Mogwai Post-Rock Post-Modernism Electronic Ma3azef موجواي بوست روك ما بعد الحداثة إلكتروني معازف
أجنبي جديد

ما بعد الروك، ما بعد الحداثة | موسيقى موجواي

محمد عمر جنادي ۰۷/۱۱/۲۰۱۹

عام ١٩٩٥ قام عازف الجيتار والمغني ستيوارت بريثوايت بتكوين فرقة من ثلاثة عازفين، ضمت وقتها عازف البايس جيتار دومينيك آتشيستون، وعازف الدرامز مارتن بولوخ. تجمع الثلاثة صداقة ممتدة منذ أيام الدراسة. انضم إليهم بعد ذلك باري بيرنز (بيانو وسنث)، مكملًا الأعضاء المستمرين حتى وقتنا هذا – إضافًة إلى جون كامنجز الذي انفصل مؤخرًا عن الفرقة، والتعاون مع بعض العازفين المساهمين في عدة مشروعات مثل براندن أوهارا ولوك ساذرلاند. أطلق الأعضاء على فرقتهم الوليدة اسم موجواي، تيمنًا باسم المخلوق الغريب الذي ظهر في فيلم جرِملنز. تعني الكلمة بالصينية الروح الشريرة أو الشيطان.

على مدار عقدين، عبّرت موجواي ببلاغة عن روح عصرها، عن صوت نهاية القرن العشرين وبداية ألفية جديدة. قدمت موجواي موسيقى تبتعد عن الغضب والاحتجاج وتتجه إلى البحث عن صوت أكثر ديناميكية وأجواء درامية وأساليب مغايرة غايتها التعبير الحي، لا إبراز قدرة الآلات المستخدمة، ما جعل الفرقة لا تحتاج الكلمات إلا فيما ندر.

يُشار إلى موجواي كإحدى فرق البوست روك. رغم تحفظات الفرقة على إدراجها ضمن صنف بعينه، يبدو مصطلح البوست روك الأنسب بالفعل لهم؛ ليس كنوع بين أنواع وتصنيفات الروك الفرعية العديدة، بل كمرحلة ومفهوم جديد وتجريبي في تخليق الصوت والتأليف الموسيقي.

يُعتبر البوست روك شكلًا تجريبيًا مغايرًا للروك المتعارف عليه، يسعى للاستفادة من مواد وإمكانات صوتية متنوعة تتيحها الأنماط الموسيقية المختلفة. البوست روك قريب من الإندي روك، كما يتحد مع الموسيقى الإلكترونية في بعض سمات تخليقها للصوت، ويستعير من الموسيقى التقليلية والنيوكلاسيكية السمة التكرارية للثيمات والموتيفات داخل العمل، وكذلك استخدامه للطنين. ذلك بالإضافًة إلى مصادر أخرى من الكرواتروك الألماني والدَب والجاز الحر وغيرها من الأنماط الموسيقية المختلفة.

ما بعد الروك، ما بعد الحداثة

منذ منتصف القرن العشرين، مرورًا بعقدَي الستينات والسبعينات، ازدهر الروك وتنوعت أصنافه الفرعية، وعُرف بكونه المعبر عن تمرد وطموحات أجيال غاضبة من الشباب. كان الروك حركة ثقافية وظاهرة اجتماعية تسعى إلى التحرر بمفاهيمه السياسية والاجتماعية، ومناهضة مؤسسات المجتمع وأعرافه. مع نهاية القرن العشرين اكتملت تحولات جذرية وتبدلات كبيرة مع هيمنة مفاهيم ما بعد الحداثة، أثرت بدورها في الروك وشعبيته.

يؤكد الفيلسوف الفرنسي جان بودريار أننا غارقون في عالم ما بعد حديث، وأن “النمو المتسارع في الاتصالات الجماهيرية وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، ولّدت حِملًا زائدًا من المعلومات، وهناك كثير من صور الحقيقة المتاحة، حتى باتت فكرة وجود عالم واقعي يمكننا أن نعلم حقيقته فكرة إشكالية.” يرى بودريار أننا انتقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت أو تحلل المبدأ المؤسس للواقع. هكذا يُعلن نهاية فكرة الصراع لأنه لم يعد بمقدور الإنسان التمييز بين الواقعي والمتخيل، الحقيقة والزيف، التقدمي والرجعي. أيضًا، وكما يبين آلن هاو، يقبل بودريار فكرة أن الذات البشرية قد ماتت تمامًا، و”انحلت برمتها في مكائد الواقع المفرط” الذي يتحكم به الإعلام والتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية.

