.
ولدت “الأغنية السعوديّة” نتيجة انعكاس سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي لتوحيد أجزاء المناطق الكبرى من شبه الجزيرة العربيّة تحت مسمّى: “المملكة العربية السعودية” (1932). ونشوء هذه الدولة ومؤسّساتها بحسب تطور مواردها الطبيعيّة والتجاريّة، وتشكُّل مؤسساتها الاجتماعيّة من قبائل وجماعات وفئات، ومؤسساتها الثقافيّة، ومن يقوم عليها من الكتبة والشعراء والرواة (القصّاصون والمنشدون)، المشخّصون والراقصات، وجماعات قراءة المولد النبوي ومنشدو المدائح النبويّة، ورواديد الحسينيّات ومجالس العزاء، وفرق الغناء الجماعي بحسب بيئاتها الجغرافيّة والمهنيّة مثل السامري والعرضة والصهبة والفجري والدحة والخبيتي، وما سواها.
في خضم تشكُّل هذه الدولة، كان المسؤول عن نشأة الأغنية السعوديّة هم كلٌّ من: الشخصيّة العسكريّة للمغني والملحن طارق عبد الحكيم ابن الطائف، والشخصية الدبلوماسيّة للشاعر محمد الفهد العيسى ابن عنيزة وربيب المدينة المنوّرة، والشخصية الاتصاليّة (مأمور لاسلكي) للشاعر إبراهيم خفاجي ابن مكة المكرمة وذي الأصول الخفاجيّة – الأندلسيّة.
تجاوز الغناء السعودي، من خلال دور طارق عبد الحكيم (1918–2012)، والشاعرين العيسى وخفاجي، مرحلة اللعثمة والحيرة ما بين عقدي الثلاثينيّات والأربعينيّات، حيث استمرت فرق الغناء الجماعي في كل منطقة وبحسب متعلقات غناء البيئة والمهنة، ومحاولات نقل فنون الأداء من إطارها الموروث في الأداء والعزف بإبدال الطرق نحو الغناء المنفرد واستخدام آلات غير مألوفة ولا تتصل بفنون الأداء نفسها.
عند العودة إلى جذور فنون الأداء التي تربّى عليها طارق عبد الحكيم، وشكّلت ذوق جيل، وربّما أكثر، نجد أنها تتمثّل في قائمة دينيّة، مثل: الابتهالات والتواشيح والمدائح، والدان والمجرور والمجس، وفرقة الصهبة ويماني الكف وفرقة رقصة المزمار. (الخروج من المعبد، أحمد الواصل. (2013). ص: 142).
ابتُعث طارق عبد الحكيم من وزارة الدفاع للدراسة في “إدارة موسيقات الجيش المصري” بين عامي 1952–1953 (سحّارة الخليج، أحمد الواصل (2006)، ص: 52)، وهي ذات الفترة التي ابتُعث فيها الشاعر العيسى من قِبل “وزارة المالية والاقتصاد الوطني” إلى القاهرة أيضاً لدراسة المحاسبة والضرائب والشؤون الإداريّة والقانونيّة بالإضافة إلى دراسته الموسيقى.
وكانت البداية حين عرض التاجر عبد الله بن زقر إنتاج أغنيات لطارق عبد الحكيم، فاعتمد الأخير على الشاعر العيسى ليكتب له نصوص تلك الأغنيات عام 1952، فوضع له: “معبد الحب”، و”لك عرش وسط العين”، فلحنهما وسجلهما بصوته، وكتب أخرى، وهي “يا ليتني ما هويتك” سجلتها نجاح سلام مع أغنية” يا ريم وادي ثقيف” للشاعر إبراهيم خفاجي.
