.
عندي قائمة مقدسة أخفيها لأوقات بعينها، عندما أغرق في حزن عميق أيًا كان سببه، ودائمًا ما تنتشلني منه. عليها عدوية يغني للحبايب اللي راحوا، وتضم كل أعمال شادية مع بليغ، وتسرد أم كلثوم فيها بكائية ناجي على الأطلال، بينما تتذيل بموشحات للنقشبندي وطوبار وعمران، وأغان من الطرف الآخر من العالم لجون باييز وجوني ميتشل وآخرين.
أعتقد أن كل واحدٍ منا فعل شيئًا مشابهًا في أيامه الحزينة، سواء ادخر قائمة لتلك الأيام، أو التقط هاتفه وبحث في أحد تطبيقات الموسيقى عن أغنية حزينة تلائم فراغ اليوم، وعمن يخبره، بطريقة ما، أنه ليس وحيدًا في هذه التجربة.
نحن لسنا وحدنا فعلًا، لكن لماذا نفعل ذلك؟ لماذا يقرر شخص ما في لحظة حزن أن يضغط على زر التشغيل لأغنية حزينة؟ ألم يكن من الأولى تشغيل أغان مبهجة بدلًا من أن نزيد الطين بلة؟
في حالات الحزن نكون في قمة ضعفنا، ونعجز في الغالب عن شرح ما نمر به، لذلك نصاب بالوحدة حتى لو كنا محاطين برفاق؛ لأننا نحس أننا تركنا لما نحن فيه بمفردنا وأن لا أحد يفهمنا.
تتولد نتيجة لذلك رغبة تلقائية في البحث عمن يشبهنا، أو يصور شعورنا بصورة دقيقة عجزنا عنها. تشهد على ذلك كل حسابات الفيس بوك التي شاركت في وقتٍ ما مقطعًا لأغنية حزينة واكتفت بإضافة كلمة واحدة: same.
نحن نفعل ذلك كوسيلة لمصالحة الحزن، إخراجه للعلن ورؤيته، بل واحتضانه، ما يمنحنا سبيلًا للتطهر.
لا يكون الإنسان جريئًا كفاية في بعض حالات الحزن ليعلن عن حزنه، ربما لأن أحدًا لن يعيره انتباهًا، أو لسرعة دوران الحياة التي لن تتوقف لتربت عليه، فيبحث بنفسه عن طرائق للتأسي، وما الذي يمنع التأسي من التواجد في صوت عبد الحليم وهو يغني موعود أو عند أم كلثوم وهي تتساءل: “أهرب من قلبي أروح على فين؟”
ليس كل من يبحث عن أغنية حزينة عليه أن يكون بالضرورة حزينًا أو مضطرب النفس، فهناك من يميل لسماع أغانٍ تدور حول موضوعات ربما لم يعشها، وتصف مشاعر لم يسبق له اختبارها.
يخبرنا تقرير بلومبرج عن الجيل زد أنهم كانوا أكثر فئة بحثت عن كلمة حزين على سبوتيفاي، كما تظهر بيانات المنصة لصيف ٢٠٢٣، ما جعلها تطلق قوائم تشغيل متخصصة مثل بمر سمر تضم أغان لمغنين مثل لانا ديل راي وغيرها، لتواكب الرغبة المتصاعدة لجيل يهوى سماع الأغاني الحزينة؛ مع أنه في الغالب لم يمر بتجربة فقد أو انكسار، أو لم يخض من قبل علاقة عاطفية معقدة، ولم تتح له فرصة حقيقية لاختبار الحزن بعد.
ما الذي يجذب مراهقًا في الرابعة أو الخامسة عشرة لسماع أغنية مثل بوث سايدز ناو لمغنية الفولك جوني ميتشل؟ ما الذي يجعلها جذابة لمراهقين لم يختبروا الجانبين من الحياة؟
صدرت الأغنية عام ١٩٦٩ ضمن ألبوم كلاودز، وتتحدث بطلتها عن النظر للسحب والحب والحياة من الجانبين، من جانب كانت فيه صغيرة ترى الأشياء مليئة بالزينة ومجملة، ومن الجانب الآخر عندما كبرت واستطاعت رؤية تلك الأشياء على حقيقتها. ما الذي يدفع شبابًا ومراهقين لسماع أغنية تتحدث عن رؤية الأشياء من الجانبين، وهم على الأرجح لم يسعهم اختبارها إلا من جانبها الملون؟
تحدثنا عن ذلك جوني ميتشل نفسها، ففي مقابلة حديثة أجراها معها إلتون جون، سألها إن كانت تظن أن عملها قد نال التقدير، فأجابت: “في وقتها؟ لا” وأردفت: “إن كان قد نال شيئًا فقد نال الكثير من الانتقادات … لقد كان فائض الحميمية وأزعج هذا كتاب الأغاني الرجال، قالوا: ’لا يمكن! هل يجب أن نكشف دواخلنا بهذا الشكل؟’”
تكمل ميتشيل: “لقد جعلت حميمية الأغاني الناس متوترين، واستغرق الأمر حتى هذا الجيل، والذي يبدو أنه متمكن من مواجهة مثل تلك المشاعر بسهولة أكثر من جيلي.”