أما الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار، الشخصية الرئيسية الأخرى في نظرية ما بعد الحداثة، فإنه يشكك في السرديات الكبرى (Meta narratives)، وهي الحكايات أو الخطابات التي تُشكل أساسًا لنظرة العالم الغربي لنفسه: التقدم، الحقيقة، وتحرر الذات. يرى ليوتار أن هذه المقولات قد سقطت ولم تعد تصدق، وبات الأهم الآن إبراز الحكايات الصغرى (petits r’ecits) وتصديرها، و”الاحتفاء بتنوع الحياة وتعقيدها.”

ليس الغرض من ذكر المقولات الرئيسية لنظريات ما بعد الحداثة القول بأن الممارسة الفنية لموسيقيي البوست روك مسايرة لتلك المقولات، أو ممتثلة لأطروحاتها عن موت الذات وسقوط فكرة التحرر (ما قد يوحي به المقطع اللفظي المشترك Post – ما بعد). يتمثل العنصر الجمالي المغاير في البوست روك عمومًا، وموجواي بصفة خاصة، في البُعد النقدي لتلك الموسيقى، القدرة على إبداء علامات الاستقلالية عن الوضعية الراهنة التي تخلقت أثنائها، وفي تخطي الشروط المعرفية والتاريخية التي أنتجتها. أي الوعي بالعصر الذي جاءت فيه لا الامتثال لمقولاته المهيمنة.

ليس البوست روك إعلانًا لموت الروك، بما كان يمثله من طاقة احتجاجية وثورية، إنما يمثل عودة إلى الجوهر المقاوم الكامن في الموسيقى، حيث تجريدها وبنيتها وتأثيراتها الفائقة على الحس والإدراك. البوست روك إعادة للإنسان إلى المركز بعد إزاحته العنيفة منه، وتقويضه، بل وإعلان موته. لكن كما يساعد أي تصنيف على معرفة السمات العامة لمنجز فني ما، فإنه يتجاوز كذلك تحليل فرادة هذا المُنجَز، ويُهدر، في أحيان كثيرة، إمكانية معرفة مسببات تلك الفرادة.

روح الپنك لا أسلوبه

في ثاني ألبوماتهم، يضعنا العنوان، Come on, Die Young (هيا مُت شابًا)، في حيرة. هل نحن إزاء عدمية نهاية القرن العشرين، حيث اللامبالاة والاكتئاب الدائم؟ وهل يمثل ذلك نقضًا لما سبق ذكره عن البعد الإنساني النقدي للبوست روك؟ أم أن العنوان مجرد مفارقة ساخرة؟ يتبدى من أول تراكات الألبوم الحس الساخر لموجواي، أو تعمد الخفة، وهي سمة ما بعد حداثية في الفن. تميز التراك الأول بعنوان پنك روك، في إشارة إلى النوع المشتق من الروك آند رول منتصف السبعينات، بعدوانيته وثوريته ورفضه لتيارات الروك السائدة، والذي شهدت بريطانيا أعنف موجاته وأشدها راديكالية. 

نسمع في التراك كلمات إيجي بوب الأيقونية، أحد رواد البَنك روك، وهو يصف ما يعنيه البَنك كصنف موسيقي، معلنًا ازدراءه للروك آند رول السائد وقتها. أي أن ما بدا وكأنه روح لا مبالية، نكتشف أنه عدمية فوضوية بطاقة تدميرية. ربما يشير العنوان إلى صيحة فرقة الپنك الشهيرة سِكس بيستُلز: “لا مستقبل – no future.” لا تتوقف المفارقة عند هذه النقطة، عند استدعاء الأيديولوجيا المعادية للسلطوية (السمة الرئيسية للبَنك) في زمن إعلان موت الأيديولوجيا، نهاية القرن العشرين؛ بل نتبين مستوى أعمق من الباروديا، أو المحاكاة الساخرة التهكمية، في كون موسيقى موجواي أساسًا على النقيض من موسيقى الپنك روك.

