fbpx .

جيب مؤخرة مليء بالويسكي |عن آر إل بيرنسايد

علي لطيف ۲۰۱٦/۰٤/۲۸

وقف رجل زنجي قبل ما تستعجلوا وتهجموا علينا. كلمة زنجي ما الها معنى عنصري بحد ذاتها. الأمريكان البيض العنصريين حوروها واستخدموها كإساءة بس هاي مشكلتهم ولغتهم ولا تؤثر على الاستخدام العربي اللي ما فيه تحامل عنصري بهاي الكلمة بالذات طويل في منتصف الثلاثينات أمام مدخل أقدم سجن في ميسيسبي، بارشمان فارم يعرف أيضاً بالسجن بلا جدران مع أنه من السجون مشددة الحراسة. كان صباحاً هادئاً نهاية خمسينات القرن الماضي جنوب مقاطعة سنفلاور.

حُراً تحت سماء ميسيسبي، عادت أفكاره إلى شيكاغو. كان قد انتقل هناك أملاً في الحصول على حياة أفضل، بعيداً عن مزارع القطن ورتابة الجنوب وعنصريته. هناك التقى بوالده الذي تركه طفلاً في بيت قديم في أرياف مقاطعة لافاييتي في ميسيسبي. عاش معه كأن لا تاريخ بينهما، كأنه لم يهجره مع والدته ليبدأ حياة جديدة لوحده في شيكاغو. قضى أيضاً وقتاً ثميناً مع أخويه اللذين هاجرا، مثلما يطمح أن يفعل معظم رجال ميسيسيبي الزنوج.

خلال أسابيع حصل على عمل في مصنع معادن صباحاً، ومساءً، كان الأمر يبدو كالحلم وهو يسير برفقة قريبه مادي ووترز في شارع ماكسويل الشهير الذي عزف فيه رجال البلوز الصغار والكبار والحالمين من تشاك بيري أحد عمالقة البلوز وآباء الروك آند الرول. تأثرت البيتلز بآغانيه إلى حدّ سرقة إحداها جزئياً. ذكر آر إل برنسايد في مقابله معه أنه قد قابل تشاك بيري في شيكاغو قبل شهرته، وأن هذا الأخير كان متشرداً ينام في سيارته أغلب الليالي، إلى ليتل والتر وجيمي روجرز مع فرقهم على الأرصفة وفي الحانات.

كانت أموره تسير على ما يرام في شيكاغو. وجد عملاً بسرعة ووجد طريقه إلى مشهد البلوز الذي كان في ذروته آنذاك. وفوق هذا كله، كان قد تأكد من فكرة راودته طول عمره، وهي أن يصبح هو نفسه رجل بلوز.

لكن فجأة انهار كل شيء. قُتل والده في ذات صباح على باب محل كحوليات توجه إليه بعد أن استلم راتبه. طعنوه ٢٥ إلى ٣٠ طعنة. بعدها بشهرين أو ثلاثة، قُتل أخوه الطبيب بسبب تورطه في بيع المخدرات. ثم قُتل أخوه الآخر بعدها بوقت قصير في أحداث غامضة. قُتل عمه عندما وجده زوج إحداهن في سريره. بعدها قُتل عمه الآخر.

حدث كل هذا في أقل من عام واحد. أصبح يسير في الطرقات ليلاً ثملاً، مهموماً. عندما يتعب من السير يبحث عن زاوية مظلمة وينام. حاول أن يتحمل لكنه لم يستطع. صعبة هذه الظروف على أي أحد. هذه المدينة التي كان يقع في غرامها أصبحت فجأة مقبرة جماعية لأحبائه. لم يعد لديه شيء فيها. تركها بعد ثلاث سنوات وعاد إلى الجنوب، إلى هولي سبرينغز، ميسيسبي.

في ميسيسبي تزوج من أخت صديقه آليس ماي، رفيقة العمر. مسؤوليته الجديدة كزوج وأب جعلته يبحث عن أي عمل من أجل لقمة العيش، فعاد إلى مزارع القطن التي هرب منها قبل ثلاثة أعوام. وجد عملاً كسائق جرار لرجل أبيض وانساق في حياة رتيبة. لم يفقد شغفه بالبلوز، لكنه تراجع عنه خطوة أو اثنتين.

