً بالتأكيد موسيقى مسلسلضمير أبلة حكمت” (1989)، والتي غدت من أهم مقطوعاته الموسيقيّة على الإطلاق. إضافة إلى موسيقى مسلسلات: “مسألة مبدأ،وجه القمر،الثعلب،الجماعة،فرقة ناجي عطا الله، وغيرها.

شكّلت مؤلّفات ياسر عبد الرحمن علامة فارقة أيضاً. ابتداءً من موسيقى مسلسلالمال والبنون، ليرسّخ إنتاج الجيل الثاني بعد الشريعي وعمر خيرت. أما ميزة عبد الرحمن الفنيّة، فتتمثّل في الاعتماد على الآلات الوتريّة: الكمان والربابة الصعيديّة، في: “الضوء الشاردوالليل وآخره“. بذلك، أخذ عبد الرحمن الكمان إلى أقصى بقاعه الشرقيّة. ومن أهم أعماله: الموسيقى التصويريّة لمسلسلات مثل: “الرجل الآخر،الحقيقة والسراب،أين قلبي،فارس بلا جواد،الضوء الشاردوغيرها

شارة بدايةرأفت الهجان

شارة بدايةضمير أبله حكمت

شارة بدايةالمال والبنون

شارة نهايةالمال والبنون

مسلسلات غنائيّة: تجارب ملفتة

لا شك أن للإرث السينمائي الغنائي أثر كبير في طرح الأغاني في الأعمال التليفزيونيّة. لا أتكلم هنا عن ظاهرة الفوازير التي بدأت في أواخر السبعينيّاتواستمرت بصيغتها المعهودة إلى أواسط التسعينيّات، بل أقصد تجارب دمج الأغنية في المسلسلات لأهداف الدراما التليفزيونيّة. سأتطرق إلى نموذجين مختلفين هنا:

مسلسلهو وهي” (1984)

تضمّن المسلسل، الذي مثّل فيه سعاد حسني وأحمد زكي، ثماني حلقات مختلفة عن بعضها. جاءت كل منها مختلفة عن سابقتها، وعالجت كل منها قضية اجتماعيّة مختلفة. ورغم عدد الحلقات القليل، إلا أن أغانيه تعتبر الأنجح على الاطلاق مقارنة بمسلسلات غنائية أخرى مثل: “حبيبي الذي لا أعرفهوهي وغيرها“. وذلك لوجود شاعر كصلاح جاهين يكتب كلماتها، وملحنين مخضرمين ككمال الطويل وعمار الشريعي يصيغانها. لكن السبب الأهم هو وجود حالة فنيّة استثنائيّة جادت بصوتها في تلك الأغاني رغم أنها ليست مطربة. لتزرع في وجدان أجيال جاءت بعدها أغانٍ وجمل شهيرة أصبح بعضها غرافيتي في شوارع قاهرة ما بعد ثورة يناير، وشعارات ثوريّة متداولة مثل: “البنت زي الولدمن أغنيةالبنات“. وقدّمت سعاد حسني كذلك أغانٍ شعبيّة خفيفة مثلالشوكولاتةوخالي البيه“. وشاركها أحمد زكي الغناء في شارة البداية، إضافة إلى غنائه لأغنيةلأ لأ اثبتفي إحدى الحلقات. وهي تجارب غنائيّة شجّعت زكي على ممارسة هوايته في الأداء الغنائي التي وظّفها سينمائيّاً فيما بعد.

مسلسلأنا وإنت وبابا في المشمش” (1990)