تمثّل تجربة محمد الفهد العيسى “شعر الخبرة” (أي: الشعر الحسّي) الذي يوقف استخدام الأنماط التعبيريّة والعروضيّة وفق التجربة الذاتيّة، وهو ما يتّصل حتى بتجربة الشعر الفصيح حين نراه يتنقل بين النمط العمودي والتفعيلي في ديوانيه الشعريين: “ليديا” (1962)، و”على مشارف الطريق” (1963). وهو كذلك في الأغنية يتنقل بين أكثر من عَروض شعري، كالهزج والمجتث والمتدارَك، ومن النبطي: المسحوب (السريع)، بقدر ما تنقّل بين الأغنية الطربيّة والراقصة وقالب النشيد. هذا إضافة إلى وعيه بخزّان الإيقاع الزاخر في الشعر العامي العربي، والأبنية العَروضيّة التي أعيد تحسينها في الأغنية المصريّة والعراقيّة، بما أنهما انطلقتا بشكل مبكر بين عامي 1925–1948 (الواصل، 2013، ص: 26–27)، وشكّلتا نموذجاً للغناء العربي في القرن العشرين. إذ التقى العيسى وعبد الحكيم، ودمجا ثقافتيهما واستثمرا إيقاع الكلمة والنغم معيدين تفكيك وتركيب مكونات الغناء الحجازي ذات العناصر العربيّة التي تمثّل مسار خط رحلة الإيلاف من أقاصي اليمن حتى أعالي الشام، ويضاف إليها فصائل منصهرة ومندمجة، طوعاً أو كرهاً، من الأنغام الآسيويّة والأفريقيّة التي رشحتها رحلات الحج والتجارة والنخاسة عبر بحر العرب والبحر الأحمر من زنجبار وجاوة (الواصل، 2013، ص:143).
بعدما أنجز العيسى مع عبد الحكيم الأسطوانة الأولى من أغنيات تناصفها كل من الأخير ونجاح سلام عام 1952 كما ذكر سابقاً، عاد عبد الحكيم في العام 1953 وتعاون مع المنتج بن زقر، وأنجز مع العيسى أغنيات أخرى ومنها ” فين يا محبوبي فين؟” لنجاة الصغيرة، و”أسمر عبر” لفايزة أحمد (1930–1983) والتي سيسجلها محمد عبده لاحقاً، وأغنية” محبوبي اليوم أشقاني” لعبد الحكيم نفسه. أمّا في عام 1954 فوضع العيسى نشيدين سجلا بصوت المغنّي المصري كارم محمود (1922–1995)، وهما: “حنا رجال الحرب في يوم النزال” والآخر “صوت العرب”.
وتكون هذه الأعمال لطارق عبد الحكيم نهاية الحقبة المصريّة بين دراسته في القاهرة وتسجيله أولى أسطواناته، وتعاوناته مع الأصوات العربية النسائيّة، وتكليفه من قبل صوت العرب بأعمال غنائيّة وموسيقيّة آنذاك. ومن بعدها عودته إلى أرض الوطن لتأسيس مدرسة موسيقات الجيش السعودي عام 1954، وتدرّجه الوظيفي العسكري بين عامي 1953–1959، حيث عُيّن خلالها عام 1956 مديراً لنادي الضباط، ومنها أُعير إلى مديريّة الشؤون الإذاعيّة والصحافة والنشر عام 1961 ليؤسس فرقة الإذاعة السعوديّة، وعاد إلى القطاع العسكري العام 1962 ليُرقى إلى رتبة عميد.
في ذلك الوقت (1961) تم إعارة خدمات الشاعر العيسى من وزارة الماليّة والاقتصاد الوطني إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعيّة، مواصلاً نشر أبحاثه التاريخيّة والجغرافيّة في مجلة العرب لصاحبها حمد الجاسر، والتي تشكل نواة كتابه “الدرعيّة قاعدة الدولة السعوديّة الأولى” (1995).
