بياتريس ديلون وركأراوند معازف
مراجعات

ووركأراوند | بياتريس ديلون

رامي أبادير ۱٦/۰۲/۲۰۲۰

عند إلقاء نظرة شاملة، ومحاولة حصر الموسيقى الإلكترونية التي تسعى إلى التجريب والتجديد على المستوى السمعي والراقص في السنوات الأخيرة، نتبين جماليات مشتركة على صعيد جودة الأصوات والبنية وسرعة الإيقاع. تشترك هذه الموسيقى في جماليات مستقبلية، متأثرة بموجة السايبربَنك الثمانيناتية التي تتجلى في أصوات ميكانيكية صادمة، وسنثات حادة ذات أبعاد سينمائية، مزوّدة بروح الخيال العلمي التي تميل إلى الطابع الدستوبي، وإن كانت في أحيان كثيرة تتطلع إلى مستقبل أكثر أملًا. يضاف إلى ذلك في أحيان كثيرة المساحات الصوتية الواسعة المشبعة بالريفرب والمؤثرات العريضة، لإضفاء صوت أكثر ملحمية.

بصرف النظر عن وجود بعد اجتماعي أو سياسي من عدمه في إختيار تلك الأصوات التي باتت تتنقل من منتجٍ إلى آخر، وتفرض نفسها من خلال تداول باقات العينات الصوتية على الإنترنت، تنغمز هذه الموجة في التفكيك، وتسلك أسلوبًا متشظيًا يرفض أى بنية متوقعة للحاضر، مؤكدةً على عنصر الخيال والبُعد التسارعي التي تعود جذوره للسايبربَنك. يضاف إلى ذلك دفع سرعة الإيقاع والتلاعب به، لزيادة جرعة عدم الاستقرار والنشوة بالأخص في التراكات الراقصة. تبنت العديد من شركات الإنتاج المستقلة حول العالم جماليات هذه الموسيقى، بالإضافة إلى سطوع نجمها في العديد من المهرجانات. كما نرى في الآونة الأخيرة انغماس العديد من المنتجين في ذلك الاتجاه الذي فرض نفسه كصوتٍ جديد ومنعش على الساحة التجريبية، وكخيار جذاب لدفع الموسيقى الإلكترونية إلى الأمام.

يأتي ألبوم ووركأرواند لـ بياتريس ديلون الصادر عبر تسجيلات بان الألمانية، لإعلان صوتٍ بديل لذلك الصوت الضارب، وإن صح القول، نفيه. فمنذ صدور هذا الألبوم، ارتفعت مبيعاته بشكلٍ جنوني، بالرغم من احتوائه عكس كل تلك العناصر للموسيقى الإلكترونية المفككة التي تتبعها تسجيلات بان نفسها. في ووركأراوند، تتبع ديلون بجرأة اتجاهًا شخصيًا، مدعمةً إياه بالعديد من التعاونات، غير مبالية بالموجة السائدة بصوتها التكثيري.

تستمد بياتريس ديلون جمالياتها عادةً من الموسيقى التقليلية، والتي اقتحمت بها المشهد منذ ألبومها القصير الأول بلوز دانس الصادر منذ ستة أعوام، والذي تميّز بصوتٍ يجمع بين الدَب والمحيط والآي دي إم في مطلع الألفية، صوت لا يزال واضحًا طوال مسيرتها حتى الآن. أعقبت ديلون بلوز دانس بعدة تعاونات مع روبرت كليرفو بدت كأعمال إلكترو أكوستيك معاصرة، تميل إلى العزف الحر والتجريب الإيقاعي المطعم بالأصوات الإلكترونية الدقيقة.

يأتي ووركأراوند كحصر لكل العناصر الصوتية والأساليب الإنتاجية التي ارتكزت عليها بياتريس ديلون في السابق، مكثفةًَ إياها بثقة بصوتٍ أكثر لمعانًا، ومقطوعاتٍ سلسة ذات ألحان جذابة مزوّدة بعينات موسيقية لاثني عشر موسيقي اشتركوا معها على مدار الألبوم. تعتمد ديلون على سرعة إيقاع موحّدة، ١٥٠ بي بي إم، والتي تقترن بأنواع موسيقية أكثر صخبًا كالتكنو والجانغل والإلكترونية المفككة، ليسفر ذلك عن صوت غير مألوف بالنسبة لهذه السرعة. يأتي اختيارها هذا كمناورة تتيح من خلالها التنقل بين نصف سرعة الإيقاع والسرعة الأساسية، فاتحةً المساحة للإيقاعات المتشابكة والموازين غير المعتادة، كما يتضح في ميزان ٥/٤ لـ ووركأراوند ٢.

