.
1
“فخرج عليهن وهن قعود يقطعن في الأترج، فلما رأينه ظنن أنه صنم زليخا الذي تعبده، وكن يسمعن به ويتمنين أن ينظرن إليه، فلما بدا لهن يوسف أكبرنه، أي أجللنه، وصرن شبه السُكارى والحيارى من كثرة تعجبهن، والإمعان في نظرهن إليه، ورُمن أن يقطعن ما في أيديهن، كما شرطت زليخا عليهن فصرن يقطعن أيديهن، فصارت الدماء تسيل في حجورهن، وهن لا يجدن ألمَ القطع ولا حدة السكاكين ولا وقع الدم على الأجساد، ويوسف يقول: ويحكن ماذا تصنعن بأنفسكن إنما أنا عبد من عبيد ربي، وزليخا تضحك مما تراه منهن وذهاب عقولهن، فلما غاب عن عيونهن رجعن إلى أنفسهن فقالت لهن زليخا: ويحكن، من لحظة واحدة فعلتن بأنفسكن هذا وأنا منذ سبع سنين أقاسي منه ما أقاسي وأخدمه على أطرف البنان، وهو لا يُعيرني طرفة ولا يلتفت نحوي” (1)
2
تيّمتني سورة يوسف منذ أول مرة سمعتها طفلًا بتجويد الشيخ المنشاوي، وهو يردّد “وغلقت الأبواب وقالت هيت لك” بالقراءات السبع، ويعلو بصوته ويهبط منوعًا ما بين “هَيتَ لك” و“هِئت لكَ ” و“هِيْتَ لك“، ومنغمًا ما بين مقامات مُختلفة. كانت “يوسف” هي القصة القرآنية الأولى التي أنتبه لها وأتابع تفاصيلها، وهي التحريم الأول كذلك. فعندما سألتُ الشيخ الذي كان يحفظني القرآن عن معنى “هَيتَ لكَ” التي رددها المنشاوي كثيرًا وبقراءات متعددة، نهاني عن الخوض في تلك الأسئلة.
سورة يوسف هي قصة العشق الوحيدة في القرآن، والقصة الأكثر إنسانيّة من دون مُعجزات خارقة سوى المعجزات البسيطة، صبر الأب الحزين و صبر الابن المحزون، وتفسير حلم البقرات السبع السمان والسبع العجاف، وهي القصة المصريّة في القرآن، التي سرح معها خيال المصريون فحكوا عن مقام للنبي بنيامين بحارة الروم في الدرب الأحمر. وعن بير يوسف الذي كان سجنه في القلعة، وهي الأكثر تفصيلًا على عكس بقية القصص المُجملة المنثورة ما بين سور عديدة. ولأن يوسف قصة العشق البشرية الوحيدة في القرآن، كان من الطبيعي أن تثيرُ رغبة القصاصين في قصها بصور مختلفة، بدءًا من الطبري في “تاريخ الرُسل والملوك” مرورًا بالثعالبي في “عرائس المجالس” إلى الأوسي في “زَهر الكمام“، كذلك التفسيرات الصوفية لحالة العشق البشري تلك في “يوسف وزُليخا” لعبد الرحمن الجامي.
3
في نهاية الشريط رقم 1، يغنّي شيخ مداحي الصعيد أحمد بَرين لظبية الأُنس، “يا ظبية الأنس مالك لم تيجي حالي، حبك سباني سلا جسمي مع حالي” ويمضي في إنشاده، ويستحلفها أن تحن إلى حاله وتذهب لترى كيف صار جسده من حبها، ثم في النهاية يوصيها “ولا تكوني كالتي قالت فذلكن الذي لمتنني فيه” وبانتقال مقامي عبر آهة طويلة وإنشاد بطريقة المؤذنين لكلمة “وراودته” ينتقل إلى سرد قصة حبُ زُليخا ليوسف الصديق بأسلوب الموّال القصصي.
