fbpx .
Ahmet Kaya
أجنبي قديم

المتعبون في اﻷرض | أمّة أحمد كايا

ياسر عاشور ۲۰۱۸/۰٤/۰۲

هل حدث وسمعتم غناءً بلغة لا تعرفونها أبدًا بيد أن شعورًا ما تملككم بأن هذا الصوت يُعبر عنكم، يمثلكم، بل ويغنيكم أيضًا؟ ثم ما لبث أن نمّا ذلك الشعور شجرة من الفضول تدفعكم للبحث عنه، بل حتى للغرق وسط فوضى هذه اللغة الغريبة في رحلة استكشافه؟ أنا غرقت.

حين وصلت إسطنبول للمرة اﻷولى قبل سنوات، شدّني صوت على الراديو في تاكسي كنت أستقله للانتقال للسكن الجديد في طرف المدينة، كان إحساسه ينتمي إلينا وننتمي إليه، لم أحتج أن أفهم كلمات الأغنية لأدرك ذلك. كان صوتًا فيه الكثير من حُزننا نحن المُتعبون في الأرض.

رفع سائق التاكسي يده عن المقود ولوّح بها مع إيقاع الأغنية التي كاد أن يضل الطريق وهو يُدندنها ويصدح بها مع صوت المطر، حتى أنني شككت أنها وسيلته للبحث عن الدفء في مساء اسطنبولي بارد. “الثلج يهطل في الخارج / تُمطر في داخلي. لا تبكِ يا عيني. توقفي قليلًا” Dışarıda kar yağıyor Benim içime yağmur Ağlama gözbebeğim Biraz daha dur أكمل بآهاته التي امتزجت مع آهات المغني “عمري احترق / أقسم يا مطر / أحلفُ يا طين / ﻻ أستحقُ كل ما جرى / قل لي أين أنت اﻵن وأين أنا”.

بعد تلك الليلة اﻷولى اعتدت أن أواجه ازدحام وسرعة هذه المدينة بزيارة مقهى شعبي قديم في وسطها. في كل زيارة وجدتني أستمع فيه إلى أغانٍ جديدة لأحمد كايا. مرة ساورني الفضول فسألت صاحب المقهى حول سر تشغيل أغاني كايا دون غيره، فرد بتركية مشوبة بلهجة كردية: “Ahmet Kaya halk” أي أن أحمد كايا شعب بأكمله، وأضاف “هو صوت الناس الأحرار لو كان بيننا الآن لغنّى لكل القضايا الخاسرة التي يخاف الناس من التطرق إليها، أنا مجنون بأحمد كايا، كذلك كل من يشرب القهوة والشاي هنا.”

ينحدر كايا من مدينة ملاطيا شرق الأناضول، المدينة التي غنى لها “خرجت من ملاطيا للطريق / الطرقات تحترق / روحي تحترق”. نشأ كايا الابن الأصغر لعائلة من خمسة أفراد. والدته تركية من أرضروم ووالده، عامل النسيج،  كردي من أديمان. اهتم كايا بالموسيقى منذ صغره، فأثناء بدء دراسته الابتدائية في السادسة من عمره أهداه والده ساز، أو كما يسميها الأتراك، باغلاما Bağlama، وهي تشبه البزق لكنها أكبر حجمًا، شاع استخدامها في تركيا منذ الدولة العثمانية واستمر إلى الآن. رافقه الساز منذ طفولته. عمل طفلاً أيام المدرسة في محل لبيع الكاسيت داخل المدينة، ثم عمل بعدها في جمع النقود من ركاب الباصات الصغيرة التي تتنقل داخل أحياء المدينة والتي يطلق عليها اسم دولموش. استمر ذلك إلى أن أتيحت له أول فرصة لإشباع جزء من شغفه بالوقوف أمام الجمهور عندما كان في التاسعة من عمره، حين وقف ليغني أمام عمال من أصدقاء والده في مصنع النسيج كانوا يحتفلون بالعيد في منزل والد كايا.

