fbpx .
أبيوسف واحد واحد معازف
مراجعات

واحد واحد | أبيوسف

عمار منلا حسن ۲۰۱۹/۰٤/۲۹

يخضع ألبوم أبيوسف الثاني إلى قاعدة واحدة: ما لا يقتلني يجعلني أقوى … وأكثر مرارةً. يدور واحد واحد حول فترة عصيبة مرّ بها أبيوسف، يشير إليها في إحدى الأغاني بـ الوقعة، ويبدو أن الوقعة كانت من القسوة أن الألبوم بأكمله يدور حولها دون أي ذكر لما حصل فيها. رغم حالة الانسحاق والاستسلام التي خلقتها هذه الوقعة في أبيوسف، إلا أنه حاول تحويلها إلى نقطة انطلاق جديدة، وفرصة لتصفية حساباته مع الماضي. على كل حال، ما يميز واحد واحد هو أن أبيوسف لا يروي هذه القصص والتحولات خلال الألبوم، بل يعيشها.

سوبرمان أغنية كثيفة بداية من عنوانها. يذكرنا أبيوسف بأن الكلمة تعني رجلًا خارقًا وليس بطلًا خارقًا بالضرورة، خاصةً عندما يصف قدرته الخاصة على أنها النجاة من غدر المقرّبين: “جرحي بقى يلحم لوحده / لا خلصتوا مني ولا ارتحتوا / كدة مبقاش في “نحن” / المصطلح كان واخد مكان فمسحتوا.” يصبح مزيج القوّة والمرارة واضحًا عندما يتجاهل أبيوسف النظرة الرومانسية للقدرة على الطيران بين الغيوم والنجوم، ليتحدث عن كيف ستسمح له هذه القدرة برؤية مدى تفاهة الناس في الأسفل.

تبدأ سوبرمان بصوت سِنث أورجاني (نسبةً لآلة الأورجن) شبيه بالذي يستخدم في مباريات دوري كرة السلّة الأمريكي، مستدعيًا مزاجًا من المنافسة والخشونة والبطولة، قبل أن ينطلق أبيوسف بشكل ماراثوني في مقطع الأغنية الوحيد، ليشبّه نفسه برجال خارقين آخرين بنظره كالمخرج محمد السبكي، ويبطِن كلماته بإيقاعات داخلية معقدة وممتعة: “أول ما لاقي عقارب ع القارب أقلبه، مهما كان قيمته مش فارق، أبدلو”، ويقرر أن الوقعة لن تكون سوى استفاقة وتصفية حسابات مع الماضي: “كل عقدة جريت منها، لما وقعت حصلتني / بس اتضح إن الوقعة، كانت أحسن حاجة حصلتلي.”

تمشي عدة أغاني في الألبوم على خُطا سوبرمان. في عزرائيل مثلًا، يعلن أبيوسف موت شخصيته القديمة وولادة نسخة جبّارة وقاسية منه: “مش إنت يوسف الطاي؟ (…) مش هكذب عليه فقمت رادد: لأ مش هو / خلص كل اللي كان جوا / مش فاضل غير عبوة (…) اسمي بقى مازن … ” منطلقًا في إيجو تريب من تضخيم الذات وتهميش الآخرين: “اشتغلت إنت في غيابي، عشان أكيد وجودي ساطل / راكب قدام، أنا كاتم صوت، سكوتي قاتل” نفس العقلية تنسحب على أغنية عصام.

لا تخلو عزرائيل وعصام من مشاكل واضحة في الإنتاج، لكن بإمكاننا تتبع كيف ألهمت الأغنيتان التوجه الإنتاجي اللاحق لدى أبيوسف، خاصةً تعاوناته مع زولي الميّالة نحو الموسيقى الصناعية والأصوات المستقبلية الحادّة والجافّة. على العكس، يباغتنا الصوت الدافئ للبيانو في افتتاحية أغنية البلوز تراب فين الدوا. ترتبك مقدمة البيانو المفتقرة للكوردات القوية، وتعجز عن منح الأغنية افتتاحيتها الجزلة، إلا أن الأغنية تبدل جلدتها التوزيعية سريعًا على كل حال، منتقلةً إلى دوّامات من السنث الضبابي والمحيط ووصلات متقطعة من إيقاعات التراب، فيما يستخدم أبيوسف أكثر من تسجيل لصوته بطبقات مختلفة بنفس الوقت.

صدر ألبوم واحد واحد على التقسيط، أغنية تلو الأخرى على مدى عام تقريبًا، وعرفنا أننا بانتظار حدث هام في الراب العربي عندما صدرت منه أغنية أمل. في الأغنية ذات المقطع الواحد، يلقي أبيوسف درعه المعهود من الأسطر اللاسعة والتبجحية، ليمضي بصحبة سطرين سنث متصالبين في رحلة من التأمل في الذات والتذمر. التذمر عنصر شائك، مسؤول باستمرار عن تشويه أعمال فنيّة كاملة بسبب أدنى استخدام خاطئ له، لذا أن يبني أبيوسف ملحمته الشخصية هذه حول شعور شائك مماثل هو تحدٍ بحد ذاته. في بعض اللحظات، يدل على كآبته عبر الحديث عن أعراضها: “معلش الدنيا كانت زحمة / ماعرفتش أركن كانت سحلة (…) حط في ودنك السماعة / شيل الشنطة اللي بتكرهها / كفاية القهوة اللي بتسهر / قعدة غلط علي ضهرك”، فيما يتجه في لحظات أخرى إلى الحديث بصراحة خالية من المجاز: “كل حاجة بتوجع أكتر / حتي كلامي بقي أقصر / عايش التجربة ناقصة / اتعودت علي إني أخسر.” يخوض أبيوسف بين أصول مشاكله النفسية من طفولته (اتعلمت في البيت عمري ما احلم)، وبين تأملات في بنيته النفسية الحالية، مشككًا في دوافعه الإبداعية (اكتشفت إني عمري ما كنت موهوب / تقريبًا كل ده كان غل)، ويختار أقصر الطرق وأكثرها مباشرةً ووقعًا في الكتابة، ليثبت أن الأمل، للحظة، كان مفقودًا بالفعل، وأن الأمر يتعدى مجرد كونه يمر بأيام صعبة.