لم أرد قتل أحد فقط أردت أن أطلق النار على ابن العاهرة. موته أمر بينه وبين الرب

قبل عام أو أكثر قليلاً من وقوف روبرت أمام سجن بارشمان فارم تحت شمس ميسيسبي الحارقة، كان في جيبه ٤٠٠ دولار ربحهم من لعبة نرد. تلك الليلة، تسلل رجل إلى منزله ليسرق المال الذي خسره. لم تكن تلك المواجهة الأولى له مع هذا الرجل. كان مقامراً سيئاً وخاسراً أسوأ، كما أنه سبب ازعاجاً دائماً لروبرت وحاول في عدة مرات إرغامه على ترك منزله. عندما ضبطه يحاول التسلل من النافذة ليسرق أرباحه أطلق عليه النار. رصاصة في رأسه وأخرى في صدره، دفاعاً عن النفس كما أوضح أمام القاضي.

حكمت عليه المحكمة بالسجن خمسة أعوام، لكنه أصبح حراً طليقاً بعد ستة أشهر فقط بسبب توسط الرجل الأبيض صاحب الجرار لدى رجال مهمين آخرين. كان الرجل بحاجة إلى مهارة روبرت، الذي عرف لاحقاً بـ آر إل، في قيادة الجرارات في مزارع القطن، ومقتل زنجي لن يعطل مصالح الرجال البيض. دون دراية، أدى هذا الأبيض بتخدله خدمة كبيرة للبلوز ومحبيه في كل مكان.

العودة إلى البلوز

وصل المؤرخ والباحث الموسيقي جورج ميتشل وزوجته كاثي على متن سيارتهم البيتل الصغيرة إلى ميسيسبي مع قليل من المال وكاميرا ٣٥ مللي مُعارة وآلة تسجيل وجيتار هوائي. كان ميتشل مصمماً على تسجيل الهل كنتري بلوز. في البداية قام بتسجيل فرد ماكدويل، الذي كان آر إل يتسلل ليلاً في طفولته لسماع عزفه، حتى شبّ وانضم هو نفسه لفرقة ماكدويل كعازف مساعد. ذكر ميتشل في مذكرات رحلته إلى ميسيسبي أنه عندما سأل ماكدويل عن إذا كان هناك أي عازفي بلوز يستحقون التسجيل في الجوار لم يقل له عن آر إل. لكن شخصاً بموهبة آر إل لا يمكن اخفاؤه طويلاً، خاصة عن مستقص عنيد مثل ميتشل.

في إحدى ليالي مغامرة ميتشل في شمال ميسيسبي، وبعد الانتهاء من جلسة لمدة ثلاث ساعات لتسجيل موسيقى فرد ماكدويل واوذا ترنر   من آخر رجال بلوز الفايف والدرامز، وأحد أصدقاء آر إل برنسايد حينها، قام جورج ميتشل بتسجيل بعض من أعمال ترنر في زيارته لشمال ميسيسبي. يعد الفايف وتعدد آلات الدرامز المنفصلة جزء من موسيقى الهل كنتري بلوز الخاصة بشمال ميسيسبي. إن شاهدت فيلم مارتن سكورسيزي جانغز أف نيويورك فلابد أنك سمعت موسيقي اوذا ترنر.، وضع أوذا آلاته أرضاً بين سطول الشحم البلاستيكية التي كانت زوجة ماكدويل تستعملها لوضع أزهارها، وتقدم إلى الشرفة التي جلس عليها ميتشل وزوجته وقال له، إذا أردت شخصاً يستطيع لعب البلوز حقاً، فأنا أدلك عليه.”

في اليوم التالي التقى اوذا بميتشل وزوجته وقادهما إلى آر إل. عندما وصلوا لم يجدوه في البيت، قالت لهم آليس أنه في الحقل يقطف الذرة. ظنَّ ميتشل أن آر إل مثله مثل الفلاحين الزنوج الآخرين في ميسيسبي، يقطف الذرة بيديه، لكنه وجده يقود الجرار مع ابنيه الذيّن ضحكا على مشهد ميتشل وزوجته وهما واقفيّن ينظران إليهم.

