fbpx .
أبيوسف

أبيوسف: قراءة في أربع أغان

مينا ناجي ۲۰۱۵/۰۷/۱۲

تنطلق أعمال أبيوسف من فهم خاص للراب لتتحرّك بحريّة تتعدّى التقليد أو حتّى الانهماك في محاولة الخروج عنه، بل تتجاوزه إلى عناصر تكاد أن توسم أسلوبه: التحرّك بسهولة بين المدرستين القديمة والجديدة، واستخدام التعابير العربيّة العاميّة والفصحى والإنجليزيّة بأصالة، إضافة إلى استخدام الإيقاعات والموسيقى والعيّنات الغربيّة والشرقيّة بنفس الحسّ.

لا يسكن أبيوسف هاجس الأصالة، ومع ذلك إنتاجه أصيل. كيف؟ أوّلاً: عبر فهمه لأن البعد الأساسي للرّاب، كنوع موسيقي، هو أسلوب لتشكيل وفرض الذات مع اعتباره تعبيراً لها: دا رسمي دا خطي دي كتابتي/ دا غضبي دا صوتي دا المنفذ لكبتي/ عالأرض أمليت وعبّرت بفنّي/ أمليت عالعرض فاتني مافتنيش“. وثانياً: اللهو والمرح اللذان يرفض إعطائهما نفسه بسهولة، بمعنى آخر: الهروب من المباشرة الفجّة سواءً على مستوى التعابير أو المضمون، ومن ثم الهروب من فكرة القضايا والآيديولوجيا والسياسة وغيرها: الراب ميّة والمزيكا زيت قلي/ مافيش مافيشماتقوليش من غير هري/ دا مزاجي/ أنا مش فنّان مثالي/ مابتهضمش، دي مش إعلانات زبادي/ بس أكتبها عادي/هأ وكمان كويّس/ غالي/ تركيزي عالي/ بدل ما هيّس. ثالثاً: لو أن هناك جوهراً ما للراب فهو العدوانيّة التي تُظهر نفسها في مقدرة لغويّة مبدعة للتلاعب بالكلام اليومي والتعابير المتداولة ونقد ما يتشبك معه مغنّي الراب (مثل السُلطة التي كان يأخذها الشاعر عبر لغته في قصائده وهجاءاته في سياق شعر النقائض).

عبر هذه الخصائص الثلاث، يمكننا رصد رحلة أبيوسف. وتالياً: نتناول أربع أغانٍ تمثّل بشكل رمزي مراحل هذه الرحلة:

جو برق: التكوين

https://soundcloud.com/abyusif/el-gaw-br2-prod-by-abyusif

المرحلة الأولى: تكوين الذّات وإرساء قواعدها، كما يمكن تمثيلها بأحد أجمل أغاني أبيوسف: “جو برق“. تبدأ الأغنية بعداونيّة فظّة: ظاظاظا مين هناك مين بينادي/ خليلكم الشاكوش مجنون وهادق بإيدي عادي/ قبضة الهلالي/ قرصة نحل سادي.” وينتقل لاستبطان الألم واتخاذه كمحرّك للأغنية: إحنا مرضى بالهبل/ بس بنستنضف الألم، والتفوّق على الآخر:ماسمعش تراكك/ بس أشم رحته/ آلاقي إسهال كلام“، وبالتالي العدوانيّة ناحيته: باتل نفسي في المراية/ قافل فانزك بالحكاية/ باخدك سركلاية/ مجتش في وشك آخدك بالملاية“. والنشوة الحاصلة من خلال توكيد الذات:واقف عالسحاب/ طايل النجوم/ برقص عالميوزك/ يوسف كلاي الميكرفون“. وفي النهاية، تظهر الذات الموجودة لأجل نفسها بنفسها بعدوانية مرّة أخرى: “إنت ضارب أنا الضرب، في الوش مش في الضهر“. حيث يستخدم إحدى أبرز حيل الرّاب في وضع كلمة لها معنيان يستخدمها معاً في نفس الوقت.

