.
لا أزعم معرفة كتبية بتاريخ الموسيقى أو بأنواعها ومدارسها. وليس في مكتبتي كتب لمتخصصين في الموسيقى. أعرف استيحاء ليفي ستروس في الميثولوجيات Mythologies أحد أشهر كتب ليفي ستراوس نموذج الموسيقى لبناء منهج لتحليل الأساطير. وأعرف من سيَر البعض من كبار الموسيقيين أكثر ممّا أعرف موسيقاهم معرفة نظرية. وأكثر ما يسعني استحضاره من كلام حسّاس وذكي في صدد الموسيقى صفحات لرولان بارت Roland Barthes مفكر فرنسي تتخلل أعمالاً مختلفة له. وأمّا في الجهة الشرقية، فيستهويني بسهولة ما قد أقع عليه في مجلّة أو جريدة، وتثير فضولي كثيراً أخبار الموسيقيين والمغنين بما هم بشر. آخر ذلك كتابان قرأتهما تباعاً في السنة الماضية يتناولان حياة أسمهان.
الموسيقى متحدة اتّحاداً تامّاً بطريقتي في الكتابة. والوسيط في هذا هو التّنفّس الذي أرعى إلزاماته في تطويل الجمل وتقصيرها وفي العلاقات بين عناصرها. أسايره وألعب به دون توقّف في آن. قلّما أستمع إلى موسيقى وأنا أعمل. يحصل هذا أحياناً خصوصاً وأن أجهزة اليوم اصبحت تتيح السماع المنفرد. فلا تفرض مزاجك السماعي على من في البيت. ولكن الموسيقى في علاقتي الأولى بها كانت نادرةً ثمينة. فاعتدت أن أتفرّغ للسماع ولا أفعل شيئاً يصاحبه. أكثر ما أستمع إليه في السنوات الأخيرة أستمع إليه في سيارتي في زحام بيروت أو على طريق الجنوب الطويلة. عندي كنز من التسجيلات على هاتفي وتجهيز جيد في السيارة. ولكن لا أعرف دائماً ما هذا الذي أستمع إليه الآن!
أتردد في تعيين الأغنية الأولى. كنا نتوقف في بنت جبيل أمام منزل من المنازل النادرة التي كان فيها جهاز راديو أو نستمع إلى ما يذيعه راديو المقهى وسط ضجيجه. وأذكر أنني ذهبت مرّةً واحدةً، على الأقلّ، إلى منزلٍ في البلدة القديمة كان صاحبه يملك غراموفون يدار باليد وكان يسمعك أغنية لقاء خرجيتك! ولم يصبح في بيتنا راديو إلا حين بلغت الخامسة عشرة من عمري تقريباً. وكان علينا أن نراعي ذوق الأهل ونفورهم من معظم الأغاني وتفضيلهم الأخبار والتعليقات. وكان علينا أن نراعي البطّارية أيضاً. إلى أن وصل التيار الكهربائي إلى ديارنا وشاع الترانزستور المصحوب بمسجلة بعد ذلك بقليل. مع ذلك أذكر أنني حين كنت في حدود العاشرة كنّا منقسمين إلى “حزبين“: حزب محمد عبد الوهاب وحزب فريد الأطرش! وكان علينا أن نكتفي من المعرفة بأغاني المطربين بحفظ كلمات الأغاني من كرّاسات كانت تباع في سوق الخميس عندنا وكنا نسميها قصصاً: “قصة” أسمهان، “قصّة” ليلى مراد… إلخ. ويمكن ان نكون قد تطوّعنا أحياناً لتلحين هذه أو تلك من الأغاني التي لم نكن سمعناها من أصحابها أبداً! مع ذلك يسعني القول أن أولى الأغاني التي بقيت في ذاكرتي كانت حجر لا تزت بعد الشرب بالعين لصباح وعتاب لفيروز وكليوبترا والنهر الخالد لعبد الوهّاب. وحين كنت تلميذاً داخلياً في دير مشموشة في حوالي الثالثة عشرة من عمري كان الرهبان يسمعوننا قبل النوم معزوفات وأغاني مسكرة أذكر منها يا شراعاً وراء دجلة ويا جارة الوادي لعبد الوهاب. وقد ترك هذا في ذوقي اثراً دائماً. الأثر الدائم الثاني تركه راهب فرنسي كان يدعى الأب بيروز درّسنا في سنتنا الأولى في الجامعة اللبنانية تاريخ الموسيقى وعلّمنا الاستماع إلى الأعمال الكلاسيكية الغربية. في تلك الآونة، كان بيتهوفن هو المفضّل عندي. ولكن مع الوقت مالت ذائقتي إلى باخ وموزارت. ولا أزال على هذا الى اليوم. أن الصداقة كانت على الدوام مرشد ذوقنا في الموسيقى. فكنا نتبادل التوصيات لنعرف ما يستحسن شراؤه من التسجيلات حين بدأنا نكوِّن مجموعات. وكان كل منا يعرف ذوق الآخرين. وبعد الأصدقاء جاءت ابنتاي التوأمان اللتان أمضتا معنا ثلاثين سنة كان البيت دائم العزف طوالها. وقد تعلمنا منهما وتكيفنا بهما. وقد أصبحت إحداهما عازفة فلوت والثانية عازفة غيتار وهما تعزفان في فرق أحياناً ولو دون احتراف. ولا ريب أن حضور الموسيقى في بيتنا تقلص بعد سفرهما إلى الولايات المتحدة حيث لا تزالان مقيمتين. بصدد العزف كنت قد تلقّيت دروساً أولى في البيانو على يد الأب يوسف الحلو في مدرسة مشموشة الداخلية. ولكنني بقيت عند الخطوات الأولى ولم يظهر مني ما يدل على ولعٍ أو موهبة. ولم أعاود المحاولة حين اقتنينا بيانو لابنتينا في المنزل. وهو اليوم عاطل كلّياً عن العمل ويحتاج إلى دوزنة.
ليس عندي شكّ في أن الموسيقى والغناء اشتركا في إملاء ترسيمات على العلاقات العاطفية. وأرجّح أن هذا أصبح اليوم أندر حصولاً أو أدنى أهمّية مع جلاء الرومنسية عن الأمزجة الشابة. أشعر أن موسيقى السهرات الجماعية التي يقصدها الشباب لا تخاطب العلاقة الإثنينية بل هي أميل إلى دمج الفرد في جماعة وإلى تعزيز عزلته أيضاً على ما في هذا من مفارقة. وأما الدور العامّ للموسيقي في المضمار العاطفي وفي غيره فأراه متّصلاً بانتظام السماع وهو ما لا أرجح توفّره في بيوتنا. كذلك يختلف هذا الأثر باختلاف الأذواق الموسيقية خصوصاً وأن “العرض” قد اصبح شديد التنوّع وغير محدود عمليّاً
لا أرى ضيراً في استمرار المفردات الشائعة في الأغاني وما تمليه من مناخ ومن ترسيمات للعلاقات. الفنّ قد يقول أن شيئاً لا يزال مستمرّاً وقد يقول أن شيئاً يفترض أن يوجد وقد يقول أن شيئاً قد زال. وليس رجعية أن تتخفف من تعبك باسترجاع شيء تعلم أنه مضى. هذا نوع من الحلم وعلى الموسيقى أن تجعلنا نحلم. لكن على الأحلام أن لا تقبل الاحتباس في وجهةٍ أو مدار. تسوء الحال حين تظهر مواقف نبذية تحشر الذائقة في بعدٍ واحد.