إلا أن العيسى نشر خلال حقبة الستينيّات ديوانيه الشعريين: “ليديا” (1962)، والآخر “على مشارف الطريق” (1963). وقد هوجم العيسى من قبل تيار محافظ اجتماعيّاً بسبب ديوانه الشعري الأول فمكث في عزلة اختياريّة تسنّى له فيها إعداد برامج تلفزيونيّة عن الفنون الشعبيّة في المملكة العربية السعوديّة (الشبيلي، الشرق الأوسط،4 آب/ أغسطس 2013).
وأما في الحقبة اللبنانيّة بين عامي 1968–1974، فسافر طارق عبد الحكيم إلى بيروت والتقى مصادفة برجلي الأعمال صالح بن حمد وأحمد باعيسى صاحبي مؤسسة الإخاء السعودية وأنتجا له أكثر من أسطوانة تعاون فيها مع مغنين ومغنيات من لبنان.
وكتب محمد الفهد العيسى أغنيتان، ستشتهر إحداها: “حبيبي ضمني ضمّة”، سميرة توفيق، بشكل كبير، والأخرى: “دعاني” لإحسان صادق.
شكلت الحقبة اللبنانية لعبد الحكيم مرحلة نهاية عمله في القطاع العسكري بتقاعده على رتبة عميد (عميد الفن السعودي، إسماعيل حسناوي، 1999، ص: 82) كما أنها شهدت مرحلة انطلاق العيسى في السلك الدبلوماسي حيث سيكون سفيراً للمملكة في موريتانيا عام 1972، ومنها إلى دول أخرى.
وهنا سأشير إلى تحولات الرقيب الاجتماعي والذوق الثقافي بين نهاية الستينيّات ومنتصف السبعينيّات من خلال أغنية” حبيبي ضمني”، فالنص الشعري الذي سجّلتها المغنية اللبنانيّة سميرة توفيق مكون من أربعة مقاطع :
-حبيبي ضمني ضمة
-حبيبي الحب إيماني
-حبيبي القرب لي جنة
-حبيبي في روابي شهار
وأما النص الذي سجله طارق عبد الحكيم فهو مكّون من أربعة مقاطع أيضاً:
-جمال الروض يسبيني
-وكان البدر يحمينا
-حبيبي في روابي شهار
– حبيبي القرب لي جنة
اشتركت الأغنيتان في المقطعين الثالث والرابع، مع اختلاف الترتيب، بينما اختفلتا بمقطعين هما الأول والثاني. النص الذي سجله طلال مداح هو ذات النص الذي سجلته سميرة توفيق، غير أن بعض المقاطع تتغير إلى “الغناء الحافي” وينزاد مقطع خامس يتغير فيه الفعل الماضي “الضمني” نحو فعل الأمر عن ما هو في نصّي توفيق وعبد الحكيم :
-حبيبي ضمني ضمة ( وخلي الشفة على الشفة)
-حبيبي الحب إيماني (ما بين النهد والثاني أصلي للهوى ركعة)
-حبيبي القرب لي جنة
-وخمرك صنعة ألحاني
-حبيبي في روابي شهار
والمقطع الرابع مزيد عليها مثلما أبدلت أنصاف أبيات في الأول والثاني، على النحو التالي:
“وخمرك صنعة ألحاني وأنا من شفِّتك خمري
ومهما الحزن أرواني أنا عطشان فداك عمري
وأرويني وأسقيني عسى نار الغرام تطفي”
نرى هنا أن كل من نص توفيق وعبد الحكيم تغيّرا لاعتبارات المتكلم المؤنث والمذكر، الأمر الذي يعود بنا إلى أغنية حملت نفس اللحن، وتغيرت كلماتها لذات السبب بين وديع الصافي “على رمش عيونها” (1971)، ووردة “بدوب في الهوى” (1980) لنفس الشاعر حسين السيد، والملحن بليغ حمدي. نص الأغنية مع طلال مداح يمثل قطاعاً من الأغنيات التي غنّاها هو بنفسه مثل أغنية “حبك سباني” (1961)، التي كتبها الأمير مساعد بن عبد العزيز، وسمعها السعوديون أول مرة من إذاعة القدس.