تتميز أغاني الپنك روك بتعبيراتها المباشرة والدعائية في أغلب الأحيان، بينما تنزع موجواي نحو الغموض الشعري. أسماء فرق الپنك وعناوين أغانيها بمثابة شعارات أيديولوجية سياسية، مثل عنوان أغنية فرقة كلاش، حاربت القانون، وأغنية فك ذ يو إس إيه لفرقة ذَ إكسبلويتد. أما أسماء الفرق نفسها فمنها تشوه اجتماعي (social distortion) ودين فاسد (bad religion). إضافة إلى الغياب شبه التام للكلمات في مقطوعات موجواي في مقابل الكلمات الصارخة في الپنك، وكذلك التباين الشديد في الإيقاعات والألحان وتتابع النوتات، حيث تتسارع في الپنك وخاصة في توظيف البايس جيتار، وتتمهل في مقطوعات موجواي.

تستلهم موجواي الطبيعة المقاومة في موسيقى الپنك روك، والروح الاستقلالية المناوئة للسائد، وتطرح جانبًا التعبير السياسي / الأيديولوجي المباشر للوصول إلى جماليات خاصة تميزهم.

ملهاة ومأساة

تتأمل موسيقى موجواي ذاتها، وتتساءل عن معنى الروك وتاريخه. تشعر أن موسيقاهم هي ردة فعل نقدية على أنماط الروك السابقة عليهم. أي أن موضوع الموسيقى ليس العالم فحسب، بل والموسيقى نفسها، وهو شبيه لما يُعرف في الأدب ﺑ الميتا-سرد أو الكتابة عن الكتابة. يتأمل العمل الفني معناه، ويحاول الكشف عن طبيعته أو يعلق على نفسه ويقوم بالشرح. ليست موسيقى موجواي مفتونةً بذاتها، لكنها تحمل وعيًا ذاتيًا. تستدعي الأعمال الأولى لموجواي أجواء فرق مميزة مثل سلينت وتورتويز، كما تحرص على الموازاة الأسلوبية لأكثر من نمط موسيقي.

في الألبوم الثالث للفرقة، روك أكشن، الصادر مع بداية الألفية، نجد واحدة من أشهر مقطوعات موجواي: خذني إلى مكانٍ لطيف، يغني فيها بريثوايت بهدوء، ويظهر التشوش في الخلفية ناعمًا. المقطوعة في مجملها باعثة على السكينة. في تراك بعنوان أنشودة الروبوت، نواجه موسيقى مناقضة تمامًا، يصل فيها التشويه إلى حدوده القصوى، صانعًا مقطوعة غير قابلة للاستماع. في تقديري، ربما يحمل هذا التشويه المتعمد في موجاته نقدًا لسيادة الآلات، وللتشيؤ الناتج عن عالم محكوم بالتقنية، رغم اتكال موجواي المفرط على التقنية.

يتجلى الوعي الذاتي لموسيقى موجواي أيضًا بتمثلها بعض السمات الفنية لما بعد الحداثة دون أن تتبنى مقولاتها التفسيرية تجاه العالم والإنسان، أي أنها توظفها كأدوات فنية عصرية لا كعقيدة فلسفية. من أبرز السمات والتقنيات الفنية التي توظفها موجواي: الكولاج أو القص واللزق، واللعب السوداوي أو المرح الأسود، بحسب تعبير المفكر المصري الأمريكي إيهاب حسن. تصير بالنتيجة لموسيقى موجواي خاصية تجميعية بدلًا من الانتقائية، حيث يمكن أن تتجاور في الموسيقى أشكال وأعمال متعددة، ولا يهم كونها متضادة. تمحو الممارسة الفنية ما بعد الحداثية الحدود بين الثقافة الرفيعة والجماهيرية، وبين الميتافيزيقي والمتهكم، بين الإحساس بالنهاية والانغماس في اليومي. كذلك، ترى موجواي العمل الفني كبناء متناقض لا تركيبي، وتحدد هذه الرؤية ما يمكن للمقطوعة أن تدمجه أو تضفره بداخلها. بذلك من الممكن أن تصير المقطوعة، كنص أو عمل فني، عبارة عن عملية تفاعل بين نصوص وأعمال متعددة، ويمكن لهذا التفاعل أن يقوم على التضاد أو الباروديا أو المزاوجة، فيما يعرف بعملية التناص أو Inter-textuality. الملمح ما بعد الحداثي للتناص قائم على إمكانية التوليف بين الجاد والهزلي. تتضمن الباروديا أو المحاكاة الساخرة عند موجواي ما وصفه الناقد الأمريكي فردريك جيمسون بـ التعاطف الخفي للأصل، بمعنى أنها رغبة واعية في النقد، لكن للموسيقى أيضًا القدرة على وضع نفسها مكان الأسلوب / العمل الذي تحاكيه.