4
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1234″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
نص الموال بإنشاد أحمد بَرين:
ولا تكوني كالتي قالت فذلكن الذي لمتنني فيه |
(ترديد البطانة ليل يا ليل يا عيوني يا ليل) |
فذلكن الذي لمتنني فيه وروادته |
|
وروادته وكادت أن تخلع كل ملابسها |
|
من يوم نظرتك جرى لي إيه ملابسها |
(ترديد : ملابسها ثم التفسير مالي بسها أو مالي بها) |
إيه جرى لي إيه جرى لي إيه جرى لي |
(مع ترديد البطانة) |
يا يوسف جرى لي إيه، إيه جرى لى |
(مع ترديد البطانة) |
من يوم نظرتك جرى إيه ملابسها |
|
شاغل فؤادي جرى لي إيه مالي أسها |
|
لولا اللي براني ليوسف كان ملابسها |
|
شاغل فؤادي وجايب لي مرض بدله |
|
قالت زلُيخا ليوسف هيت له البدله |
|
وجابت له بدلة وحلف يمينين ما لابسها |
(ترديد البطانة : ليل يا ليل يا ليل ع الباب أنا ذليل) |
زُليخا قالت مع الصديق لمتوني |
(ترديد: لمتوني لمتوني لمتوني) |
وعدمت في الحب بس صغار لمتوني |
|
حب ابن يعقوب عامل بس لمتوني |
(أي جسدي) |
اعمل عزومة وساعة عصر ياجوني |
(يأتون لي) |
دبحت ميتين بدنة وم الغزال ستين |
|
في حجرة الطبخ كانوا من البلد سِتين |
(أي سيدتين) |
شافوا ابن يعقوب وقطعت يدهم الاتنين |
|
قالت يا مساكين أهو اللي فيه لُمتوني |
(ترديد البطانة: ليل ليل ع الباب أنا ذليل) |
زُليخا قالت أيا خدام روح جيبه |
(تفسير المنشد: روحي جاباه) |
بتقول يا خُدام هات العطر روح جيبه |
(تفسير المنشد: ريح الجُبة ليوسف) |
عايزاه في الدار مثل كتاب روح جيبه |
(تفسير المنشد: راح احجبه) |
ليل يا ليل ليل يا ليل يا ليل |
(مع ترديد البطانة) |
بتقول يا خدام روح جيبه |
|
زليخا قالت يا خدام روح جيبه |
|
هاتهولي حالًا وهات العطر روح جيبه |
|
عايزاه في البيت مثل كتاب راح جيبه |
|
لو جبت يوسف هنعطيك دهب ماوعيش |
(تكرار مع تفسير: لو جبت يوسف هنعطي لك دهب 100 وعيش 100 دينار وعيش بيهم) |
دا ندرك عليا وتبقى مولتك ما وعيش |
(تكرار وتفسير: ماء وعيش بعد الدهب 100 وعيش تبقى مولتك (زادك) ما وعيش) |
من حب يوسف أنا معايا النظر ما وعيش |
(مع تكرار “لو جبت يوسف” بصحبة البطانة) |
عنده ما تبقيش يالا قوام روح جيبه |
(ترديد البطانة: ليل يا ليل ع الباب أنا ذليل) |
زُليخا قالت ليوسف قال لها مالك |
|
تعالى شرف وتبقى عندنا مالك |
|
قدت قميصه وجري م الهرب مالك |
|
حطوه في سجن في الضلمة ولا بيوعى |
|
فقال السجن أحسن من عذاب مالك |
(مالك خازن النار) |
5
ينتمي الشيخ أحمد برين، المولود في قرية القلعة مركز إسنا محافظة الأقصر (قنا سابقًا) في صعيد مصر، والمُلقب بشيخ مداحي الصعيد، إلى طائفة خاصة من ممارسي الموسيقا الدينيّة، هي طائفة الصييتة، أو مداحي الطار. وهي طائفة ظلت، حتى الآن، خارج المؤسسة الرسمية، فلم يتم تسجيل مدائحهم التي تؤدى في الموالد والمناسبات الدينية في الإذاعات، وظل إنتاجهم الفني مجهول خارج محيطهم من موالد ومناسبات دينية في الأرياف، حتى أدركتهم شرائط الكاسيت، ولم تُقسم تلك التسجيلات، غير الاحترافية، ما ينشدون إلى أغاني أو تراكات، فظلت بأسماء مرتجلة من قبيل الشريط رقم 1 وبرين في مولد الطوّاب أو البصري، وباستثناء تسجيلات متناثرة هنا أو هناك على شبكة الانترنت من مكتبات بعض الهواة المجهولين لهؤلاء المداحين يظل أكثر إنتاجهم خارج نتاج التسجيل والأرشفة.