ولعل المقطع الثالث منها هو ما يمكن أن يثير حفيظة الرقيب الاجتماعي برغم أنه يتبع تقاليد رسخها العيسى وعبد الحكيم في أغانيهما سوياً وما كان مداح سوى تلميذ لتلك التقاليد الغنائيّة:
“أنا أتمنى أعانق شلحتك
والباب مقفول جو غرفتك
أنادمك ثمّنْ أشرب قهوتك
وأقطف من أزهار هذاك الجنى”
وقد سجلها في بيروت آنذاك، وهي تتحدث عن شهوة عاشق إلى حبيبته يتمنى جر ملابسها الداخلية وشرب قهوتها ويمتدح سريراً ضمّهما. واعتُقل مداح حين عودته فتوسط له طارق عبد الحكيم عند الأمير عبد الله الفيصل، بينما اكتفى مداح بتسجيل نسخته الحافية لأغنية “حبيبي ضمني ضمة” على العود وهو تسجيل يقترب من فترة السبعينيّات.
تلك السبعينيّات التي كانت تعج بأغنيات حافية شهيرة، وربما قصائد أشهر مثل معلقات الهجاء السياسي “خبز وحشيش وقمر” (1956) لنزار قباني، و”كسميات” (1968) لنجيب سرور، وقصيدة “وتريات ليلية” (1970–1975) لمظفر النواب، وأفلام سينمائية شهيرة لعل أشهرها: سيدة الأقمار السوداء 1971) وحمام الملاطيلي (1973)، حفلت بذكر ليال حمراء يقضونها مع حبيباتهم المستحيلات وعشيقاتهم الفاجرات وغزالات المدارس، بل ومع أولاد الهوى عشاقهم من صبية المدارس ومربّي الحمام تبعاً لتقاليد الشعر العربي عند امرئ القيس وسحيم بني عبد الحسحاس وأبي نواس وصفي الدين الحلي ونزار قباني، أو تقاليد الشعر العامي عند محسن الهزاني ويحيى عمر وعبود الكرخي والحميدي بن منصور والدندان وسواهم.
ونطقت هذه الحناجر بوصفها “جماعات خاصة تعيش داخل المجتمع الأكبر، وقد يختلف سلوك أفراد تلك الجماعات عن سلوك أفراد المجتمع الكلي، ولكن في نفس الوقت تتضمن ثقافتهم الفرعية على عناصر تشترك فيها مع الثقافة الكلية، كما تحتفظ لنفسها بعناصر أخرى تميزها عن غيرها من الثقافات” (دراسات سوسيوأنثروبولوجيّة، مجموعة مؤلفين، 1984، ص: 174). إذا ما لاحظنا انتماء العيسى إلى أسرة ذات حسب في عنيزة في إقليم القصيم، وانتماء عبد الحكيم إلى الأشراف المتصلة نسباً بالفرع الهاشمي من قريش، فسنرى الانتماءات الإثنية الوافدة المندمجة طوعاً أو إكراهاً في البيئة العربيّة الريفيّة أو البدويّة نتيجة الهجرة والنخاسة، والتي شكلت ثقافة إلحاقيّة.
وتشكّل هذه “الثقافة الإلحاقيّة” التي تشترك مع الثقافة المركزيّة، بينما تتمايز عنها على مستوى الإنتاج والطبقة والمهنة “ثقافة العوام” باعتبارهم (العوام) “سواد الناس الذين لم يكونوا يتمتّعون بأي سلطة، والذين يعملون في شتى حقول الكسب، وأنهم كانوا يعيشون في عالم خاص له أبعاده الفكرية والدينية التي تتدنى عن مستوى عالم الخاصة [أو المجتمع الكلي]”(العامة في بغداد، فهمي سعد، 1993، ص: 140).