اتفقوا جميعاً على اللقاء تلك الليلة. عندما وصل ميتشل وزوجته، وجدوا آر إل وآليس واوذا ترنر وبعض الأصدقاء جالسين ينتظرونهم في الشرفة. أعطى جورج جيتاره الهوائي لآر إل وانتظره ليدوزنه. لم يملك آر إل حينها إلا جيتارته الكهربائية الرخيصة. بدأ آر إل بعزف أغاني البلوز التراثية والغناء وأخذ أطفاله العشرة يطقطقون أصابعهم مع الموسيقى كأنهم آلالات إيقاعية ضبطها والدهم. لم يخب ظنَّ ميتشل، فقام بتسجيل موسيقى آر إل تلك الليلة إلى الثالثة صباحاً، ثم رحل ثملاً وراضياً بعدها ليكمل مغامرة بحثه في دلتا الميسيسبي عن عازفين آخرين. لم تصدر تسجيلات هذه الأغاني كاملةً إلا لاحقاً، بعد ما يقارب ثلاثين سنة عن شركة فات بوسوم.

بعد ما يقارب عاميّن من تلك الليلة مع ميتشل، ظهر هذا الأخير مجدداً أمام بيت آر إل ومعه ٢٠٠ دولار. أخبره أن هذا المال له، فقد اختار ميتشل بعض الأغاني الذي قام بتسجيلها مع آر إل لتكون على ألبوم متنوع لعدة عازفين قام ميتشل بتسجيلهم في دلتا الميسيسبي ليصدر عن شركة آرهولي للتسجيل Arhoolie Records في ذات العام.

كان آر إل قد اكتشف قدرته على العزف جيداً في حفلة محلية في الدلتا قبل مجيء ميتشل بأعوام. ذلك اليوم كان سون هيبلر عازف بلوز محلي وصديق آر إل حينها، ترك عزف البلوز لاحقاً واتجه إلى موسيقى الغوسبل قد تعب من العزف بعد ساعات وساعات، فترك الشرفة ليرتاح قليلاً. كان آر إل ثملاً وقرر اعتلاء الشرفة ومحاولة العزف. عزف بعض أغاني جون لي هوكر، وبشكل لم يتوقعه، أثار إعجاب الحضور بشدة.

منذ تلك الليلة مع سون هيبلر منتصف الستينات، بدأ آر إل امتهان البلوز في ميسيسبي وخارجها في وقت فراغه. كان يعزف في حانة أو حفلة في ميسيسبي أو ممفس مقابل أقل من ١٠ دولارات وزجاجة ويسكي. كان يرحل غالباً ليومين أو ثلاثة مع أصدقائه ثم يعود للبيت. قابل آر إل الكثير من رجال البلوز في ترحاله مثل روبرت جونيور لوكوود  أحد أصدقاء آر إل. التقى به أثناء إحدى رحلاته في تجمع لرجال البلوز في قرية هيلينا في ولاية آركنساس جنوب أمريكا، أصبحا صديقيّن من حينها. لوكوود كان الشخص الوحيد الذي تعلم البلوز من روبرت جونسون مباشرةً. سُميّ بسبب ذلك روبرت جونيور لوكوود بدلاً من اسمه الحقيقي روبرت لوكوود جونيور، كان يمقت اسمه الفنيعلى سبيل المثال، واستمع إلى كثيرٍ من رجال البلوز الآخرين، منهم بي بي كينغ الذي رآه جالساً وراء كوب حديدي يعزف على جيتاره في شارع بيلي في ممفس من أجل بعض المال.

