.
تروى ثلاث حكايات حول نشأة تنويعات جولدبيرج. تقول الحكاية الأكثر شهرة والأقل تماسكًا إنّ باخ كتبها من أجل الكونت الروسي هيرمان كارل كيسرلنج، لتساعده في التغلب على الأرق. هناك أجزاء مهدهدة إلى النوم من المقطوعة، لكن المقطوعة بأكملها حتمًا ليست كذلك. تقول الحكاية الثانية إن باخ أعجب بفكرة تنويعات هاندل الأربعة وستون التي نشرها عام ١٧٣٣ (قبل نشر مقطوعة باخ بثمانية سنوات)، وأراد خلق نسخته المطوّرة من الفكرة. أما الحكاية الثالثة والأكثر قابليةً للتصديق بحسب مؤرخي الموسيقى، فتقول إنّه كان هناك فتى صغير موهوب لُقب بآكل النوتات الموسيقية لبراعته في حفظ وعزف النوتات، ضمه الكونت هيرمان كارل كيسرلنج إلى بلاطه ليعزف آلة الهاربسكورد، في الوقت نفسه طلب الكونت من باخ أن يدرّب آكل النوتات الموسيقية، وذات يوم أعطى باخ الفتى يوهان جوتليب جولدبيرج ذو الأربعة عشر عامًا مقطوعة طويلة معقّدة ليتدرب عليها، والتي نشرها باخ فيما بعد تحت اسم تنويعات جولدبيرج عام ١٧٤٤.
فكرة المقطوعة قائمة على سربندة (موسيقى ذات شخصية هادئة ودقيقة، وإيقاعٍ بطيء) تحمل خطّ الأساس لإيقاعِ الثلاثين تنويعة بعدها. تشتق التنويعات لحنها من السربندة صعودًا حتى التنويعة رقم ١٥، حيث يرسم باخ خطًا وهميًا يقسم التنويعات إلى نصفين، في بناءٍ هندسيٍ بديع ومزيّن بجمالياتٍ ثقيلة – وجد العازفون على مرّ التاريخ متعةً في محاولات تفكيكه وفحصه حتى أصغر جزيئاته، بحثًا عن أكثر التأويلات مطابقةً لما كان يدور في عقل باخ.
كتب باخ المقطوعة حتى تُلعب على آلة هاربسكورد بكيبورد مزدوج، ولم يكن لديه تصور عن شكل البيانو الحديث، لذا توجّب على العازفين لعب مقطوعة مصممة كي تعزف على كيبوردين اثنين بدلًا من واحد. بعد سنوات طويلة من وفاته، تم توزيع التنويعات إلى آلات البيانو، البيانو المزدوج، الأورغن، الأوركسترا، الثلاثي الوتري، الجيتار، الأوكورديون وغيرها. احتار عازفو البيانو والهاربسيكورد كثيرًا أمام التنويعات الثلاثين، أصبح عزف المقطوعة حلمًا يطارد المجتمع الموسيقي، حلمًا يتطلب قدرًا عاليًا من البراعة والسرعة وخفة اليد والأصابع، والعاطفة.
لا توجد قواعد محددة لعزف التنويعات. كتب باخ النوتات فقط، دون تحديد الإطارات الزمنية أو سرعة العزف، كما لم يضع أية تزيينات، لذا توجب على كل عازف للمقطوعة أن يصنع شخصيّةً خاصّةً لنسخته، سواءً عبر التزيينات اللحنيّة (نوتات موسيقية إضافية تبرز اللحن وتحدّد ملامحه) أو الإيقاع؛ ما جعل من التنويعات تحدّيًا كبيرًا للعازفين.
يبدأ باخ بمقطوعة صغيرة رقيقة (آريا) تحمل قدرًا من البساطة والعذوبة يوشي بأن شيئًا جميلًا على وشك الحدوث، تحمل بين طياتها وقود المقطوعة ككل حتى نهايتها، ليس كثيمة، بل أقرب إلى خطّ أساسٍ يسير عليه ثلاثين لحنًا متنوعًا. تسري الآريا بهدوءٍ ورفق، وبمجرّدِ أن تنتهي، بلا سابق إنذار، تدخل التنويعة الأولى منعطفًا موسيقيًا وعاطفيًا حادًا، لتبدأ رحلة من منحنيات وعرة ومتناغمة داخل بناء هندسي متناسق: آريا و١٥ تنويعة ينظرون في المرآة لتقابلهم ١٥ تنويعة أخرى وآريا.