شكّل المسلسل حالة فنيّة متفردة عرضت أحوال الفساد المجتمعي في مصر، منتقدة رجال الأعمال والإعلام وقطاع كبير من المسؤولين. وتم توظيف الموسيقى بشكل لم تشهده الدراما التلفزيونيّة من قبل، وذلك لوجود عدة عوامل قوة تتمثل بكتابة المؤلف والسيناريست أسامة أنور عكاشة قسماً من الأغاني، إضافة إلى كتابته للمسلسل. كما شارك أحمد فؤاد نجم بكتابة بعض الأغاني، وأهمها شارة المقدمة الذي يذكرنا بالطابع الـشيخ إماميإذا صح التعبير. فالإعادات المتكرّرة لكلمةمشمشبعد كل بيت تذكّر كثيراً بـحاحاالشيخ إمام. وتجدر الإشارة هنا إلى صياغة  الملحّن فاروق الشرنوبي لألحان المسلسل بشكل دقيق على تنوعها واختلاف أنماطها وفقاً لتطوّرات الأحداث الدراميّة. كما جاء أداء الفنانة فردوس عبد الحميدثورجيًّاشعبيّاً وراقياً في آن واحد، وظّفت فيه جمال صوتها كمؤديّة وليس كمطربة، بذكاءٍ فنّي يحسب لها وللمخرج محمد فاضل زوجها. فهي هنا ليست فردوس التي تغنّي: “بتغنّي لمين يا حمامبشكل تطريبي في مسسلسلليلة القبض على فاطمة، بل تبعت بأدائها روح كلمات نجم البسيطة واللاذعة. إذ تخرج الأغاني في بعض المشاهد وكأنها عفوية وخارج الاستوديو. بل تقوم الشخصيات بغنائها بشكل حي، كأغنيةبلديالتي تغنيها فردوس عبد الحميد ومحمود الجندي بأداء مؤثّر

شارة مقدمةهو وهي

أغنيةالبناتمنمسلسل هو وهي

شارة مقدمةأنا وإنت وبابا في المشمش

أغنيةبلديمن مسلسلأنا وإنت وبابا في المشمش

العصر الجديدوتغيّر المعادلة

تناول المقال توجهاتٍ وأشكالاً موسيقيّة مختلفة في الدراما التلفزيونيّة المصريّة، من أواسط الثمانينيّات إلى بداية الألفيّة الجديدة لما تحمله من قواسم مشتركة: كصناعها وأنماطها ونجومها. ما يتيح حصرها كظاهرة تعكس أجواءً اجتماعيةسياسية عاشها المجتمع المصري. كانت أصوات جيل الوسط في مصر هي الأهم في مجال أغاني شارات المسلسلات، وكان لموسيقى الأعمال التلفزيونيّة بعداً وجدانيّاً لدى المستمع المصري والعربي، مشكّلة ركيزة هامة من ركائز العمل الدرامي. في وقت كان فيه التلفزيون المصري المصدر الرئيسي للأعمال الدراميّة والأكثر مشاهدة

منذ بداية الألفية الثالثة، اختلفت الأشكال الدراميّة، وتباعاً اختلفت الرؤى الموسيقية بتأثيرالعصر الجديدوالاستحداثات التكنولوجيّة. اختلفت المعادلة وأفل نجم هذه الاصوات وهذه الأنماط وكأنها أدّت مهمتها في عصر ما قبل الحداثة الفضائيّة التلفزيونيّة الموجود اليوم.

بدخول جيل جديد من المؤلفين والمخرجين الشباب، أقصيَ جانباً صنف الشارات المليئة بالشجن، وباتت العقليّة التجاريّة متحكمة في اختيار مطربي الشارات، ولصق أسماء نجوم تجاريّة كنانسي عجرم وإليسا وكأنها غلاف إيقاعي للمسلسل بلا بعد درامي، وخارجة عن تركيبته

ويبقى السؤال إن كانت مرحلة ما بعد الثورة ستنتج أشكالاً مختلفة من الدراما التلفزيونيّة المصريّة متأثرة بروح الثورة؟ خاصة بعد أن فجّرت الثورة مواهب شابة في الغناء والتأليف الموسيقي، واستطاعت أن تكتسب لها حيّزاً ينافس في أحيان كثيرةالتجاريّة” – “المينستريم“. فهل هي أصوات مصر القادمة في الدراما التلفزيونية لو دأب صناع الدراما على إنتاج أعمال تُستلهم فيها روح ثورة يناير؟ 

  • Alison Landsberg. “Prosthetic Memory: Total Recall and Blade Runner. In:  Cyberspace, cyberbodies, cyberpunk: cultures of technological embodiment. Ed. Mike Featherstone and Roger Burrows. SAGE publication, London 1995 pp: 175-190

المزيـــد علــى معـــازف