fbpx .
موسيقى الثورة

أردن أرض الكوكيز

أحمد الزعتري ۲۰۱۲/۱۲/۲۲

 

فن بناء الفراغ، والاستيلاء عليه

في 17 كانون ثاني/ يناير 2012، دعا الائتلاف الشبابي والشعبي للتغيير إلى اعتصام أمام هيئة مكافحة الفساد تحت عنوان فسادهم يحرقنا، فحاكموهم“.

كان المعتصمون ينادون بهتافات حزبيّة معروفة تنزلق على ألسنة الهتّيفة بسهولة لتطقطق في أطراف كراج الهيئة الذي انتشر فيه عدد من قوات الدرك على شكّل كمّاشة“.

انتهى الاعتصام بسلام وهبوط في الأدرينالين. أمر يشبه العودة من بناء فراغ والاستيلاء عليه.

في 4 شباط/ فبراير من العام نفسه، دعا شباب حراك حي الطفايلةإلى اعتصام أمام نفس الهيئة. وهناك، تم بناء فراغ ومن ثم هدمه بنشوة. إذ عقد شباب حراك حي الطفايلةدبكتهم لأول مرة علناً أمام هيئة مكافحة الفساد. هناك، التفّ الجميع في دائرة كبيرة على الرمل الأصفر بكراج الهيئة، وغنّوا معاً أمام ذهول المعتصمين الآخرين أغنية ستوسم الحراك الأردني إلى الآن.



حبيب الزيودي والأربعين حرامي

في 27 تشرين أول/ أكتوبر من هذا العام، توفي الشاعر الأردني حبيب الزيودي. الشاعر الذي كان صديق الجميع، من قصر البلاط إلى صعاليك الشعراء، كان قد أسّس لنهضة شعريّة أردنيّة جديدة. وذلك من خلال تأسيسيه لمديريّة الثقافة في أمانة عمّان الكبرى، وبيت الشعر“.

ومن خلال هذه الأذرع، اعتقد الشاب الأسمر ابن الزرقاء أنه يعيد تقييم علاقة الكتّاب بالسلطة. فتقرّب من الشعراء الشباب، ودعم نشر كتبهم عن طريق أمانة عمّان. وتقرّب من الشعراء النبطيين وأقام لهم أمسيات نبطيّة في بيت الشعر“. وتقرّب من المنطقة المحظورة التي يهادن فيها الكاتب السلطة ويشدّ على يدها.

ففي مقابل الأغاني التي كتبها للوطن، وهي كثيرة، كان الزيودي شاعر بلاط بامتياز، وكتب عشرات الأغاني التي تحتفي وتمجّد الهاشميين.

ولأن مجال الشعر كان ضيّقاً على هذه المساحة المهادنة، ساهم الزيودي في تنميط الأغاني الوطنيّة، من خلال كتابة أغلب كلمات أغاني عمر العبداللات ومتعب الصقار، والعشرات من الأوبريتات التي تتغنى بالقائد مثل النور أشرق والصباح الباهي، يتعانقان بوجه عبد الله. هو من أبيه ذويه، وجاهه، جاه النبي، ويا له من جاه“.

هذه التجربة جفّفت الأغاني التراثيّة الأردنيّة، وربطتها مباشرة بالـقائدوالأجهزة الأمنيّة. وأقصت التراث الأردنيّ عن مكوناته التاريخيّة المتعدّدة، وألصقته بلون تراثيّ بدويّ ذو بعد واحد.

هذه الأغاني التي أصبحت مادة مناكفة إقليميّة، لتتجاوز سمّاعات معسكرات الجيش في الصباح، لتصل إلى البرامج الإذاعيّة الصباحيّة، وحتى لازمةً رئيسيّة في الأعراس. لتقتل مزاج شعب كامل لا يدّعي أن مزاجه بخير أصلاً.

من إحدى هذه الأغاني، أغنية يا بيرقنا العاليلفرقة الأخوة اللوزيين“. والتي تحوّلت إلى ما يشبه ظاهرة شعبيّة يستحيل فيها أن نلاحظ الفرق بين السلام الملكيوبينها.

وعندما قدّم شباب حي الطفايلةأغنية دبكة الفسادلأول مرة أمام هيئة مكافحة الفساد، كان واضحاً أن الأغنيةالجوفيّة، آتية من مكان عميق ومبتذل في وعينا الموسيقيّ اليوميّ. قبل أن نكتشف أنه تم تلحينها على لحن يا بيرقنا العالي“.