انتقلت عائلة كايا إلى إسطنبول في عام ١٩٧٢ بحثًا عن العمل واستقرت في منطقة كوجا – مصطفى باشا، بعدها اضطر أحمد لترك الدراسة والعمل بائعًا متجولًا في المدينة الكبيرة، التي بدأ بالتعرف عليها ومحاولة التأقلم مع تناقضاتها. شكّل له الخروج من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة تقع في قارتين صدمة ثقافية واجتماعية صعب عليه التأقلم معها بداية الأمر، إذ فرضت عليه تحديًا كبيرًا مثل التأقلم مع اختلاف اللهجة بين ملاطيا في الشرق واسطنبول في الغرب. ذكر صعوبة التأقلم مرة فقال: “في إحدى المرات ذهبت للخياط وطلبت منه تفصيل بنطال مشابه للذي يرتديه أصحابه في المدينة كي أشعر أنني واحد منهم،”  لكن شعور الغربة ظل يحاصره إلى أن بدأ كايا بالاندماج في المدينة شيئاً فشيئًا إثر عمله كسائق تاكسي.

مدخله إلى الفن

في السادسة عشرة من عمره أُلقي القبض على كايا أثناء توزيعه لمنشورات ذات طابع سياسي صادرة عن جمعية الشعب الموحد المعارضة للحكومة وقتها. أُفرج عنه وأكمل نشاطه السياسي مع الجمعية التي التقى في إحدى فعالياتها بجامعة البوسفور بروحي سو Ruhi Su أحد فناني الموسيقى الكردية. كان كايا مولعًا به ويناديه “روحي أسطة” أو المعلم روحي.

عزف كايا أمامه على الباغلاما أغنيته الشهيرة  محسوس محل mahsus mahal. عزفها بطريقته التي لا تشبه غيره، والتي خلقها بنفسه وتعلّمها وحده منذ أن أهداه والده سازه الأول. أسلوبه هذا تحول لاحقًا إلى مدرسة خاصة، لكن يومها أغضبت طريقته هذه المعلم فقاطعه قائلًا “لا يُعزف البزق كرفس الحصان، لا تتشاجر مع البزق، اعشقه”. هنا ضاعت فرصة بناء علاقة بين كايا ومعلّمه الروحي، وبات بعدها كلّما عزف بطريقته يردد أمام أصحابه قوله: “والبزق يُعزف هكذا أيضًا.”

الزوج اﻷكثر مبيعًا

تعرف أحمد كايا على أمينة كايا خلال عمله في فرقة الأوركسترا الموسيقية العسكرية خلال خدمته العسكرية عام ١٩٧٨ في شبه جزيرة غاليبولي التركية، تزوجها عام ١٩٨٢ وأنجبا ابنتهم الأولى شيدام. بعد عودته من الجيش عانى كايا من البطالة، ما دفع زوجته إلى هجره، ليتزوج ثانيةً من قولتن خيال أوغلو، التي تعرف من خلالها على أخيها الشاعر يوسف خيال أوغلو، والذي كان بدوره علامة فارقة في حياة كايا الفنية، إذ لحّن الكثير من أشعاره وغناها.

أصدر أحمد كايا أكثر من عشرين ألبومًا، بدأ بتسجيلها عندما أنشأ وزوجته الثانية استوديو إنتاج في إسطنبول أسموه GAK وهي الأحرف الأولى من اسميهما Gülten Ahmet Kaya، وأصبح مقرًا لإنتاج أغانيه، ثم كانت بعدها بداية العمل بينه وبين يوسف خيال أوغلو في ألبوم بعنوان الديمقراطية المُتعَبة Yorgun Demokrati. ليصدر في عام ١٩٨٥ ألبومه الأول لا تبك يا صغيري الذي احتل قائمة الأكثر مبيعًا في تركيا، لكن الرقابة تدخلت وجُمع الألبوم من السوق ومُنع من التوزيع بسبب محتواه السياسي الداعم للقضية الكردية.

بيع أكثر من مليونين ونصف نسخة من ألبوم أحمد كايا الرابع عشر، الذي احتوى على أغنية نداء الحرية özgür çağrı التي غنى فيها “أخوك يومًا ما سيعود من الجبل احتضنه يا صغيري” وفسرت على أنه هناك علاقة بين الجبل وحزب العمال الكردستاني PKK المصنف إرهابيًا والمحظور في تركيا، وبسبب هذه الكلمات تم مرة أخرى جمع ألبومه من السوق ومُنع من إقامة الحفلات. ذاع بعدها صيته بين الناس الذين أحبوه وانتموا إليه وأصبح مغني الشعب على اختلاف أعراقهم وقومياتهم.

