.
توفي الشيخ أحمد برين في الأول من آذار ٢٠١٥، بعد أن أصبح فناناً عالمياً يُسمع في العالم أجمع وتنتج أعماله شركات عالمية. حدث ذلك دون سعي من قبله أو اهتمام كبير، وفقط بعد سنوات طويلة من الكدح والعمل في الأرياف والمدن المصرية، تخللتها عروض قليلة في القاهرة.
سطع نجم برين على أشده في السنوات الأخيرة من حياته، بعد أن فتحت الإنترنت عالماً من الموسيقى غزيراً ومتنوعاً وعصياً على الإحاطة، والأهم من ذلك، حراً تماماً من شروط ومعايير السوق وآليّاته التي تنجّم أسماء وتميت أخرى تبعاً لمعايير لا تُعنى بالجودة. أدناه سنلقي نظرة سريعة على مشوار البرين وتجاربه المختلفة.
هكذا بدأ يسطع نجم مغني الإنشاد الجنوبي لدى قطاع عريض من الشباب الذين لم يعرفوا شيئاً عن هذا الفن قبلاً. أسماء مثل ياسين التهامي وأحمد التوني، وأحمد برين ومحمد العجوز أصبح يحتفى بها. الاسمان الأولان سبقت شهرتهما الرواج الإلكتروني بسنوات، لتواجدهما في المحافل الفنية بالقاهرة، بالإضافة إلى اقتحام التهامي عالم الكاسيت كصوت ديني إلى جانب أصوات الغناء الشعبي لدى قطاعات كبيرة من جمهور شريط الكاسيت “أبو تلاتة أو أربعة جنيه“. إلا أن قصة برين والعجوز ترتبط بالإنترنت بشكل محوري. صحيح أن الشيخ أحمد برين أصدر ألبوماً منفرداً العام ٢٠٠٣ من إنتاج معهد العالم العربي بباريس بعنوان أغاني صوفيّة، وصحيح كذلك أن نجوميّته في جنوب مصر سبقت حضوره الافتراضي بأربعين عاماً، وأن العجوز كان قد تحوّل إلى نجم غنائي، لا إنشاد فحسب، حتى موته في ٢٠١٠، إلا أن مدائح البرين انتشرت كمقاطع MP3 بصوته الذي بدا أكثر حوشيّة أكثر صعيدية إن جاز التعبير، أقل فصاحة من صوت سابقيه التوني والتهامي، خاصة وأنه لم يستعن– مثلهما– بآلات موسيقيّة كثيرة، ولم يغيّر أسلوبه بدعوى التطوير. ظل البرين مدّاحاً “صييتاً” دون أن تجذبه النجوميّة القاهريّة، على الرغم من حفلاته العديدة فيها. كان البرين دوماً يعود إلى إسنا، في محافظة الأقصر.
تتّفق مدائح الشيخ أحمد برين في بنيتها الموسيقيّة مع غناء حكواتيّة الجنوب، ساردو السيرة الهلالية والزناتي خليفة، حيث يضبط الإيقاع الدف والطبلة، كما ينتجان اللازمة الموسيقيّة التي يقوم عليها المذهب الأساسي، الذي منه ينطلق المداح وإليه يعود. الفرق البسيط بين المديح والسير هو أن الثيمة الموسيقيّة الأساسية في المدائح مستقاة على الأغلب من إيقاعات حلقات الذكر، حيث يردد المتصوفة “الله” أو “ح” بإيقاع ثابت. من المذهب أو اللازمة الأساسية يرتجل المداح الكلام والموسيقى، منها ما يتناص مع القرآن أو المدائح الأقدم الأشهر، ويختلط الديني بالدنيوي فيها والحكمة بالحكاية، كما يمكن أن نسمع في مقطوعة علبة الصبر.
في المقطوعة الأشهر لأحمد برين، وهي فرش وغطا مع قريبه وتلميذه محمد العجوز، يقول:
علامة السبع يستحمل قسى الأيام
يمشي مع الوقت ولا يشكي من الأيام
ويجابل الضيف بالوجه البشوش أيام
ويكرم الضيف شتا مع صيف ميملش
لو أتته كلمة ومن غير بال ميملش
يكلها بالملح والفرفات ميملش
السبع ميملش ولو حكمت عليه الأيام
فرش وغطا تعني أن كل مداح يرتجل ما يقوله، ليرد عليه الآخر بمثلها، فيصيران فرشاً وغطاءً الواحد منهما للآخر. في هذا الإنشاد البديع، يتضح سريعاً أن ثقل وخبرة أحمد برين في الإنشاد المرتجل تجعل كفته أكثر رجوحاً من كفة العجوز. ولكن هذا لا يظهر بعنف واستعراض، بل بحنان الخال على ابن أخته، الذي يعمله دون أن يغلبه. لا يملك من يستمع إلى التسجيل الممتد لأكثر من ساعة إلا أن يلمس العلاقة الخاصة بين برين والعجوز. الكيمياء ما بينهما جزء من سحر التسجيل، خاصة وأن ارتجال العجوز يبدو وكأنه من معين أحمد برين.
في منتصف الثمانينيات، قرر العجوز أن يستقل عن برين وبطانته ليغادر إلى القاهرة، ومنها إلى العالميّة حيث أقام عدداً من الحفلات في أوروبا. بعد ذلك تمّرد على المديح تماماً في شريطين متتاليين يمكن أن يطلق عليهما عاطفيين بتوزيع موسيقي كامل، أولها هو أشكرك، وتبعه أرفضك. لكن إثر حادث سيارة عام ٢٠١٠، مات التلميذ قبل أستاذه الضرير، وبعد أن خرج من بطانته وطريقته ومزاجيّته المغلقة على الصعيد وإنشادها.
وقبل حوالي شهر، مات أحمد برين في الصعيد كما أحب أن يعيش، تاركاً لنا سحر المديح وذلك الشجن الذي لازم صوته حتى وفاته، كأحد أواخر المنشدين الحكّائين من السيرة الشعبيّة، إلى الموشّحات، حتّى إلى التأثّر بالغناء الكنيس القبطي. وربّما أضاف ضرر عينيه زهداً في الشهرة وقاهرتها وعالمّيتها، فلم تُغره أضواء الحداثة بالعاصمة، لكن عوالمها الافتراضيّة أحضرته إليها، ليصير واحداً من أيقوناتها البديعة.