يوغا 2: أسلوب حياة

https://soundcloud.com/abyusif/y-o-g-a-2-prod-by-khaled-al

المرحلة الثانية هي سلوك الذات، والتعبير عن أسلوب الاشتباك مع الحياة والعالم. إذ تبدأ الأغنية بعيّنة صوتيّة لشخص ما (في الأغلب مدرّب لليوغا على التلفزيون) يقول بهدوء: الهدف الأساسي بتاع اليوغا، هدف اليوغا إن الواحد يتواصل مع نفسه، يوصل لحالة لسلام الداخلي. يهاجم أبيوسف ويسخر من هذا السعي للتصالح مع العالم عن طريق طرد الرّغبات والشعور، بل يجلب صورة مدهشة لتمجيد الشعور واختبار الحياة المشعّة: “بمسح دموعي ف المناديل واكوّر/ ألّيل فالبحر القناديل تنوّر، وتمجيد السعي والكفاح نفسه في الاشتباك مع الحياة بمشاكلها وصعوباتها كتطوّر ونموّ للذات: “الزلط خلّى سناني أقوى/ الطريق طويل بس بالي أطول/ شلالات بنط من فوقيها/ وكل دا بالنسبالي خطوة، ما يجعل الكلام الناتج عن الأسلوب السلبي المتطهّر:البيت جميل والفلو دا زوق/ كلامكم كله منقول بانوه/ ملبس بس نو جاتوه، مفسّراً الفشل في الراب كتعبير أصيل عن الذات: وصل من أول ما مسك المايك/ بيتعب البيت بيهلك الفايل/ بيبص في الليركس ويحدف في الفلو/ فيكم كام واحد جاب صفر في الستايل؟“. ولذلك يقول عن نفسه أنا مكتبة وإنتوا كراريسها/ عيد هاتفهم/ عيبدارسها، وعن الآخر: تصفيف جميل/ مذهول بمشطك/ أغانيك غسيل/ مبهور بطشتك/ كلامي فيتامين بيفور وتشرب“- وهي الفكرة التي تتكرّر كثيراً في أعماله، كأغنية سافومثلاً: أصيعَ من رابي مش هتلاقي/ ماليش فالهيبي ولا الهادي/ مش أدائي/ شيك وملوّن، أغانيك منوّم/ كاسيت بيودي للآخر ويجيب مالأول/ أفوّت أسفّ مش بخف/ مش بهدي/ أهلاً، برسم مش بشف ومش سهلة.

هذه هي الفكرة الأساسيّة في أعمال أبيوسف: علاقة اختبار الحياة وعيشها بشكل قوي وحاد بمستوى الإنتاج في الراب وقوّة تأثيره: حيث دوماً ما تنتج الحياة المفلترة كلاماً منمّقاً وساذجاً وخائباً. فتنتهي الأغنية بنفس الشخص الذي ظهر في البداية ليكمل حديثه: وبالتالي كل المشاكل اللي إحنا بنواجهها في حياتنا، من انفعالات وضيق وحزن وأحاسيس سلبيّة، بنتغلب عليها من خلال اليوغا“.

بانوراما: إعادة تشكيل الذات

https://soundcloud.com/abyusif/panorama-prod-by-abyusif

سبّب قرار أبيوسف الامتناع عن الهجوم على أشخاص بأسمائهم، فيما بدا أنّه يقع ضمن قرارات أخلاقيّة شاملة في حياته حذف بسببها كل الهجاءات Diss التي قام بها سابقاً من على الإنترنت، مشاكل تقنيّة. إذ يعتمد الراب بصورة كبيرة على مهاجمة الآخرين، حتّى أن جوهره يكاد أن يكون العدوانيّة. فكيف يحل أبيوسف هذه المشكلة؟ بتدشين هجوم عام قام من خلاله بإرجاع كل موقف محدّد إلى مبدأ مختل يهاجمه كما يقول في بانوراما، وهي من أبرز أغانيه: عمر ما السوق خلاني تقليدي بظروفه، واجه خصمك وأضرب كلين، محترمش حد جاب فيوز علي حساب الناس“. ثم قام باتّباع مجموعة من القواعد الجديدة لحياته كمغنّي راب، في واحدة من أبرز لحظات الراب العربي المتفجرة بالحماسة والمهارة في رأيي: مش نيو ولا أولد، أنا غولد، أنا أنا، شكراً على الطوب اللي اترمى، اتبنى بيه كذا جبل، أنا الندم اللي ردم بحر الذم فن السحق زن صح، ويعود ليقول: قلب في السطور قلّد وخلّد الأسلوب، عمر ما اللسان يتوه طول ما اتكلّم في الأصول، خدها منّي حكمة، الغيرة كحول طبي“. متكلّماً عن قصة نجاحه في عبور أزماته الماضية: فتح عينه الاكتئاب/ فتح بيت من القزاز/ نيل من الراب/ آخرك لما تميل تروي كاسفي حديث مباشر حول علاقة المعاناة والاختبار بالقدرة على غناء الراب. ثم يكمل:لحظة انتكاس/ بالكاس الماضي يدوم/ خدت حاجة؟ محتاس مش راضي يقول، لازم المرادي يقوم/ حُط اللاب على الترابيزة/ افتح الشباك/ هوّي الأوضة/ بطّل عطلة وخيبة/ بنوصل بعد تعب/ أنا واللحن معاً/ احكي حب واحكي زعل/ انفعل/ نحت مُفتعل/ نزل تحت فاشتعل/ ارتحت فزوري مش هاتشحتف وأخدعك“. متحدّثاً عن الفشل والشعور بالضياع وفقدان الحب، ومجاهدته في الخلاص عبر الكدح في الراب. متحدّثاً عن الراب كطاقة إعادة تشكيل الذات، وعن خلق أنوات بديلة Alter-egos، مثل بيكاتشوورعد” (شخصيات كرتونيّة) وغيرهما: كـMC كـرابر/ كائن من كوكب آخر/ عن طريق يوسف بوصلك وأناولك طاقة/ إخلاصي لقلبي من راسي/ فكي للمايك ضرب مني مبتكر ستايل/ جهل/ أوعى تفتكر الطاي سهل/ لأ صعب/ رعد قاسي في الماضي سيلابيل ثلاثي/ ومشغّل دينامو فلساني“.