سرعان ما ذاع صيت آر إل وانهالت عليه الاتصالات والدعوات. كانت أول دعوة قبلها من مونتريال عام ١٩٦٩، للعزف بعد جون لي هوكر ولايتننج هوبكنز  من تكساس. عند سماع أغاني لايتننّ أول ما يمكن ملاحظته بجانب عفويّته المنضبطة في الانتقال بالجيتارة من حيّز إلى آخر في نفس سياق الأغنية والحرية التي يخلقها لنفسه بذلك ليستغلها جيداً في الأماكن المناسبة، هو قصيدته الملقاة المبتكرة لا المبتذلة، الثريّة لا الفقيرة، ومن الواضح تماماً عند سماع موسيقى بوب ديلان تأثير لايتتنّ فيها وصل آر إل متأخراً تلك الليلة. قال إنه ضاع في الطريق. كان شبه ثمل. متوتر. قلق. كانت تلك المرة الأولى له أمام جمهور من هذا الحجم. نادوا على اسمه “آر إل برنسايد … من كولدووتر ميسيسبي!”

صعد آر إل على الخشبة وعزف أغان لهوكر وأخرى لهوبكنز. كان متوتراً وهو يقف ثملاً أمام الجمهور. بعد نصف الأغنية الأولى بدأ الناس يرقصون ويغنون. أراحه ذلك وأطلق العنان لنفسه، وأشعل المكان بما لعبه من جاز.

دخل آر. إل غرفة تغيير الملابس بعد وصلته ووجد هوكر وهوبكنز. لم يقابلهما قط في حياته. فوجئ لما وجدهما أمامه، فقد كان يعزف موسيقاهم في الخارج، بجانب كونه أحد كبار المعجبين بهمايا رجل، يا برنسايد، لا أعرف أي أحد يمكنه فعل ما فعلت إلا نحن. لا أمانع إن قام أي أحد بعزف موسيقاي على شرط أن يكون مثلما فعلت أنت.” قال له هوكر ثم ضحك. ضحك آر إل وهو يتذكر هذه القصة التي عنت له الكثير.

بعد مونتريال حصل آر إل على فرصة للعزف مع فرقة ميسيسبي دلتا بلوز في عدة جولات ومهرجانات في أوروبا. كان يعزف وحيداً على المسرح لربع ساعة ثم يُكمل باقي الحفلة كعازف جيتار مع الفرقة. أخذ ٢٠٠ دولار في الأسبوع في البداية، ثم اكتشف أنه يستطيع تقديم وصلة لوحده مقابل المزيد من المال. أصبح يزور كل أنحاء أوروبا. وحيداً في البداية ثم مع أبنائه الذين أنشأ معهم فرقة The Sound Machine. كانت تلك أول مرة يعزف فيها آر إل موسيقاه ومع فرقته.

في نهاية السبعينات، أصدر آر إل وفرقته أول ألبوم باسم Sound Machine Groove. لم يصدر ويوزع الألبوم في أمريكا إلا لاحقاً في عام ٢٠٠١، لكنه وزّع كإصدار محدود في أوروبا بداية الثمانينات تزامناً مع جولات آر إل وفرقته.

كيف يحبون هذه الموسيقى وهم لا يتكلمون الانجليزية؟” سأل آر إل أحد المسؤولين عندما قابلته مجموعة من المعجبين الذين صرخوا باسمه.

إنه الإيقاع يا رجل، إنه إيقاع أغانيك!”

كانت الجماهير الأوروبية تُردد مقطع “Well Well Well” من أغنية Goin’ Away Baby مع كل إعلان لبداية وصلة آر إل وفرقته. يصعد آر إل وفرقته إلى المسرح ويبدأ الرقص والصراخ والفوضى. أعيد دمج ألحان الأغنية وعدة أغاني مشهورة آخرى لآر إل في ألبوم A Bothered Mind عام ٢٠٠٤ عن شركة فات بوسوم التي سنتحدث عنها لاحقاً والتي سجّل فيها آر إل أفضل ألبوماته ونال فيها ذروة شهرته حتى آخر أعوام حياته. صدَر ألبوم آخر بعنوان Well Well Well أيضاً عام ٢٠٠١ يحوي ١٨ أغنية سجلت ما بين ١٩٨٦ و١٩٩٣ في أماكن مختلفة منها بيت صغير في نيو أورلينز ومسارح مدينة لاهاي في هولندا.