أحيانًا تتجمع في النفس مشاعر يصعب تفسيرها وتمييزها، وأحيانًا إدراكها، ناهيك عن وضعها في سياق قلق أو حزن أو حنين؛ ولأن الإنسان جبان، فالاستماع إلى موسيقى حزينة يكون خيارًا صائبًا دائمًا، لأنه يوفر لنا حالة وجدانية متكاملة، تسمح لنا باختبار الحزن من مسافة آمنة، وتمكننا من فهم مشاعرنا، أو على الأقل لمسها والاعتراف بها. أي أنها توفر لنا تجربة وجدانية شبه متكاملة دون أن نتورط بها فعلًا.
أيضًا، الإنسان بطبعه فضولي تجاه كل شيء، وقد يسوقنا الفضول إلى أماكن غير متوقعة، منها أن نقوم مثلًا بسماع أغنية حزينة، فقط لنختبر عمقًا في الشعور بالحزن لا نجده في الحزن العادي وليد الأيام.
تفسير أن يقوم الفرد بذلك في مثل تلك الظروف هو الفضول تجاه استكشاف مستويات جديدة من الأحاسيس. كما تشير دراسة من جامعة فرايي في برلين عام ٢٠١٧، لبحث تأثيرات الموسيقى الحزينة على العاطفة والإدراك، إلى أن الاستماع إلى الموسيقى الحزينة يمكن أن يثير مشاعر من الدهشة والتسامي والحنين والسكينة، بدلًا من الحزن الفعلي.
يعتبر هذا الانفتاح العاطفي وسيلة جيدة لتنظيم المشاعر، الإيجابية والسلبية، حيث يوفر نوعًا من الراحة النفسية. وجدوا في الدراسة أيضًا أن الأشخاص ذوي التعاطف العالي يستمتعون بالموسيقى الحزينة أكثر، حتى في أوقات الفرح، ويجدون فيها نوعًا من الارتباط العاطفي.
باستماعنا إلى الموسيقى، تنشط في الدماغ نفس المناطق المرتبطة بالمشاعر والذاكرة والمتعة والمكافأة، ويحدث نوع من التفاعل يحفز إفراز الدوبامين، ما يولد الشعور الفوري بالمتعة، ويقدم لنا ذلك أحد التفسيرات.
بذلك، ليس هناك تناقض في ميلنا لسماع الموسيقى الحزينة في الأوقات التي لا نكون فيها كذلك، بل يطلعنا ولو بشكل بسيط على تعقيد التجربة الإنسانية.
نشأ البلوز على ضفاف المسيسيبي من رحم معاناة الأمريكيين السود، أواخر القرن التاسع عشر، وسط أبناء العبيد والمزارعين، بالتزامن مع انتهاء العبودية، وبما أن انتهاء العبودية لم يكن يعني بالضرورة انتهاء المأساة، فقد ضمت أغاني البلوز المبكرة مواضيع عن التمييز العنصري ومصاعب أخرى مما كانوا يعانونه.
من المرجح أن تكون لفظة بلوز مشتقة من مصطلح الشياطين الزرقاء، بمعنى الكآبة والحزن، وموسيقى البلوز تحتضن شياطينها، تعترف بالحزن وتصاحبه، وتخلق أغان عن الكرامة المهانة والحب الضائع والفقر والقمع والتمييز، والحياة اليومية الأكثر بؤسُا من حياة حشرة.
بالنسبة لشكل الموسيقى، تعتمد بنية البلوز على ١٢ مقطعًا وسلمٍ خماسي صغير أو سلم البلوز، ويحوي النغمات الزرقاء التي تبث الحزن في الأغنية.
النغمات الزرقاء هي النغمات الثالثة والخامسة والسابعة المسطحة من السلم الخماسي الصغير، تضفي عند عزفها إحساسًا بالشجن والتوتر على الموسيقى.
يجري المزج بين عدة تقنيات في البلوز، مثل استخدام النغمات الزرقاء مع الاهتزاز الصوتي وسكتات المغنين بين الجمل، لترك مساحة للارتجال الموسيقي، والانتقال من الهدوء إلى الصراخ، كل ذلك من شأنه أن يشيع جوًا عامًا من الحزن في موسيقى البلوز.