ولعلنا لا ننسى هنا المرجعيات الاجتماعيّة المعقّدة لهؤلاء الجماعات، ومنهم صعاليك الفن المهمّشين، ما بين كونهم رقيقاً سابقين أو محرّرين، ومنتميْ القبائل المنبوذة، والبدو المتوطّنون، والعرب المهاجرون أو المهجّرون من اليمن وعمان الذين عملوا في مهن وضيعة وقدموا على فترات مختلفة، أو من قدموا من فلسطين والعراق والذين عملوا عمالاً وفنيين في حقول النفط منذ الأربعينيّات.
سجّلت هذه الأغنيات بأصوات مغنيْ طبقة مهنية مهمشة زاولوا مهن مزدوجة مع الغناء والعزف مثل: عيسى الأحسائي (سائق أجرة) صاحب أغنية “أنا ودي” والأغنية الذائعة في حينها التي نفي بسببها من السعودية إلى الكويت: “ليت السما تمطر مخانيث وقحاب وتنبت لي الأرض قوارير ويسكي“. وعيد بو سيف (الذي عمل معلماً) صاحب أغنية “شلحة هدى” (من شعر محمد الجنوبي) التي أعاد تسجيلها كثر بعده: “قلت آه وويلاه يوم هب الهدى.. طيّر الفستان عن شلحة هدى“.
وبسببها سجن أكثر من فنان منهم طاهر الأحسائي وعبد الله الجنوبي وذكر الأخير أنهم تضامنوا معه ولم يعترفوا باسمه (الأسطوانات: تاريخ فن وذكريات، سالم بشير،2009، ص: 175) ، و”الشخصية الأسطورة” في عالم الغناء الشعبي بشير حمد شنان (ميكانيكي) في أغنية “سيد كل الناس” (هو من كتبها) ومنها :
“وقف وأشّر بمنديله، ورفع عن وجهـه الشيلة
وقال الموعد الليلة، وجاني داعج العينين
بدون اشعور خميته، وفوق الصدر ضمّيته
وحتى لسانه مصّيته، وليلي قد صبح ليلين”
بالإضافة إلى الكسرات المثليّة للمغني الأفريقي الأصل طارق كتالوج (سائق أجرة)، وهذه الكسرات هي فن شعري من مدينة ينبع الحجازيّة.
تمثّل هذه الأغنيات استمراراً لتقاليد غنائيّة سابقة لدى كل من: المغنّي البحريني محمد بن فارس آل خليفة (1895–1947)، وهو تلميذ أخويه صقر وعبد اللطيف، الذي غنّى للشاعر اليمني يحيى عمر اليافعي أغنية “اغنم زمانك”(1938)، وفيها المقطع الشهير الذي يتغزّل بقاصر (محمد بن فارس، ج، مبارك العماري، 1996، ص: 270):
اغنم زمانك يا حبيب اغنم، ما دام عادك صغير السن تيهاني
ذا الليم ذا اللي بصدرك قلنا من كم، وأرمي بحبه جبا يا قرة أعياني
وفك صدرك أنا باشم صدرك شم، باموت من بي هذا النهد والثاني”
وأغنية ضاحي بن وليد (1896–1947) “سالم آه يا سلمان” (1932) المتغزلة بالصبي الفارسي سالم:
“شفته بالليوان والحوش مليان كله اصْبيّان سالم آه يا سلمان
جيته يتوضا وإبريق فضة بوسة وعضة سالم آه يا سلمان”
ومواطنه محمد زويد (1900–1982) – مثلاً أغنية” كوكو” التي سمعها زويد في بومبي من مغنية سوريّة في الأربعينيّات في الهند تغني في ملهى “جنّة بومبي”، وهي تتحدث عن تحرش طائر بصدر فتاة العاري الماشية في حديقة:
“يا ماشي بين الورد شقتني الباليبه
والكحلة جو العين زادت فيني باليبه