https://www.youtube.com/watch?v=Y6bB8U1RJuo

فات بوسوم بلوز

كان عصر البلوز الذهبي في الستينات والسبعينات قد انتهى مع ظهور الروك آند الرول القادم من أوروبا كامتداد للبلوز والآر إن بي، والذي أحدث ثورة موسيقية مهيمنة في آخر عقود القرن الماضي. أصبح من الصعب على رجال البلوز القدامى التنافس مع فرق الروك آند الرول التي جذبت جماهير يافعة بموسيقى حيوية وحديثة عالجت قضايا سياسية طارئة تلك الأيام. لم يبد أن هناك فرصة حقيقية لآر إل تُمكنه من تسجيل موسيقاه وتظهره كأحد عمالقة البلوز، فبجانب جولاته المتعددة في أوروبا ووصلاته في مهرجانات البلوز الموسمية وعزفه في الحانات المحلية، بالإضافة إلى ألبوم واحد وزع بشكل محدود في أوروبا، لم تتعدى شهرة آر إل في الولايات المتحدة مكان سكنه وبعض حانات ميسيسبي.

لكن حظوظ آر إل تغيرت عندما تعرف على عجوز آخر يدعى جونيور كيمبروفي تلك الأعوام، كانت قد عادت الحانات الريفية Juke Joints التي أقامها سكان ميسيسبي الزنوج أمام أفنية منازلهم ومقطوراتهم القديمة على مساحات أراضيهم الشاسعة المقفرة كما كانت بعد انتهاء العبودية.  كان الناس يتجمعون ليلاً في هذه الحانات، يثملون ويغنون ويرقصون ويتشاجرون ويقامرون ويستمعون للبلوز. هذه الحانات الريفية كانت بالأصل أماكن أقامها الزنوج في الجنوب من أجل الترفيه بعد أيام العمل الطويلة في الحقول. يُعتقد أن أصل كلمة Juke أتى من كلمة Joog في لغة الغولا للأفارقة الأمريكيين والتي تعني الفوضى. يُعتقد أيضاً أن موسيقى البلوز ظهرت من تلك الأماكن الفوضويّة التي انتشرت خاصةً في دلتا الميسيسبي، أرض البلوز.

أنشأ آر إل حانة له أسماها قصر برنسايد مع أفراد عائلته في الثمانينات، لكن لم يطل الأمر، إذ قامت الشرطة بإغلاقها ضمن حملتهم الموسعة ضد تفشي الكراك في الكثير من الولايات الأمريكية. بعدها انتقل آر إل وعائلته إلى السكن قرب بيت جونير كيمبرو الذي كان يدير حانة جونيور بلايس في كنيسة مهجورة بالقرب من هولي سبرينغز، ميسيسبي.

لم يكن قد مضى وقت طويل على بدء آر إل العزف مع جونيور عندما التقى “شخصاً يفهم الأمر”. روبرت بالمر، أستاذ علم موسيقى الشعوب في جامعة ميسيسبي في أكسفورد. كان بالمر يتجول باحثاً عن ما تبقى من عازفي بلوز ليصوّر معهم فيلماً وثائقياً مبنياً على كتابه Deep Blues مع صديقه المخرج روبرت موجي Robert Mugge. التقى بالمر بـ آر إل صباح يوم أحد أمام الكنيسة. لم يكن آر إل خارجاً منها. تحدثا وأخبره بالمر أنه سيعود غداً مع الكاميرا للقائه وجونيور.

في تلك الأيام كان هناك رجل آخر مهتم بالعجوز آر إل وصديقه جونيور اسمه ماثيو جونسون. ابن ٢٢ عاماً، محتال، عدمي، مندفع، حاد الطبع، ثمل، طائش، والرجل وراء شركة تسجيل فات بوسوم. كان طالباً في جامعة ميسيسبي وكاتباً في مجلة Living Blues. عندما كان يُسأل عن سبب إنشاء فات بوسوم كان جونسون يجيب بانزعاج: “نحن في خضم إعادة إحياء البلوز، وهنالك العديد من الرجال المحليين العظماء هنا الذين لم ينالوا أبداً أية فرصة لتسجيل أول اسطوانة لهم!”