بالرغم من السرعة العالية، تنجح ديلون في عدم تكدس وتداخل الأصوات. يحدث ذلك بفضل تصميم الأصوات التقليلي المتقن، وتوحيد الخامات والاستعانة بالمؤثرات بأقل شكل ممكن، ما يجعل الألبوم أكثر تماسكًا، بصوته الجاف وخامات سنثاته المعدنية التي تتناغم مع أصوات آلات الموسيقيين المشاركين. يضاف إلى ذلك خلقها لمساحات واسعة من الفضاء الصوتي، ففي حين يسعى العديد من المنتجين إلى خامات مركبة وكثيفة، تظهر ديلون كجراح يستأصل تلك الطبقات الصوتية الزائدة، ليكتفي المستمع بأقل قدر ممكن من الأصوات الهادئة والساحرة.

يأتي ووركأَراوند ٢ كأفضل تراك في لألبوم، بتدفقه الديناميكي وألحانه العذبة الذي تقودها الكوردات المتقطعة لديلون، وإيقاعها المتشابك وسطور الساكس لـ فيريتي سوسمن، التي يتجاوب معها جيتار جوني لام وسِنث لوريل هالو، التي تتلاعب بعينة غنائية لها بالفوكودر. بالرغم من أسلوبه التقليلي وقلة المؤثرات، إلا أن التراك غني في أفكاره وعناصره الصوتية وتغيره المستمر، يكسره فاصل من البايس الثمانيناتي المزوّد بالكورس.

يظهر دور عازفة التشيلو لوسي ريلتون في أكثر من تراك، بدايةً من ووركأراوند ٣ الذي تعتمد فيه على خامات محشرجة تستخدمها ديلون كعينات متشظية، على خلفية كوردات الدَب التي تختلف في طولها وألوانها، وإخضاعها للـ ديلاي فقط، ليكشف التراك عن صوت يأتي من غرفة مكتومة، وهي السمة الطاغية على الألبوم. في ووركأراوند ٥، تستعرض ريلتون أسلوبها التجريبي، بينما تكتفي ديلون بصوت كاو بِل قادم من الـ ٨٠٨، وتظهر مرة أخرى في منتصف ووركأراوند ٧ بإيقاعه الراقص الذي يكشف عن عازف الكورا السنغالي كديالي كوياتي. نلاحظ في ذلك التراك تأثر ديلون بصوت إس إن دي / مارك فل من خلال الأصوات الإيقاعية الدقيقة والمكتومة، بالإضافة إلى توظيف سنث الإف إم بخامته المعدنية. يتضح ذلك الصوت بقوة أيضًا في ووركاراوند ٤ بميزانه غير التقليدي الذي يعتمد على كوردين فقط، تتناوب ديلون بين لعبهم بشكل متقطع (staccato) وممطوط مرة أخرى، وهو ما تفعله أيضًا في ووركأراوند ٨.

يقدم عازف الطبلة كولجيت بهامرا أحد أهم تعاونات الألبوم، حيث تقوم ديلون بتوظيف عيناته المسجلة بحرفية كما في ووركأراوند ١ و٣ وكلاود سترامز، التراك الأكثر تقليلية في الألبوم والذي يحتوي على تغيرات طفيفة تكسر أي إحساس بالتكرار، ويمكن استماعه كحلقة مخدرة لا نهائية. أخيرًا، يأتي سكوير فيفث كاسترجاع لووركأراوند ٣، مؤكدًا على عنصر الدَب وتلخيص جميع عناصر الألبوم. أما باقية التراكات فيمكن اعتبارها كمسودات لتراكات غير مكتملة، وهو ما يعد الجزء الأضعف في الألبوم، أو على أحسن الأحوال كفواصل بين التراكات.

ووركأراوند ألبوم صلب ومتماسك من جميع عناصره، يمكن الاستماع له كوصلة حية واحدة منحوتة ببراعة. توفق ديلون بين العنصر الإلكتروني، والعنصر البشري للعينات الآلاتية الذي توظفها في لحظات مثالية بتصميم صوتي دقيق كعملية جراحية مريحة وسلسة خصصت للاستجمام. تخلق ديلون من خلال هذا الإصدار بديلًا للصوت الإلكتروني الغامر والكثيف الذي بات طاغيًا في الآونة الأخيرة، فارضة جمالياتها التقليلية بإيقاعاتها اللعوبة وبنية موسيقاها المستقرة (أو غير المفككة) على المشهد الإلكتروني. ووركأراوند هو تفوق الشخصي على السائد، وعلى فرض قيود جمالية بشكل استراتيجي.

المزيـــد علــى معـــازف