كوكو كوكو، كوكو ما صار يكوكو
يا لابس الثوب الأحمر والنازع شاريبه
لآخذ وصالي من أهل الوصل وأصيبه”
كما أنه في أحد رحلاته إلى العراق استمع إلى أغنية تتغنّى بملهى أبي نواس في بغداد ونقلها إلى الخليج العربي بعنوان: “من عنده تريد”، وهي ذات إيقاع شائق جداً وتشكل غناء “قيان بغداد” وهو المعادل لغناء “عوالم القاهرة”:
من عنده تريد أرقص ويّاك
وألبس وارد أصلي بهواي
وأرقص وأقول: شكا شكا بووم
من عنده تريد نشرب الكأس
وأروح معاه ملى النواس
وأفرح وأزيد شكا شكا بووم
من عنده تريد نشرب شامبين
وأخذ بوستين من ذا الخدين
وأفرح وأزيد: شكا شكا بووم
من عنده تريد فوق الأغصان
وأرقص معاه شبه الأطيار
وأرقص وأقول: شكا شكا بووم”
والمغنّي العراقي محمد القبّانجي (1901–1988) صاحب أغنية “سودنوني النصارى” (1925) للملا عبود الكرخي التي تعرض بسببها إلى محاكمة من قبل الطائفة المسيحيّة لـ”تجرؤه عليها بالكفر” وهو يتغزّل بهم:
“لأصعد لعيسى وأقله: يا نبي هذه هالملة
بدي أنا أصير خله
سودنوني هالنصارى موتوني هالنصارى”
ونضيف إلى أنه لا نستغرب في ظل مثل هذه الأغنيات أن يغني المطرب يوسف عمر (1918–1986) مرثية الشاعر عبود الكرخي في قواد حي الصابونجيّة “داوود اللمبجي” في بغداد، وهي قصيدة ذائعة مثل قصيدة المجرشة. وقد عرض الكرخي بمهنته وموقفه الأخلاقي واتهمه في عرضه (عبد الجبار العتابي، أقلام حرة، 6 كانون أوّل/ ديسمبر 2009)، ومطلعها “مات اللمبجي داوود وعلومه” ومنها المقطع التشنيعي:
“أبو كِرن الكُوي ومعجعج ونطاح، إله وكفات بالدربونه معلومة
إسم الله عليك يا داود أبو سلمان، يكويويد يا هبّار يا كرنان”
تعرّض من تعرض من هؤلاء، سواء كانوا شعراء أو مغنين، إلى السجن أو النفي أو المحاكمة، ولم يكن المجتمع ليرحم. لكن في ذلك الوقت كانت مؤسسة الضبط الاجتماعي بدأت تتحرك لتوازن التساهل والتطرف الثقافي بمعيار الأخلاقيّة والحدود الاجتماعيّة. إذ بدت تحولات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة ما بعد هزيمة 1967، وما تمثله من انكسار عسكرة القوميّة العربيّة في صورتها الناصريّة والبعثيّة. أو كما يسميها محمد أركون “إيديولوجيا النضال” (الفكر العربي، ترجمة عادل العوا، 1985، ص: 160). وتفشّي الحركات الإسلامويّة في أجنحتها السلفويّة والجهادويّة نتيجة الفراغ السياسي، والقلق الإقليمي الأمني والإيديولوجي في المنطقة العربية، وصولاً إلى إسقاط المعسكر الاشتراكي وانهيار آخر من يمثل العسكرة القومية في صورتها البعثية ما بين 1990–2003.
وستبقى الحركات الإسلامويّة في نزعات التطهير الاجتماعي والثقافي مقابل سقوطها في شبكة الرأسماليّة الاقتصاديّة ذات العولمة القصوى، تعبيراً عن جثّة إيديولوجيّة تركب عربة فضائية فقدت بوصلتها.