ولدت فات بوسوم بـ ٤٠٠ دولار فقط من منحة جونسون الدراسية الذي لم يعلم أي شيء عن كيف تدار شركة تسجيل، لكنه كان مقتنعاً أن هذا هو الصواب الوحيد الذي يمكنه فعله بحياته، وهو ما قد يمكنه إنقاذه هو نفسه. ترك الدراسة وتفرغ للعمل في إعادة إحياء البلوز في ميسيسبي مع محرر مجلته بيتر لي الذي لم يستمر في العمل معه إلا عاميّن.

إنه زواج شتّجن، وحده البلوز يُحدثه” يقول مايك روبن في مقالة عن فات بوسوم عام ١٩٩٧ في مجلة Spin، “شاب أبيض محتال ينشئ متجراً مع موسيقيين سبعينيين عنيدين في ولاية تاريخها العرقي وصمة عار وطنية. النتيجة هي: شركة فات بوسوم للتسجيل. شركة البلوز الوحيدة التي لها أهمية.”

صدَر ألبوم A Bad Luck City عام ١٩٩٢ وآر إل عمره ٦٦ عاماً. أول ألبوم يصدر ويوزع في أمريكا لآر إل وفرقته The Sound Machine، وأول ألبوم لـ فات بوسوم. بعدها تم إصدار الألبوم الأول لجونيور كومبرو All Night Long.

https://www.youtube.com/watch?v=N4by8BLkdDw

لم يلاق ألبوم آر إل استحسان النقاد، على عكس ألبوم جونيور الذي اعتبر من أفضل ألبومات البلوز لعام ١٩٩٢. بعد عرض الفيلم الوثائقي Deep Blues الذي اهتم خصيصاً بحياة آر إل وكيمبرو، ذاع صيت آر إل وبدأت عروض الجولات الموسيقية تنهال عليه. لم تكن تلك آخر مرة يرى فيها بالمر الذي عاد ليكون الراعي الناصح لفات بوسوم وماثيو جونسون وموسيقى آر إل. لم يكن الأمر مجرد مشروع انتهى بانتهاء تصوير فيلمه الوثائقي. كان بالمر هو الشخص الذي شجع جونسون على إنشاء فات بوسوم، والناصح الأول له. “كل شيء تعلمته، تعلمته من بالمر، فقط عن طريق التسكع معه طوال الوقت. إنه من أروع وأعظم الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي.” يقول جونسون.

بعد إصدار الألبوم الأول لـ آر إل والأول لـ فات بوسوم، أخذ بالمر دور المنتج الرئيسي لفات بوسوم وألبوم آر إل الجديد Too Bad Jim الذي صدر عام ١٩٩٤ إلى جانب ألبوم كيمبرو الجديد وألبومات آخرى لفنانين آخرين مثل بول واين جونز وسيديل دايفز. نال ألبوم آر إل الثاني قبولاً أكبر من قبل النقاد وشريحة أكبر من المستمعين.

بعد أحد عروض الفيلم الوثائقي Deep Blues في نيويورك، أثار آر إل اهتمام جون سبنسر الذي اتصل بفات بوسوم وتعاقد مع آر إل ليرافقه مع فرقته Jon Spencer Blues Explosion ويفتتح العرض ويكمله معهم كعازف في الفرقة.

https://www.youtube.com/watch?v=tZqOEppwprY

كانت فات بوسوم قد بدأت تعاني من متاعب متوقعة لأي مشروع مستقل ومختلف كهذا زي معازف يعني. كان من الواضح أنه لم تكن توجد خطة واضحة المعالم لدى مديرها الشاب. كل ما كان لديه هو رؤية حول مغزى قيام مشروع كهذا، وهو تسجيل كل البلوز الذي لم يُسمع بعد في ميسيسبي. كانت فات بوسوم غارقة في الديون، وفي عقود صعبة مع فناني بلوز متمردين وعنيدين مثل جونيور كيمبرو وآر إل، وثمالى صعاليك مثل بول واينجونز وتيمودل فورد رجل بلوز لديه عدة ألبومات مع فات بوسوم، لا يتذكر بالتحديد في أي سنة وُلد. حُكم على تي- مودل فورد بتهمة القتل المتعمد لمدة عشرة أعوام، لكنه خرج بعد عامين. له مشاكل كثيرة مع الشرطة. وعجوز مُقعد يعزف بيدين شبه مشلولتين بسبب إصابته بالبوليو في صغره، سيديل دايفز.