الحفل والعقاب

في شباط ١٩٩٩ نظمت جمعية صحفيي المجلات حفلًا لتوزيع الجوائز على الفنانين، مُنح فيه أحمد كايا جائزة أفضل مغني للعام. في كلمته، توجه كايا بالشكر للشعب التركي ومنظمات حقوق الإنسان والصحفيين القائمين على الحفل، وصرح مبتسمًا أن ألبومه القادم سيحتوي على أغنية كردية واحدة يغنيها بلغته الأم، وسيتم تصويرها لتبث على محطات التلفاز، ثم أضاف: “إذا منعوا الأغنية، فلا أدري كيف سيحاسبون أمام الرأي العام التركي؟” ما أن انتهى من كلمته حتى بدأ الحضور من الفنانين الأتراك بشتمه وإلقاء الملاعق عليه واتهامه بالانفصالية، والمطالبة بمحاكمته.

بعدها، اتُهِمَ أحمد كايا بإهانة الوطن، ورُفعت ضده العديد من الدعاوى القضائية في محاكم اسطنبول. زوجته قولتن قالت: “بلحظة واحدة تحول أولئك الأنيقون والأنيقات إلى بهائم، منهم من بدأ برمي الملاعق والشوك وإطلاق الإهانات، خلال خمس دقائق تغير كل شيء، تغير على نحو ١٨٠ درجة، كان تحولًا لا يصدق.”

أضافت زوجته في لقاء مع بي بي سي التركية: “تم تمزيق صور أحمد كايا وتكسير أشرطته وإرجاع ألبوماته وتوقيف بيعها، هي عملية إخفاء عن الخارطة. كانت تأتينا رسائل عبر الفاكس مليئة بالتهديدات بشكل لا يصدق، رسائل ومكاتيب تهديد تركت في علبة البريد الخاصة بنا، كتب في إحدى الرسائل: كيف تريد أن تموت؟ خنقاً بالسلاسل الحديدية أم بطريقة أخرى؟”

مهّدت هذه الحادثة لخروج أحمد كايا من تركيا إلى فرنسا في حزيران ١٩٩٩. صدر ضده حكم بالسجن ثلاث سنوات وتسع شهور أشغال شاقة، لكن لم ينفذ الحكم لرحيله خارج البلاد. في ذات العام سافر إلى ألمانيا وفي مدينة ميونيخ، وشارك في حفلة شعارها “سلام ديمقراطية وحرية” غنى فيها والله اشتقنا يا عبد الله أوجلان Vallahi apo'yu özledik، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل منذ عام ١٩٩٩. تقول كلماتها “أكراد حتى الموت/ اشتقنا للسلام/ أكراد حتى الموت/ والله اشتقنا يا عبد الله أوجلان”، قال كايا لاحقًا إنه دعا من خلالها حزب العمال الكردستاني لإلقاء السلاح.

الموت قهرًا

توفي أحمد كايا في السادس عشر من نوفمبر ٢٠٠٠، في الأربعين من عمره مقهورًا في منفاه الاختياري، حيث قيل إنه تعرّض لنوبة قلبية أنهت مشواره في نقل صوت الخلق، كان ذلك في باريس أثناء تحضيره لألبومه الأخير كروان Karawan الذي احتوى على الأغنية الكردية سابقة الذكر، تقول كلمات الأغنية “حتما سوف أعود يومًا”، غناها بقلب محطم وحزن شديد.

لا أحد يؤثر على الأتراك بصوته مثلما يفعل أحمد كايا. يستمع إليه الجميع في تركيا، قد يختلف معه البعض سياسيًا وفكريًا لكن لا أحد يختلف على صوته وانتقائه للأغنيات التي تخص جميع الأتراك بمختلف أعراقهم وانتماءاتهم السياسية.

بعد وفاة أحمد كايا بسنوات بدأ بعض الفنانين الأتراك بالاعتذار عمّا بدر منهم تجاه أحمد، وزار بعضهم ضريحه في مقبرة Père Lachaise في باريس، كما كرمته الحكومة التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية بعد ثلاثة عشر سنة من وفاته بمنحه جائزة رئاسة الجمهورية للفن والثقافة على الدور الذي لعبته موسيقاه في توحيد الآراء المختلفة. بعد أن مات مقهورًا وحيدًا عاد صوت الخلق يتردد في دروب اسطنبول، عاد ليسكن المقاهي وقلوب الناس ولحظات حزنهم وأملهم، عاد إلى حيث ينتمي، إلى القلب.

المزيـــد علــى معـــازف