السمّاعة في وسط الميدان

جاءت دبكة الفسادبنفس انقلابي بالمستوى الأول على هتّيفة شبيبة الأحزاب اليساريّة والقوميّة والإسلاميّة. جاء الطفايلة من مكان بائس يسمّى جبل التاجينتج هتيّفةً ومشجعي مباريات كرة قدم محليّة. إذ يستضيف جبل التاج كل قمامة الإقليميّة الأردنيّةالفلسطينيّة بعد معظم مباريات الفيصلي والوحدات. وبينما يشجّع الطفايلة نادي الفيصلي بحكم هذا الفرز، تشجّع القوّة الديمغرافيّة الأخرى في الجبلعشيرة المحسيرينادي الوحدات.

خرج الطفايلة إلى حي هادئ في جبل عمّان ليقفوا أمام هيئة مكافحة الفساد مكتفين وراضين ومستقلين عن مشهد الأحزاب اليساريّة والقوميّة والإسلاميّة التي شقّت المواقف من الثورة السوريّة صفوفها.

في الفيديو الذي تم تصويره، نستطيع أن نستمع إلى ملاحظة عابرة من معتصم كان يراقب الدبكة. “شوف كيف حاطين السماعة بالنص“. كانت هذه الجملة مؤشر على انقلاب على طريقة التعاطي مع تنظيم المظاهرات، وبالتالي: طريقة التعاطي مع الشارع واستمالته وتحريضه على المشاركة في الحراك.

قبل ذلك، كان الهتّيفة يدفعون بكل الأدرينالين الثوري إلى هتاف الحلف الطبقي الغدّار“. كانوا ببساطة ينهمكون في صناعة ذلك الفراغ فعلاً، ويدّعون الاستيلاء عليه. لكنهم، أيضاً، كانوا عاجزين عن القبض على مزاج الشارع الثوري.

وهنا نتساءل، هل فعلاً لدى العمّانيين مشروع مزاج ثوري؟ وهل تحتاج استمالته إلى سمّاعة في وسط الميدان؟

وللإجابة على ذلك، علينا أن نعود قليلاً إلى الماضي الذي شوّهته السلطة بمخابراتها وديوانها الملكي وأجهزتها الأمنيّة.

من التسحيج لفلسطين، إلى التسحيج لمن باع فلسطين

في معان، التي تمتلك تراثاً بدويّاً وريفيّاً يصلها بالبادية العربيّة شرقاً، وحوران شمالاً، بقيت السحجةالأشهر في الأعراس والمناسبات سياسيّة بامتياز. تشيد برجال معان والأردن، وتندب احتلال فلسطين من قبل اليهود وتؤكّد على أنها عربيّة، وتهدّد المحتلين بالدبابات الأردنيّة.

وللمفارقة، تم تشويه هذه السحجة، وإلغاء الجزء المتعلق باليهود والدبابات. وأصبح مصطلح السحجةالآن إشارة للموالاة العمياء للنظام. وذلك بعد أن استعملت أجهزة النظام هذا الفولكلور في التسحيجللزائرين الرسميين إلى معان والاحتفاء بهم. قبل أن يتم تأسيس فرقة معان للفنون الشعبيّة، ويتم تصديرها إلى المراكز الثقافية والمسارح في العاصمة عمّان للترفيه عن المسؤولين، ولتصدير الفولكلور الأردنيلدى مشاركتهم في الفعاليات الثقافيّة العربيّة والعالميّة.

من أشهر السحجاتهي أول القول ذكر الله“. وهي لازمة تستعمل في الدبكات في سورية والسعوديّة وفلسطين والأردن.

أول القول ذكر الله. أول القول ذكر الله

والشياطين نخزيها. والشياطين نخزيها 

ديرتي حلوة المية. ديرتي حلوة المية 

يا محلا شمخة اقصوره. يا محلا شمخة اقصوره

فلسطين العربية. فلسطين العربية

عند اليهود مأسورة. عند اليهود مأسورة

فلسطين العربية. فلسطين العربية

تنخا شباب العروبة. تنخا شباب العروبة

يا شباب الأردنية. يا شباب الأردنية

يا شباب المعانية. يا شباب المعانية

كلهم اسباع وانمورة. كلهم اسباع وانمورة

والدبابات أردنية. والدبابات أردنية

منها اسرائيل مقهورة. منها اسرائيل مقهورة

زغرتت كل نشمية. زغرتت كل نشمية

فرّعت كل مستورة. فرّعت كل مستورة

وبعد أن تم إنتاج فرقة معان الشعبيّةبنسختها المشوّهة، اختفت الإشارة إلى الدبابات الأردنيّة، وظهرت الإشارة إلى من يقتني هذه الدبابات في متحف السيارات الملكي، وإلى هواية اقتناء السيارات والدراجات الناريّة.