أصدرت موجواي مقطوعة منفردة بعد فترة قصيرة من ألبوم روك أكشن: أبي، مَلِكي. مقطوعة طويلة نسبيًا تمتد إلى عشرين دقيقة. ترتكز المقطوعة على ألحان من صلاة عبرية تسمى أفينو مالكينو، ترتَّل ترانيمها وأبياتها في الأعياد اليهودية، وتعني الكلمة بالعبرية: أبانا، ملكنا.

تتكون مقطوعة موجواي من لحنين منفصلين من أفينو مالكينو. تبدأ المقطوعة بجيتار منفرد يعزف الجملة اللحنية الأولى، بعد وهلة قصيرة يلتحق بالمقطوعة جيتار ثان يعزف لحنًا طباقيًا. تدخل دقات الدرامز بعد مرور الدقيقة الأولى، يتبعها جيتار ثالث في الدقيقة الثالثة في خط لحني طباقي آخر. تبدأ أصوات الجيتارات بارتفاع بطيء. يتقدّم الجيتار المشوه الأول بينما يستمر اللحن الأساسي المستمد من الترنيمة العبرية، بعدها يتتابع ظهور الجيتارات المشوهة حتى تحتل مقدمة الهارموني مزيحةً كل الآلات؛ وقبل أن تترك صوت جيتار منخفض ومنفرد، تنسحب الطبول والبايس جيتار تاركين صدًى باهتًا من اللحن.

قبيل منتصف المقطوعة، تتحول الجيتارات إلى الثيمة اللحنية الثانية، وفي تناوب مماثل للنصف الأول من المقطوعة، تتقدّم الجيتارات المشوهة، ويحدث انقطاع لحني مماثل بعد عزف الجيتارات للنغمات المنفردة (riffs). تشهد الدقائق الأخيرة للمقطوعة انحسارًا للألحان، وتصاعدًا للضوضاء والأصوات المتشظية الحادة. المقطوعة مزيج فريد بين التشوه الخالص والنشازات، مع النغمات الهادئة بالغة النقاء.

بهذه المقطوعة المنفردة تؤكد موجواي على مكانتها كفرقة موسيقية مغايرة، وعلى قدرتها الخلاقة في إبداع أجواء وإيحاءات صوتية متنوعة بين الساخر والميلودرامي، الهادئ والصاخب. لا تتحقق الهارمونية فقط من تآلف معطيات متنافرة، وإنما من تواشج المقاربة الساخرة للعالم مع الشعور المأساوي بالوجود.

في الألبوم التالي، أغاني سعيدة للناس السعداء، نلمح المقاربة الساخرة مرة أخرى. يخلق الألبوم إيحاءً مرحًا بالفعل. عناوين التراكات تهكمية وتحمل هجاءً مبطنًا لكننا لا نعلم إلى من توجهه الموسيقى. تمتاز مقطوعة أعلم أنك كذلك، لكن مَن أنا بكثافة لحنية مغايرة بعض الشيء لبقية الألبوم القائم على النسق التكراري، وتوظيف الضوضاء والموسيقى الإلكترونية. 

نحت الضجيج

من الأسباب الرئيسية وراء تميز موسيقى موجواي جيتارات ستيوارت بريثوايت ودومينيك أتشيسون، وسنث وبيانو باري بيرنز. خلقت المزاوجة بين الجيتار ونغمات البيانو صيغًا لحنية عذبة وذات ثراء تعبيري. لكن أسلوب موجواي لم يكن ليتحقق دون تخليقهم لما يُسمى ﺑ الضوضاء البيضاء أو الضجيج الأبيض، خلفية صوتية تتشكل عليها ألحانهم وتتفاعل معها.

تُعرف الضوضاء البيضاء بأنها صوت من النوع المتواصل يظهر بلا إيقاع محدد، ومزيج غير متجانس من الموجات الصوتية التي تحتوي على جميع الترددات. يشيع استخدام الضوضاء البيضاء في الموسيقى الإلكترونية، ويمكن خلقها من خلال السنث. صوت الضوضاء البيضاء استاتيكي، ومن أمثلته في حياتنا اليومية صوت أمواج البحر والمكنسة الكهربائية ومجفف الشعر، أو صوت تشويش التلفاز أو الراديو عند ضياع الإشارة أو الإرسال.