يكرس أبيوسف هذا المزاج في الموسيقى، حيث يؤدي كامل الأغنية بطبقة صوت واحدة، ويتجنب الآدليبس والمؤثرات الصوتية الواضحة، ليؤكد صوته حالات التكرار والفراغ التي يتحدث عنها. بشكلٍ منسجم، تشبه إيقاعات طبول التراب في الأغنية صوت ذيل الأفعلى المجلجلة، مضيفةً عنصر القلق الذي يحكم إغلاق أي منافذ للأمل.

كان من المفترض أن يصدر الألبوم تحت اسم: كل ده ولسا ببتدي (اقتباس من أغنية سوبرمان)، لكن من المرجّح أن النجاح الشعبي الغامر لأغنية واحد واحد (على الأغلب أكثر أغاني أبيوسف سماعًا لليوم) دفع أبيوسف لتسمية الألبوم تيمنًا بها. تقوم واحد واحد على الكثير من اللوازم والجسور الغنائية، يخترقها مقطع راب منفرد مكتوب بجمل قصيرة. بنية الأغنية هذه مألوفة في أعمال كانيه وست، كأغاني: هولد ماي ليكر، وولفز وريبورن، ويؤدي استخدامها عادةً إلى منح مقطع الراب الوحيد وقعًا مضاعفًا.

تستمر إيقاعات التراب المجلجلة بالحضور في الأغنية، إلى جانب سطر إيقاعي يبدو أنه كان عينة جيتار كهربائي تم تعديلها ومعالجتها بشكلٍ كبير، وخليط من النويز والريفرب والأصوات المحيطة في الخلفية. يستمر أبيوسف بابتعاده عن الآدليبس، ويكتفي بمنح صوته أصداءً خفيفة في طبقات صوت مختلفة، حتى يصل إلى مقطع الراب الوحيد الذي يلقيه بصوت طبيعي ونقي: “أنا سوبرمان، أنا بطل / محدش هيغير القدر / قاطع معاكو، إنتوا قطر / بدعي عليكو في المطر.”

مش بَرُدْ هي أكثر أغاني الألبوم زخمًا نفسيًا. يدعي أبيوسف أنه هجر فتاة ما بطريقة مهينة وقاسية، وأنه ناقم عليها في ذات الوقت، فيما تفلت منه بعض العبارات التي قد تشي بالدونية: “مهما تلفي زي الغسالة / هطلع في الآخر بردو معاكي زبالة.” تمنح هذه التناقضات الأغنية عمقها العاطفي، وتجعل الاستماع إليها كالتنقيب في منجم اللاوعي لدى أبيوسف، أو حتى لدى المستمع نفسه.

موسيقيًا، يضع أبيوسف كل ما لديه على مستوى التأليف والتوزيع في مش برد، من إيقاعات التراب المجلجلة الخاصة به إلى الأصوات الإلكترونية الحالكة والغائرة. زيدوا على ذلك تغيير التوزيع والإيقاع الذي يمهِد لمقطع الراب الأخير، ويجعله أكثر أجزاء الأغنية ترقبًا. على كلٍ، يكشف هذا المقطع تحديدًا عن أحد أوجه ضعف الألبوم. يبدأ المقطع بصوت بايس سنث ناشز وغير مضغوط، يحدث تشوهًا مزعجًا في السمع. هذه المشاكل في الإتقان (mastering) وأحيانًا التوزيع والمزج تظهر على طول الألبوم، وتوضّح أثر غياب مهندس صوت محنّك يعرف كيف ينفّذ رؤية أبيوسف الإنتاجية.

واحد واحد كما يوحي اسمه هو ألبوم عن الوحدة، لكنه أيضًا ألبوم عن الرغبة بالبوح والمكاشفة “خدوا عيني / شوفوا بيها / هوريكو واحد واحد.” والكثير من المكاشفة التي يحملها الألبوم تلقائية وغير واعية. هناك ميول انعزالية جارفة تظهر في خلو الألبوم من أي تعاونات على مستوى الراب أو الإنتاج. هناك وحدة قارصة في التخلي عن الآدليبس وتسجيل أبيسوف لصوته عاريًا في معظم فرسات الألبوم الهامّة. وهناك فوضى عاطفية بين الحنين إلى الماضي المكسور والتطلع إلى المستقبل الأناني، ينقلها إلينا التوزيع الذي يتنقل بين البيانو الدافئ وعينات الصوت الصناعية الجافة.

تصدر الكثير من الألبومات العربية كل عام، لكن نادرًا ما تصدر ألبومات حقيقية لها روح، تتجاوز كونها مجرّد إصدار جماعي لأغانٍ جديدة. أغاني واحد واحد هي قوية كما هي، لكن عند جمعها سويةً، تتحول إلى أطراف وأجزاء من الرجل الخارق، أبيوسف، ومن أحد أكثر الألبومات العربية المعاصرة القادرة على ترك أثر ممتد.

المزيـــد علــى معـــازف