هبة تشرين تقوّض مملكة الكوكيز

جاءت هبّة تشرين لتنقلب على مشروع المهادنة مع النظام الذي تبنّاه قسم من الناشطين السياسيين والموسيقيين والفنانين. فلأول مرة يرفع شعار إسقاط النظامبشكل حاد وعنيف بعد تدرّج هادئ اخترع عبارة الشعب يريد: إس إس، إصلح ولا نكملها“. وعندما اندلعت الهبّة، كان واضحاً أن اللغة عادت إلى منبعها الأصليّ: الشارع. كان التغيير في اللغة حاسماً. سواءً اللغة التي ينبغي التشويش عليها، أو اللغة التي يجب أن يتم استعمالها لتسميّة الأمور بأسمائها الحقيقيّة.

ففي كلمة للملك عبد الله في 23 تشرين ثاني/ أكتوبر 2012، والتي تزامنت مع إيعازهبالإفراج عن معتقلي الحراك الذين يواجهون إلى الآن اتهامات بـتقويض النظام، انكشفت المناورات اللغويّة شيئاً فشيئاً حتى تقترب من اللغة الإصلاحيّة التي يتم الهتاف والتغنّي بها في الشارع. ففي ذلك الخطاب، استخدمت لأول مرة كلمة الملكيّة الدستوريّةبعد أن كانت مطلباً من المطالب المعلّقة في ورقة على دوار الداخليّة في اعتصام 24 آذار 2011. ولأول مرة يتم الاستغناء نهائيّاً عن مصطلح مكرمةفي بيانات الدائرة الإعلاميّة في الديوان، وفي أخبار وكالة بتراالرسميّة.

التغيير في اللغة ليس عبثيّاً. ورفع أسقف الهتاف ليس أمراً صبيانيّاً. فإذا كانت اللغة إحدى إنجازات السلطة، فاللغة أيضاً هي أول ما ينهار في منظومة الطاعة والولاء المجّانيين. ليتم الهتاف أمام الديوان: “بطلنا نهتف يعيش، ليش نموت وانت تعيش؟“.

الانهيار الأكبر لهذه المنظومة كان في تحويل أغنية يا بيرقنا العالي” “الوطنيّةإلى دبكة الفساد“.
اللغةالمحليّة تحديداً، هي أول خط دفاع للسيستم الوهمي. لذلك، عند الحديث أمام وسائل إعلام أجنبيّة، يتخلّص السيستم من خط دفاعه. وعندما تتشبّث الطبقة المفصومة بمكتسبات الحديث باللغة الإنجليزيّة، تجد نفسها خارج المكان.

 

وعندما اندلعت الهبّة، كان تقويض هذه اللغة جاهزاً وحاسماً من منطقة ذيبان في محافظة مادبا. والتي شهدت أول مظاهرة إصلاحيّة في كانون أول/ ديسمبر 2010.

ففي ساحة كبيرة أحرقت على أطرافها صورة كبيرة للملك، عقد شباب حراك ذيباندبكة من ذيبان الأبيّة نعلنها جمهوريّة“.

وعلى مقربة من الديوان الملكي منتصف ليلة 14 تشرين ثاني/ نوفمبر 2012، جلس شباب حي الطفايلة، بعد يوم طويل، على رصيف شارع أغلقه المعتصمون ليبدأ ثلاثة منهم بغناء سحجةمشهورة تم تعديل اللازمة فيها من يا عبد الله يا كوم الذهب الأصفرإلى يا خيي منذر ويا كوم الذهب الأصفرإشارةً إلى منذر الحراسيسالذي اعتقل وقتها إثر مظاهرات الهبّة.

هذا الفرز اللغوي أقصى، أيضاً، مدّعي الموسيقى البديلة الذي أقصوا أنفسهم عمّا يجري على بعد شارع من أغانيهم. لينتهي مشروع الموسيقى البديلةالعمّانية التي عجزت عن العثور على الأصيل والحقيقي فيما تقدّمه، لتبدأ مرحلة الأغنية الشعبيّة الأردنيّة.

المزيـــد علــى معـــازف