للمفهوم أيضًا معنىً مجازيّ، فقد اختار الكاتب الأمريكي دون ديليلو الضوضاء البيضاء عنوانًا لروايته التي تتحدث عن هاجس الخوف من الموت، إذ يراها معبرًا عن توافه الوجود الأمريكي المعاصر، وعن ملامح نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين. يمكننا القول إن مفهوم ضوضاء بيضاء صارت له دلالة رمزية لتعبيرات مثل: عنق الزجاجة، نفق مظلم، نهار أسود، وهكذا. الضوضاء البيضاء دلالة على الخواء الروحي المعاصر، الرعب العادي اليومي في زمن ازدحام وسائل الإعلام والخطر النووي وهيمنة ثقافة البوب.

يغطي الضجيج الأبيض على الأصوات الأخرى لأنه يدخلها ضمن تردداته نظرًا لطبيعة منحنى طيفه الترددي، فهو كالضوء الأبيض الذي يجمع كل ألوان الطيف. يكمن التحدي في إيجاد علاقة متوازنة بين أصوات الآلات والضوضاء المُخلّقة: متى يرتفع الضجيج الأبيض للتغطية على الجمل اللحنية، ومتى يظل خافتًا؟ موسيقى موجواي بارعة في ضبط مناطق توقف الضوضاء وارتفاعها داخل المقطوعة، وكذلك تخليقها بنقاوة عالية.

في ألبوم السيد وحش (٢٠٠٦) مقطوعتين من أكثر مقطوعات موجواي ضجيجًا: ثعبان جلاسكو الضخم ونحن لسنا هنا. لكن الضوضاء لها طابع إنساني إن جاز التعبير، كأن الموسيقى تعمل على أنسنة الضجيج وتحييده، أو بالأدق، نسج الصوت من خلاله.

في صديق الليل وموت الفولك ٩٥ مزج رائع بين أصوات التشويه الصاخبة وجمل لحنية كثيفة وتكرارية، ونوع من الترجيف (Trill) من خلال التتالي السريع نسبيًا لنغمة ونغمة أخرى تعلوها. السيد وَحش والألبومات اللاحقة مثال واضح على التنويع بين الصخب الذي يماثل موسيقى الدِث ميتال، والصيغ اللحنية الهادئة كما نعرفها في الموسيقى التقليلية والنيوكلاسيكية، القائمة على البيانو والسنث.

يقدم ألبوم الصقر يعوي، الصادر عام ٢٠٠٨، مقاربة شعرية للعالم، تتسم بغموض الشعر وتجاوزه لمحاولات حصره في معانٍ بعينها. عناوين التراكات إشكالية، وتخلق مع الموسيقى إحساسًا بالاغتراب والقلق و الخوف. نذكر منها: أحبك، سأفجر مدرستك، عار اسكتلندا، رائحة الشمس صاخبة للغاية. يصل التشويه هنا إلى درجة فريدة من البلاغة، حد اعتباره معادلًا موضوعيًا أو مجازًا عن تشوه آخر، موضعه داخل الروح أو الذات الفردية.

دراما موجواي

الملمح الأبرز في غالبية ألبومات موجواي هو الغياب التام للكلمات، للغناء، باستثناء تراكات معدودة. موسيقى موجواي موسيقى آلات أو آلية، لذلك يكمن التحدي الأهم لأي مقطوعة تقدمها موجواي في القدرة التعبيرية. لا تقدم موجواي شرائح إلكترونية من الموسيقى، حيث تتمتع غالبية مقطوعاتها ببلاغة استثنائية، وملامح سردية ملحوظة. تشعر أن ثمة نصًا يمكنك قراءته، دون ضرورة وجود موضوع محدد لكل مقطوعة. استنادًا على هذه القدرة الدرامية، أبدعت الفرقة في تقديم الموسيقى التصويرية لوثائقيات وأعمال دراما تلفزيونية وسينمائية.

عام ٢٠٠٦، ألّفت موجواي الموسيقى التصويرية لفيلم وثائقي عن لاعب كرة القدم الفرنسي زين الدين زيدان. يتميز فيلم زيدان: بورتريه للقرن الحادي والعشرين بتركيزه على أسلوب زيدان فقط لا غير. لا حكايات عن الطفولة أو شهادات لمعاصريه. صُوِّر الفيلم بأكثر من ١٧ كاميرا مزامنة لمباراة زيدان الأخيرة مع ريال مدريد في الدوري الإسباني. 