مع كل ثلاث تنويعات، يوجد متتابعة موسيقية اخترعها باخ في القرن الثامن عشر، تُدعى كانون. فكرة الكانون المبسطة أنها ثيمة موسيقية واحدة تُلعب مقابل نفسها، عن طريق إضافة ألحان محاكية للثيمة الأساسية تسمّى بالألحان التابعة. تبدأ الثيمة الرئيسية بمفتاح عزفٍ معين، ثم بعد فترة من العزف تدخل نسخة منها بنفس مفتاح العزف، وبعد نفس الفترة تدخل نسخة أخرى وأيضًا بنفس مفتاح العزف، وهكذا. ونظرًا للتعقيد الهارموني لهذه الفكرة، يجب أن تكون الثيمة ذات طبيعة لحنية مزدوجة أو ثلاثية أو رباعية حسب تعقيد المقطوعة، بمعنى أن الثيمة يجب أن تخدم المقطوعة لحنيًا وتناغميًا، والنتيجة تكون ثيمة رئيسية يليها مجموعة نسخ محاكية لها ومتتابعة في إطارٍ زمنيٍّ متساوٍ، تدخل الأذن بتناغمٍ يستطيع فيه العقل التمييز تلقائيًا بين الرئيسي والتابع، دون الشعور بأي تشكك في الهارمونية.
تضم تنويعات جولدبيرج تسعة أبنية من هذه الهندسة. يحمل الكانون الأول صوتين بلحنٍ على نفس الدرجة من السلم الموسيقي، ويحمل الثاني صوتين ثانيهما على لحنٍ أعلى من الأوّل بدرجة، والثالث يحمل صوتين ثانيهما أعلى من الأول بدرجتين، وهكذا حتى الكانون الأخير الذي تصبح فيه المساحة بين الصوتين تسع درجات. نحن إذًا أمام مقطوعةٍ تأخذ كل حركة ثالثة فيها شكلًا حسابيًا، و يأخذ كلّ شكلٍ حسابي شكلًا يختلف عن سابقه. هيكل داخل هيكل، كل حركة محسوبة بدقة، وكل مجموعة تتناسق حركاتها الداخلية مع حركات جارتها ومع الحركة الكلية للمقطوعة، في بناءٍ متماسك ومتناغم، مع ذلك يتسم بمرونةٍ في التأويل.
مثل السفينة الدوّارة في الملاهي، تبدأ الآريا بطيئةً في سلم جي (صول) الكبير في المقدّمة، ثم تنطلق بشكلٍ متعرج خلال التنويعات الثلاث الأولى المفعمة بالطاقة والشاعرية. تظل الحركة في ازدياد وتناقص، كالمد والجزر، ورغم التقلبات، من الصعب على الأذن ألا تشعر بنعومة الانتقال بين حركة وأخرى. التنويعة العاشرة عبارة عن فوجة؛ بناء يشبه الكانون لكنه أكثر تطورًا وتعقيدًا وأقل جدية وصرامة، اشتهر به باخ في أعمالٍ عديدة. مع كل مجموعة حركات، يزداد الثراء الموسيقي، وعندما نصل إلى التنويعة الرابعة عشر، التي وصفها جلين جولد بأنّها «طائشة مصابة بالدوار»، يصادفنا حس فكاهة باخ، موسيقى مباغتة ومدغدغة يمكننا معها تخيّل الحسم والسرعة في حركة أصابع العازف على البيانو. مع دخول التنويعة الغامضة رقم ١٥، يتّضح تباين حاد بين التنويعتين أسّس عليه باخ خطًا ميلانكوليًا طويلًا يتبع سلم إي (مي) الصغير ويفصل المقطوعة إلى جزأين. تحوُّل جوهري في المزاج لكنه منسجم مع السياق العام.
تحمل التنويعة السادسة عشر افتتاحيةً فرنسية (تكوين موسيقي استخدم بكثرة في موسيقى الباروك) مفعمة بإيقاعات محدّدة وألحان مهيبة. تستمر المنعطفات اللحنية حتى التنويعة الرابعة والعشرين، التي تحمل عدة انفعالات تنذر بما هو قادم. وصفت عازفة الهاربسكورد البولندية واندا لاندواسكا، والتي كانت أوّل من يسجّل تنويعات جولدبيرج على الهاربسكورد عام ١٩٣٣، بأنها “اللؤلؤة السوداء للتنويعات”، نسبةً إلى سفينة قراصنة الكاريبي. هي التنويعة الأطول والأثقل تعبيريًا، تختلف صيغتها اللحنية عن بقية التنويعات من حيث الشكل والمضمون، بإيقاعٍ بطيء ومؤلم، ودقات بيانو حادّة على سلّم جي (صول) الصغير. دسّ باخ هذا الجمال المظلم بحذق داخل مقطوعة تغلب عليها روح الربيع، ليزعج ألفة المستمع الذي اعتاد على تلوّن الأنغام حتّى هذه التنويعة.