خلال أقل من ٥ أعوام وبالرغم من المتاعب والمشاكل المالية والدعوات القضائية الكثيرة، تمكنت فات بوسم من تسجيل عدة ألبومات غير تقليدية، وإعادة إحياء البلوز وتحديثه. الكثير من النقاد لم يعجبهم كيف انحرفت فات بوسوم بفنانيها الشبه ميتين عن البلوز المعتاد، إلا أن جماهير الموسيقى لم تعر كلام الناقدين اهتماماً.

كانت هذه موسيقى جديدة مختلفة عن بلوز دلتا الميسيسبي المألوفة. خليط ما بين بلوز جون لي هوكر وهاولن وولف وروبرت جونسون ومادي ووترز، وما بين تجارب مآسوية أضافت النغم المختلف والتراث القويّ المتجذر لموسيقى بلوز شمال الميسيسبي. هذه هي الهل كنتري بلوز. “التشديد بقوة على الإيقاع وقرع الآلات النقرية، ريفات جيتار ثابتة، الجروف المتكاسل والكئيب السائد على معظم الأغاني، استخدام كوردات أقل، حرية أكبر على الجيتار، الانتقال المفاجئ من نغم لآخر مثل: “يمكنني أن أقتلك الآن يا عزيزتي، لكن يمكنني أيضاً أن أجلس هنا طوال الليل دون فعل ذلك،” صوت كهذا، غياب الهارمونيكا، وجود الناي أو الفايف مع فرقة من قارعي الطبول. كل ذلك يكاد يكون غائباً بالكامل عن البلوز الكلاسيكي المعتاد. الفانك يلعب دوراً مهماً في أعمال آر إل بيرنسايد وجونيور كيمبرو، رائدا الهل كانتري بلوز.” R.L Burnside : See My Jumper Hanging On The Line. من أرشيف الباحث الأمريكي «آلان لوماكس»

تقدم آر إل في العمر. بدأت صحته تنهار وأخذ الكحول ينال منه. لم يعد يستطيع العمل في أي شيء آخر غير عزف الموسيقى، ولم يتكمن من الوقوف على المسرح في عروضه. كان يضع مؤخرته على كرسي ويعزف أغانيه مع ابنه المتبنى الأبيض كيني براون عازف جيتار وتلميذ آر إل بيرنسايد. أعلن آر إل أكثر من مرة أن كيني براون هو ابنه المتبنى و 'ابنه الأبيض،' و 'الولد الأبيض على الجيتار.' أصبح كيني براون العازف المساعد الأول والدائم برفقة آر إل في حقبة فات بوسوم وحفيده سيدريك برنسايد.

كان آر إل يضحك على فكرة سبنسر بتسجيل ألبوم حول قصصه القديمة القذرة الساخرة التي يرويها للباقين في غرفة تغيير الملابس قبل العرض. توسلوا إليه أكثر من مرة، لكنهم دائماً ما حصلوا على ذات الإجابة: “لا، أنا لا أستطيع فعل شيء كهذا على المسرح.”

تغيّر الزمن على آر إل العجوز. كان يعلم أن البلوز القديم لا يمكنه جذب الجماهير. انتهى زمن البلوز وفات بوسوم تحاول عبثاً. لكن على الرجل فعل شيء ما من أجل لقمة العيش ولو كان ذلك دحرجة شيء ميت على المسرح أمام جمع غفير من الناس.