القوام الأساسي لغناء الشيخ برين وأمثاله من مديحي الطار في الصعيد وفي وجه بحري، هو الموروث الشفاهي، سواء كان ديني أو دنيوي، وكثيرًا ما يخلط مداحي الطار الديني بالدنيوي، أو يحكون الديني من طرف الدنيوي، مثل الدخول إلى قصة موسى من باب لهفة أمه عليه في” قصة موسى والخضر” عند أحمد برين، او الدخول إلى سرد الهجرة النبوية عن طريق الصداقة والصحبة بين الرسول وأبو بكر الصديق عند غيره من المداحين.
يعتمد الشيخ برين في إنشاده على إيقاعات بسيطة أساسها الطار والدف والطبلة، وفي أحيان أخرى تدخل إيقاعات مرتجلة ناتجة عن نقر عبوات صفيح أو حتى أكواب زجاجية وملاعق، وهو إيقاع شعبي انتشر مع العمال الصعايدة أثناء قناة السويس وصار أساسيًا في إيقاعات السمسميّة، ويرتجل غيره من المداحين مثل الشيخ التوني بتوقيع السبحة على كوب زجاجي، الإيقاعات المستخدمة لا تخرج عن إيقاع الواحدة المتناغم مع كفوف البطانة أو طواف الذاكرين في حضرة المولد. والمقامات المستخدمة لا تخرج عن المقامات الأساسية المجموعة في عبارة “صُنع بسحر“، وهي الصبا والنهاوند والعجم والبياتي والسيكا والحجاز والراست، وينتقل المنشد بينها عن طريقة آهات طويلة، ويلحن الشيخ برين الآهة أحيانًا ليُذكر بتفاريد أم كلثوم ليناول البطانة المقام المُستخدم في الفقرة التالية، وغالبًا ما يبدأ الإنشاد بترتيل أبيات شعرية على البياتي أو الراست متبعًا أحكام تجويد القرآن. ثم تبدأ البطانة في العزف على الطبل والطار وتوقيع الكفوف، ويُلاحظ إن الشيخ برين ينتقل بالآهات والمقامات حين ينتقل من الحكايات الدنيوية إلى الحكايات الدينية، وغالبًا ما يكون الانتقال إلى مقام البياتي أو إلى الحُجاز المستخدم في الأذان الشائع في مصر.
6
ينتمي موال “يوسف وزُليخة” إلى جنس الموال القصصي الحُر، فهو لا يلتزم بعدد أبيات مُعين. ويتنوع ما بين الثُلاثي الشطرات والمُربع والخماسي، ويعتمد هذا الشكل على الجناس والتورية ما بين الكلمات وإدغام كلمات في بعضها، ثم إعادة تفسيرها، أو إعادة إكسابها معنى مختلف مثل “قالت” و“قيلت“. فواحدة بمعنى تكلمت والثانية بمعنى نامت وقت القيلولة، يبدأ الموال من باب حب المنشد لظبية الأُنس، وهو مدخل دنيوي للحكاية الدينية، التي ينشدها المنشد من باب دنيوي لا ديني، فهو يقتصر على حكاية الحُب من طرف زُليخا، التي نلتقي بها فجأة دون أي حكاية عن تاريخ يوسف الشخصي المروي في القرآن حتى وصوله إلى بيت العزيز إعتمادًا على أن القصة موروثة ومحفورة في وجدان السامعين ومن نافل القول ذكرها مرة أخرى، ويبدأ الانتقال إلى القصة من تنغيم على مقام الحُجاز لكلمة “وراودته” ثم يحكي بقية الحكاية، التي لا تخرج عن المروي في القرآن، ما بين الآيتين التي اقتبسهما المنشد في جملة “فذلكن الذي لمتنني فيه (الآية 32) وروادته (الآية 23). ويبدو الموال كأنه إجمال شعري للمُجمل النثري في القرآن، أو كأنه تعليق من الهامش العابد الشعبي على المتن الآلهي والرسمي، فالمنشد يلتزم بالأحداث