يتحرك باخ برشاقة إلى مزاجٍ آخر من التنويعة السادسة والعشرين حتى التاسعة والعشرين، بنغماتٍ متسارعة وحادة، يستقبل المستمع ألوانها الحيّة بعد خروجه من التنويعة الغامضة. وفي التنويعة الأخيرة، يضيف باخ إلى تلك التركيبة الموسيقية أغنية من الفلكلور الألماني، كودليبت، قبل الرجوع إلى نقطة الانطلاق بعد رحلة من التقلبات العاطفية، بلحن آريا ذاته التي بدأ به المقطوعة، واضعًا آخر طوبة في بنائه الهندسي.
أهمل العالم الموسيقى تنويعات جولدبيرج بعض الشيء لتعقيدها وصعوبة فهم المداخل السليمة لعزفها، حتّى بزغ عازفٌ كنديّ لا يستطيع منع نفسه من همهمة اللحن خلال العزف، جلين جولد، وقدّم تأويلًا أدهش العالم. امتلك جولد نظرةً لمّاحةً في فهم مقاصد باخ، وتكنيك عزفٍ مثيرٍ للتأمل، أعادا توجيه أنظار العالم نحو التنويعات بالتحديد، وموسيقى باخ بالعموم.
فتح جولد مدخلًا إلى عالمٍ جديد، لينطلق عشرات الموسيقيين من بعده في دراسة باخ واستنتاج تأويلاتهم الخاصة. هناك اليوم عشرات النسخ المختلفة من نفس المقطوعة، الإيقاع البطيء والسريع والمتوسط، اللحن المثقل بالزينة والمتواضع والمقتضب، مع ذلك بقيت نسخة جلين جولد لعام ١٩٥٥ الأكثر تداولًا لفترةٍ طويلة.
بدأ جولد دراسة التنويعات في سن السابعة عشر، وعندما نشر تسجيلاته لها للمرّة الأولى كان في الثانية وعشرين. في رؤيته الأولى، تفادى جولد تكرارية اللحن قدر الإمكان، واتبع نهجًا ذو روحٍ شابّة بخطوطٍ لحنية واضحة في تأويله، يقصد به استخلاص الجوهر الموسيقي، مع مراعاة أقل للبعد السنتمنتالي والتباين بين العواطف التي تبثها كل منطقة في المقطوعة، ما أفسح المجال لرشاقة عزفه. بحسب معظم النقاد، وحتّى جولد نفسه، كان التأويل الأوّل مندفعًا، بحاجة شيء من الحكمة، ويتخلله بعض الفتور، إلا أنه كشف على كل حال طرقًا خفيّة نحو فهمٍ أعمق للمقطوعة.
ترك جولد بصمته على التنويعات مرتين، وكلتا المرتين كانتا علامات اهتداء في تاريخ الموسيقى. بعد سنواتٍ من احتفاء العالم بنسخة ١٩٥٥، بدأ جولد بملاحظة أخطائه في العزف، وسرعته التي وصفها لاحقًا بأنّها غير مريحة. مع ازدياد نضجه، تولدت لديه الرغبة بإعادة تسجيل التنويعات. أراد جولد لنسخته القديمة أن تموت وتبعث من جديد، في بهاء شبابها وحيويّتها، فغاص إلى أعمق نقاطها وراح يهدم ويبدل ويصلح ويبني من جديد.
في رؤيته الثانية لعام ١٩٨١، انتهج جولد تأويلًا أكثر رصانة، من حيث الألوان والصياغة والعزف. ساعدته التكنولوجيا حينها على إعادة الاستماع إلى أدائه والتسجيل مرارًا وتكرارًا حتى يصل إلى مقصده. إن كان باخ يقدس شيئا بعد الله، فهو التناغم، لذلك راعى جولد الانعطاف السريع بين الأمزجة، خصوصًا قبل كل كانون، الأمر الذي يتطلب الحذر حتى لا تفسد الهارمونية بين مزاج المقطوعة ككل ومزاج كل وحدة من وحداتها على حدى. نستطيع التمييز بين التعجل في النسخة الأولى ذات الـ ٣٩ دقيقة والتأني في الثانية ذات الـ ٥١ دقيقة، واستشعار الفارق بين الطاقة المبعثرة في الأولى والمُتحكم بها في الثانية.
تخلّى جولد عن إيقاعه المتهور، وعن جزء كبير من نرجسيته، وتنقل بمرونة بين أجزاء المقطوعة، بالقوة والإيقاعية التي تبعُد عن نسخته الأولى، دون المساس بصلابة الهيكل العام. كذلك، ربط جولد بين الطبيعة اللحنية للمقطوعة وشخصيته، عبر زخرفات جمالية تفتح الأبواب للعاطفة القوية النابعة من كلتيهما؛ تتدفق الحرارة من أدائه منذ بداية الأريا الأولى وحتى نهاية الأخيرة. شكّل تسجيل جولد لنسخة ١٩٨١ آخر زيارة له للاستوديو، إذ توفى بعد إطلاقها بعدّة أيام، مخلفًا أكثر نسخ التنويعات مبيعًا وشعبية حول العالم، وتاركًا أثره على قراءة باخ وتأويله.