لا يشترط في البلوز أبدًا حلاوة الصوت، في الواقع فإن الاتجاه يكون لعكس ذلك، ونجد أن أشهر مغني البلوز تكون أصواتهم شبيهة بتروس متحركة لماكينة صدئة، لتعبر بصدق من خلال أغان موضوعاتها عن الفقر المدقع والخيانة والجريمة والقمع، وارتبط اسمها في زمن سابق باسم الشيطان.
ولد الراي أواخر القرن ١٨ في مدينة وهران، نتيجة رغبة في التعبير عن الذات سرعان ما تحولت إلى صرخة.
يتشابه الراي الجزائري في قديمه، إبان الحملة الفرنسية، مع البلوز، في خروجه من وسط الطبقات المسحوقة، وفي تناوله للمآسي والصعاب، وحتى في بذاءة كلماته. كان كلٌّ من البلوز والراي يغنيان بالنيابة عن كل مهمش لا يملك صوتًا، ويخبران عن المعاناة والحزن بدون رقابة وبوجههما الحقيقي.
أتى الراحل رشيد طه ليضيف للتشابه مع البلوز، بصوته الأجش وبمواضيع أغانيه التي تغازل مواضيع العنصرية والغربة والفقر. أيضًا، في حديثنا عن الراي لابد أن نذكر الشاب حسني، الذي أدخل الراي إلى البيوت الجزائرية وأحب فقراء بلده وصعاليكها، وغنى عن الحب والفقد والأسى، وكأنما جاء اغتياله ليكمل الصورة الحزينة في الراي بشكل أعم، وفي أغنياته بشكل أخص، فزادها بؤسًا.
اتسع تأثير الراي ليشمل المغرب وتونس، وشمل منذ أواخر الثمانينات والتسعينات أغان بمواضيع عن الوطن والغربة والفراق والشتات، فأصبح صوتًا للمهمشين في الغربة، وأصبح تأثيره يشمل الداخل والخارج.
أما على ضفاف نهر النيل فالحزن معقود. في صعيد مصر يمثل الموال الصعيدي منفذًا لوصف الشجن وتأطيره، في مواويل عن “الدنيا الغرورة اللي ما دايماشي” وعن “اللي بيعمله الزمن في ابن الأصول.”
يغلب على مغني الموال الصوت الشجي، ولأن الحزن في صعيد مصر مركب كما قلنا، لا تصدح المواويل بالحزن بصورة فجة، بل تسرد الحزن نبيلًا ينساب منها كالرمال من بين ثنايا الأصابع؛ وفي صعيد يعرف سكانه أن الشكوى لغير الله مذلة، لا نجد في المواويل سردًا بغرض النحيب، وإنما عبرة لمن يعتبر.
كثير من المواويل مرتجل، يسبغ عليها المغني من مشاعره وخبراته الذاتية، ومما رأى وسمع؛ وتكون أغلب المواويل في مقام الصبا والبياتي، يطعمها المغني بمهاراته في الارتجال، واستخدام الجناس بدقة محسوبة بين الكلمات، وقوة الجناس وبلاغته مما يقاس به مهارة مغني الموال، ومما يطرب السامعين، والذين يستعيدونه فيعيد.
يشترط في غناء المواويل قبل عذوبة الصوت، قدرته على التعبير عن الشجن، لأن العامل الأبرز في المواويل هو صدق الحزن والألم في ما يغنَّى، ويدلنا على ذلك أصوات مثل الريس حفني وسيد الضوي وخضرة محمد خضر.
الحزن في الأغنية السودانية انتماء وجزء أساسي من مكونات الشخصية السودانية، وتجربتها الجماعية سواء كانت الروحانية أوالوجودية؛ ويتجلى، بالإضافة إلى الموسيقى، في السياقات الثقافية والاجتماعية التي أنتجت تلك الموسيقى. حتى لو لم تظهره الكلمات، الحزن موجود دائمًا في الخلفية وبين درجات السلم الخماسي المهيمن على الأغنية السودانية.
ومن أبرز مغني السودان الذين كان الشجن بارزًا في أغنياتهم محمد الأمين، الذي غنى بصدق عن الشجن في الحب، وعن الوطن أيضًا؛ ومحمد وردي الذي يعد صوت السودان في لحظات حزنه وفرحه.
للحزن في الموسيقى وجوه كثيرة، أحيانًا يفصح عن نفسه وأحيانًا يأتي متنكرًا، ونحن، كما رأينا، نستهلكه بأكثر من دافع، سواء للتطهر أو للتلذذ أو حتى للتجريب، لكن الثابت أن الموسيقى الحزينة دائمًا ما تؤدي الغرض الذي لذنا بها من أجله.
نحن لسنا وحدنا في هذا العالم، لذلك أدعوكم أن تثروا قوائمكم بمزيد من الأغاني الحزينة المنتقاة، لكن هذه المرة لا حاجة لإبقائها سرًا، ولنطمئن أعزاءنا من خلالها أننا نفهم ما يمرون به وإن لم تسعفنا ألسنتنا.