تعبر مقطوعات موجواي عن الملحمة الأسلوبية للاعب – إنها تعبير بليغ عن العظمة والترقب والعلاقة مع الزمن. في تراك منتصف الوقت تجسيد رائع للمجهول الذي ينتظرنا، وفي حالة زيدان، المجهول هو الشوط الثاني. بنغمات بيانو ثاقبة، نشعر بمرور الوقت، واقتراب النهاية.

في نفس العام، تعاونت موجواي مع الملحن البريطاني كلينت مانسل في الموسيقى التصويرية لفيلم الينبوع للمخرج دارِن أرنوفسكي. نطالع في الفيلم ثلاث قصص مختلفة، تتوازى أحيانًا وتتقاطع في أحيان أخرى. تتمحور القصص الثلاث حول الموت والحب والخلود. تحكي القصة التي تدور في الحاضر عن طبيب عالِم يحاول أن ينقذ زوجته المحتضرة مريضة السرطان، وأن يصنع ترياقًا ضد الموت، بينما نشاهد في الماضي، وقت حضارة المايا، قصة محارب يحاول أن يجد شجرة الحياة حتى يحرر ملكته الأسيرة.

تمزج أجواء الفيلم بين الحلم والواقع، السريالية والروحانية. موسيقى مانسل وموجواي جنائزية ومفعمة بالقلق والحزن والخوف. نظرة واحدة إلى عناوين المقاطع الموسيقية في الفيلم تخبرنا بذلك: الموت مرض، الموت طريق الذهول. تختتم موسيقى الساوندتراك بمقطوعة معًا سنعيش إلى الأبد، حيث تصبح الموسيقى أكثر هدوءًا وباعثة على الأمل، كأنها نوع من السلوى أو العزاء بعد تصاعد جنائزي مهيب في المقطوعة السابقة: الموت طريق الذهول.

توالت أعمال الموسيقى التصويرية وكذلك التعاون مع موسيقيين آخرين، كما في الوثائقي عن التغيرات المناخية قبل الطوفان عام ٢٠١٦، بالاشتراك مع ترينت ريزنر وأتيكس روس وجوستافو سانتولالا. أما العائدون، موسيقى لمسلسل تلفزيوني فرنسي بنفس العنوان، فتعد من أبرز ما قدمت موجواي من موسيقى تصويرية، خاصة تراكات: برتغال، ضريبة النسر، الأكواخ، والوجه الجائع، التي تتميز بحضور مركزي للبيانو والكيبورد. 

لا دواء للندم

حين سئل أحد التقنيين، من المتعاونين مع الفرقة، عن سر نجاح موجواي واستمراريتهم، أجاب: “لأنهم يبدون كأناس عاديين، تصيب أجسادهم البدانة، ويضرب الصلع رؤوسهم.” مظهر موجواي أقرب إلى مهنيين، أو حرفيين، يريدون الوصول إلى أقصى درجات الإجادة. لا يعكس مظهرهم ثوريتهم بقدر ما تتمثلها موسيقاهم. مع بلوغ الفرقة العقد الثالث، صاروا أشبه بالشعراء المخضرمين الذين توصلوا إلى إحدى حقائق الوجود، وتكشّف لهم ما لم يتكشّف لغيرهم من البشر. ينضح الألبومان الأخيران تسجيلات الهذيان وشمس بلدة عادية بشعرية تتمثل في أسلوبهم التقليلي.

لا دواء للندم، إحدى مقطوعات تسجيلات الهذيان، موسيقى متعاطفة مع الشقاء الإنساني، فيها محاكاة لصوت الأرجن، كأنها شعيرة مقدسة معاصرة. مقطوعاتهم الأخيرة ترانيم جنائزية يتخللها الضجيج أحيانًا وتتشوه أحيانًا أخرى.

يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه: “حين يغدو كل شيء مرئيًا، فلا شيء يغدو ذا قيمة.” كان تحدي موجواي الأبرز إعادة اكتشاف القيمة الجوهرية للصوت في عصر الصورة. مقطوعات الألبوم الأخير أشبه بالحلم الفوضوي، تتجه موسيقى موجواي نحو تأثيرات منومة، مدوخة، وباعثة على السكينة رغم الضوضاء.

المزيـــد علــى معـــازف