عندما رن الهاتف ذلك الصباح، كان آر إل جالساً على كرسيه الهزاز أمام منزله القديم في أرضه في ميسيسبي مع عدة أصدقاء، يشرب البيرة ويشاهد أحفاده الكثر وأصدقاءهم يتسكعون حول السيارات المعطوبة القديمة أمام المقطورات التي يعيش فيها أبناؤه وبناته وأحفاده. كان ذلك بعد أربعة أو خمسة أيام من عودته إلى بيته. “يا آر إل، هل أنت جاهز لعمل ذلك الألبوم يا رجل؟ » سأله جون سبنسر.

لا أكترث، أنا مستعد، تعال إلى هنا. إن لم يقتلني ذلك فلا يمكنه إيذائي.”

بعد أربعة ساعات من دخول آر إل في الاستوديو كانوا قد انتهوا من تسجيل الألبوم. أربعة ساعات من سبعين عام وألبوم واحد وحكايات قذرة مغناة، هذا كل ما كان يتطلبه الأمر ليخرج الألبوم الثالث والأكثر رواجاً لآر إل عن فات بوسوم. بيعت كل التذاكر وامتلأت القاعات في خمس جولات متتالية.

أتمنى لو كنت في الجنة جالساً

في عام ١٩٩٩ انهار آر إل وأجريت له عملية على قلبه. منعه الأطباء من الشرب بعد أن تعرض إلى نوبة قلبية بعدها بسنتين. بعد ذلك لم يعد يستطيع العزف كسابق عهده. توقف عن السفر كلياً بعد العملية الأولى، وأدى عروضاً فقط عندما احتاج للحصول على المال، فأقام حفلات لمعجبيه من مشاهير هوليوود أو وصلة في مهرجان ما.

على الرغم من صدور ثلاث ألبومات بعد A Ass Pocket of Whisky الذي حقق نجاحاً كبيراً، بدا آر إل منهكاً وغير قادر على انتاج مادة جديدة. ألبوم Come On In عام ١٩٩٨ كان عبارة عن أغاني قديمة له تم دمجها بإيقاعات الهيب هوب، لاقى هذا الدمج إعجاب البعض إلا أن أصوليّ البلوز وجدوا أنه يسيء للبلوز ومسيرة آر إل.

أما ألبوم Wish I Was In Heaven Sitting Down I فكان عملاً متقناً ومثالياً من البلوز، لكنه اكتفى بوجود صوت آر إل فقط. “لم أكن أملك أية خطط لعمل أغاني حول ما حدث”، قال آر إل لما سُئل عن R.L’s Story وHard Time Killing Floor ، الأغنيتان اللتان يحكي فيهما ما حدث معه في شيكاغو. “لا بأس الآن” قال آر إل، “سمعت الألبوم مرة واحدة عندما صدر. شعرت أنه جيد، فقلت لهم: لم أكن أعرف أنكم تريدون عمل ذلك في الألبوم. فقالوا: لم نكن نظن أنك تهتم. فقلت لهم: حسناً، أنتم محقون، لا بأس.

في عام ٢٠٠٥ تعرض آر إل إلى نوبة قلبية أخرى في بيته في بيهاليا، ميسيسبي نفس البلدة التي توفيّ فيها ويليام فولكنر بنوبة قلبية. لا بد أن التوقف عن الشرب والعزف أرهقه، والوحدة كذلك. صديقه جونيور كيمبرو كان قد توفيّ قبل أعوام، وكان آر إل يجلس أمام بيته بعد نوبته القلبية الثانية، عجوزاً ساخراً وحيداً، ملك عائلة بيرنسايد.

لم يحالف الحظ آر إل هذه المرة، أو ربما حالفه، فتوفي على سريره في مستشفى القديس فرانسيس في مِمفس، تاركاً ١٢ ابناً وابنة و٣٥ حفيداً، وإرثاً موسيقيّاً يضمن له مكانه بجانب أبطاله وأصدقائه من عظماء البلوز.


المراجع غير المذكورة في النص:

مجلة وايف لنجث. عدد آب ١٩٨٥

مذكرات جورج ميتشل

لماذا أرتدي الموجو تبعي – مجلة أوكسفرد أميركان

المزيـــد علــى معـــازف