إن تقاليد الغناء الحافي، في تمثلها ثقافة العوام الهامشيّة، بالرغم من التشنيع الإعلامي والاجتماعي عليها، مستمرّة بطرق مختلفة، وتستخدم وسائل متجاوزة للإطار الإداري والنظامي، وتتحدى الرقيب الاجتماعي، وهي تتوازى مع الغناء السياسي التحريضي الذي ظل قابعاً في الظل أو مهمّشاً ثقافيّاً.
فإن تجربة الشيخ إمام (1918–1995) المتّصلة بتقاليد الغناء المصريّة في مجالها السياسي، تتوازى مع تجربة بشير حمد شنان (1946–1974) المتّصلة بتقاليد الغناء النجدي في مجالها الحافي. ففي لحظات شديدة التنافر، ستنكشف حقيقة أن المكبوت السياسي والجنسي وجهان لتلك العملة الصلبة في شبكات الحياة الاجتماعيّة التي تقلبها على الوجه الذي تريده، وتحجب ما لا تريد الجّهر به. ظلّت هذه الثقافات الفرعيّة موجودة في العالم العربي، برغم من أن العنصريّة القوميّة والأصوليّة التطهريّة قضت عليها بوصفها ثقافة أقليات ومنبوذين وطبقات سفلى.
لا تزال الذاكرة العربيّة تتمركز في لحظة الدخول إلى القرن العشرين، وقبل عملية التعقيم الثقافي، عبر ثقافات الحياة الخافية التي تقيمها فئات هامشيّة تنبر منها أسماء مثل: حبيبة مسيكة والشيخ العفريت وصديقة ملاية ونعيمة المصرية وتوحيدة (لطيفة إلياس فخر) وحسيبة طقش، حيث اعتنى بتدوين سير هؤلاء أحمد محفوظ في كتاب “خبايا القاهرة” (1958)، وعبد الكريم العلاف في كتاب “قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني والأخير” (1969)، وأحمد الجندي في كتاب “رواد النغم العربي” (1984)، فلا تنسى هذه الثقافات بحسب ظروف الزمان والمكان أن تعاود الظهور بحسب تشكيلاتها مجدداً.
ولعلنا نرى في أواخر القرن العشرين ومطالع تاليه انفجار ثقافات فرعيّة جديدة عبّرت عن نفسها بشكل صريح، وأصبحت سلعة تحت اقتصاد الثقافة الكليّة، مثل: المكوجي شعبان عبد الرحيم في أغنيات بسيطة مشحونة بمواد الإثارة الاجتماعيّة والسياسيّة، كأغنية: “أنا بكره إسرائيل” (2001)، أو الإقلاع عن الدخان: “حَبطّل السجاير” (2005). أو سائق الأجرة سعد الصغير، حيث قدّم خطاب لغة الحب الذي يمثل فئته الاجتماعيّة كأغنية “العنب” و”بحبّك يا حمار” من فيلم “عليا الطرب بالتلاتة” (2006)، من دون تجاهل استغلال فن الغناء وتقنيات الإعلان لتسويق الشهوة العربيّة في نماذج مثل: ماريّا وروبي وبوسي، وصولاً إلى سما المصري التي اضطلعت بدور الاحتجاج السياسي، حاملة الوجه الجنوسي للأنثى المؤبلسة وهي تعبر عن تفكّك منظومة كاملة لصورة الغناء السياسي أو الملتزم، بالغة أقصى درجات السخرية باستخدام وسائل “فن العوالم” للتعبير عن الاحتجاج والرفض السياسي. وهو ما يشكل عودة للثقافة الفرعيّة وتحمّلها دوراً فوق طاقتها نتيجة انهيار المنظومة التي كانت تقوم بهذا الدور.