ميرسي 3: العودة إلى العدوانيّة الصريحة

https://soundcloud.com/abyusif/abyusif-merci-3-al-hamorabi-diss

رغم قناعته الراسخة بأن الدِس يعمل على إشهار من يوجّه له، وأنّه دليل على استسلام لضعف غاضب، لا تطول هذه الفترة المثاليّة كثيراً عند أبيوسف، بل يرجع في ثلاثة ديسات يعلن في أولها، ميرسي 3، أنّه ماجيفر على البيت أعمل من الخردة بومبا/ أفشخك راب وأنا بفشخك في مورتال كومبات/ غلس موت بغيظك/ هاتشوف ليلة خرا/ هاحط التليسكوب في طيزك، في عدائيّة صريحة موجهّة، معبّراً عن دونية الآخر: مستواك شرابي/ أقلعك تبقي فاضي، ودا رد ديسّي/ دا مجنون دا بيجازف/ بيتفرج على سلسلة القادمون/ غبي وساذج/ عشان كده عمري ما لمتك/ بم بم تك بديك في جمجمتك، واللهو في التعابير والأفكار: كليباتك إعلانات نضارات شمس/ أركبك آلة الزمن يالا أراك أمس“.

لماذا هذه القلّة في الأصوات الأصلية؟

يقول أبيوسف في بس حلو: “من كوكب تاني خالص جيت كوكبكم كقنصل/ لقيتكم غنم على المايك، بقيت أوفيشيال سبنسور، مستخدماً تفرده وأصالته لرسمها شعريّاً. أبيوسف آتٍ من مكان مغاير تماماً، يرى الأمور من أعلى، بوضوح، بدلاً من أن يكون غائصاً في معمعاته.

ربّما يكمن هنا جواب سؤالنا في رصد انتقال ظاهرة موسيقيّة مثل الراب من سياق ثقافيّ معيّن إلى سياق ثقافيّ آخر مغاير. فمن الصّعب تناول قالب ومحتوى كاملين من ظاهرة موسيقيّة في حالتها الأصليّة الكاملة بما تحتويه من غناء على إيقاعات وموسيقى غربيّة بلغة أجنبيّة من دون تحويلها إلى ظاهرة محليّة تعيد بناءها كما حدث في موسيقى المهرجانات مثلاً. فتناول القالب القياسي مع تحويل بعض عناصره، كتطعيمه بإيقاعات وعيّنات شرقيّة، مع الحفاظ على تقليد ثانٍ لأفكار وأساليب القالب الأصلي (وهو الشكل الأكثر شيوعاً للراب العربي) والاعتماد على طرح استشراقيّ معكوس بالارتكاز على محتوى نصّي عربي؛ قضايا ثورية، قيم شرقيّة ودينيّة، هويّة عالم ثالثيّة يمكن أن يعتبر نتاجاً عولميّاً قبل أي شيء.

لكن، وبعد سنوات من محاولات الإجابة على تساؤلات الأصالة والهوية وإعادة الإنتاج، بما أنتجته من ظواهر وإمكانيات موسيقيّة جديدة بعضها حقيقي وبعضها مليء بالألغام، ظهر أبيوسف.

المزيـــد علــى معـــازف