لكنه لا يُلزم نفسه بترتيبها، فيضع المراودة عن النفس من قبل زُليخا والملامة ثم تقطيع الأيدي قبل قد القميص والذهاب إلى السجن، ويركز في رواية الموال على الجوانب البشرية لدى زُليخا بحيث يبدو يوسف مجرد مفعول به أو محبوب غائب مشتاق إليه، ويبدو ذلك واضحًا من الترديد “جرى لي إيه منك جرى لي إيه” أو “لُمتوني لمتوني لمتوني“، وكأن الإنشاد غرضه مختلف عن غرض الرواية القرآنية. فهنا يحدث الحُب، المدخل للحكاية وهو دومًا حُب المنشد المريد للنبي أو للولي المُكنى عنه بظبية الأُنس تارةً وبغيرها تارةً أخرى، ثم تحدث الملامة من قبل العُزال، وهنا يتضح الرابط مع طلب المُنشد في البداية من ظبية الأنس ألا تكون كالتي قالت {فذلكن الذي لمتنني فيه}، فلو حدث الوصال مع المحبوب “يوسف” ما استحق المُحب “زُليخا” الملامة، ولما أضطر المُحب لبرهان حق حبه بإظهاره للعوازل اللائي سيقطعن أيديهن “يشهدن على أنغسهن بالحق” عند رؤية المحبوب.
ينشد الشيخ بَرين الحكاية بصيغة دنيوية متماشية مع موروث السامعين الديني والدنيوي، فهو يحكي عن الكتاب المحجوب في البيت، وهو أمر معهود في الأرياف التي يندر فيها العلم مما يجعل صاحب الكتاب المحجوب صاحب سُلطة ما، أو ربما حجب الكتاب رمزًا للأحجبة والأدعية التي تكثر في الموالد التي يحدث فيها الإنشاد، وذبح المئتي بدنة كما هو معهود من أهل الغنى في الأرياف لزوار المولد. كذلك يحكي المنشد عن إحضار زُليخا للبدلة وتعطير الجبة ليوسف، وغيرها من طقوس تقرب المُحب لحبيبه، أو في التأويل الصوفي من طقوس تقرب المُريد إلى الشيخ أو الولي.
وينتهي الموال بخماسية الشطرات تلخص القصة من مراودة زُليخا ليوسف عن نفسه واستعصامه ثم إلقائه في السجن، وترديد البطانة “ليل يا ليل ع الباب أنا ذليل“. فالمُنشد في محبة النبي أو محبة الولي صاحب المولد مثل زليخا لا يقدر على الوصال، والولي مثل يوسف حبيس مرقده أو مقامه وحبيس الموت لا يقدر على وصول محبيه. وينتهي الموال ولا تنتهي الأسئلة، هل هو الموال الوحيد الخاص بيوسف في محصول المداحين، أم هو جزء من سيرة شعبية كاملة ليوسف الصديق؟ هل نعثر يومًا على سيرة شعبية تروي من أول سفر التكوين حتى وفاة الرسول فتكون عرائس المجالس الشعبيّة؟ هل يكون موال “يوسف وزُليخا” وقصة “سيدنا موسى والخضر” جزء من هذه السيرة الشعبية المفترضة أم هما مجرد إرتجال شعبي من شيخ المداحين أحمد برين؟ وأسئلة أخرى كثيرة لا تنتهي عند سماع شيخ المداحين، لا تنتهي الأسئلة ولا ينتهي السُكر والطرب.
7
“فأذنت لهن في الخُلوة به طمعًا في أن يُملنه إليها، فجعلت كل واحدة منهن إذا خلت به تدعوه إلى نفسها وتشكو إليه وجدها، فقال يوسف: يارب كانت واحدة فصرن جماعة {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}” (2)
(1) زهر الكِمام بأخبار سيدنا يوسف الصديق عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام، للمؤرخ عمر بن إبراهيم الأوسي، مطبعة البابي الحلبي، 1950.
(2) زهر الكمام.