لم يدر بذهن كل من العيسى وعبد الحكيم أنهما كتبا تاريخ الأغنية السعوديّة. إذ واصل كل من عبد الحكيم والعيسى العمل سويّاً في أغنية تمثل مساراً من مسارات الأغنية الطربيّة والراقصة، والتي تحمل طابعاً شعبيّاً تتجلّى فيها الخبرة الواقعيّة. وبينما تعدّدت مسارات الغناء مع شعراء آخرين، شكّلت تجربة العيسى حجر الأساس في عمارة طارق عبد الحكيم اللحنيّة.
فقد استطاع العيسى الاستفادة من دراسته واستيعابه للفنون الشعبيّة في المملكة العربيّة السعوديّة، بالإضافة إلى تطوافه الدبلوماسي (1972 – 2000) بين دول الخليج العربي (الكويت والبحرين وعُمان)، ودول الشمال الأفريقي (موريتانيا) مروراً بالأردن، لتشكيل وعيه وذائقته الشعريّة. وأعاد استلهام الطرق الشعريّة، فأنطقها بتجربته المعاصرة من دون الوقوع في تكرار النمط أو التطبّع اللغوي. وتمثّل الكثير من أغنياته، بين الستينيّات والسبعينيّات هذا التوجّه. ومنها ما وضعه لكل من فايزة أحمد: “حبيت وعدت للآه”، ولمحمد الرفاعي: “البارحة يا حبيب” التي سجّلها لاحقاً عبد الحكيم.
بالإضافة إلى أغنيات ذاتيّة: “أنا وحدي”، والأخرى: “أول مرة أعرف اسمي” لطارق عبد الحكيم. وهناك أغنية “قال الفهد يا عين” المستلهمة لطرق تعبير شعراء الحميني في توثيق قصائدهم بأسمائهم مقابل تسنيد الشعر النبطي لأصحاب الشعراء في قصائدهم ولأنفسهم أيضاً. كذلك تكشف أغنية “عند النقا” الأسلوب الشعري لتوظيف المكان المقدّس ضمن التجربة الذاتيّة لا في شعر الأغنيات، بل في الشعر الفصيح أيضاً عند العيسى (أغنيات متمردة (2)، علي فقندش، جريدة عكاظ، العدد 3114، 26 كانون أوّل/ ديسمبر 2009). ولعل النسخة المسجّلة بصوت طلال مداح تجزئ عن سواها:
“عند النقا ويلاه، ضيعت أنا روحي
يا أهل الحرم بالله، ردوا علي روحي
إن كان حبيبي يفوت، مره على أعياني
من بعد انا ما أموت، أحيا وأعود تاني”
لم يقف العيسى عند الأغنيات العاطفيّة، بل ذهب نحو وضع أناشيد استمرّت حتى مطالع التسعينيّات شدا بها كل من: طارق عبد الحكيم “تحيّة الرافدين”، وكارم محمود “إلى الجهاد”، وللمجاميع “ردد الزمن”، و”نسور الإسلام”، و”غضبة الجيش”، و”تحية ضيف”، وفرقة أبو سراج “سلاح المظلات” (1990).
ولم يتوقف العيسى خلال هذين العقدين من إرسال نشر دواوينه الشعريّة، ففي حقبة الثمانينيّات نشر: الإبحار في ليل الشجن (1980)، الحرف يزهر شوقاً (1989)، دروب الضياع (1989). وأمّا في الحقبة التسعينيّة: ندوب (1993)، القوافي قصائد – مختارات (1996)، حداء البنادق (1998)، ثم ألحقها ما بعد الألفية الثالثة: ليلة استدارة القمر (2001)، عاشق من أرض عبقر (2007)، أين قفاة الأثر (2007)، وختمها بـ”عندما يزهر الحب” (2013).
وللأسف لم تُجمع نصوص الأغنيات في أرشيف الأغنية السعوديّة لتبقى شاهدة على ما تحفظه الذاكرة، فما تركه قبل أن يرسّخ تقاليد الغناء العربي بكل وجوهه المختلفة سيبقى بصمة في حياة المجتمع ذاته.