.
بدايةً، يجب التنويه إلى أنّه لا ينبغي استخدام المقال كمرجع تاريخي عن فرقة طيبة، ولا يمكن استخدامه (نظرًا لخلفية الكاتب غير الموسيقيّة) كنقد موسيقي بحت. إذ سيجري في المقال البحث في أسباب زوال الفرقة من الذاكرة المصريّة واختفائها بعد أسطوانتين موسيقيتين، ومقطوعات موسيقى تصويريّة لعدد من الأفلام، بالرغم من الموهبة الفطريّة التي يتمتع بها آل إمام – الأعضاء.
أشعر بالحاجة للتنويه أيضًا بأن المقال لا يدّعي ردّه لاعتبار الفرقة التي لم تحظ بما تستحقّه من الشهرة أو التقدير، ولا اللعب على نغمة حنين من النوع القائل بأن الجيّد في هذا الزمان ليس له مكان، وبأنّ ومصير أي موسيقى محدِّثة أو مطوِّرة – Avant-garde ألّا تكون مفهومةً في زمانها، إلى آخر تلك العبارات. المقال هو، فقط، محاولة لفهم أبعاد المشروع الموسيقي الذي قام به حسين ومودي الإمام بأقل قدر من المعلومات المتاحة عنهم. ومعظم الآتي هو محض افتراضات يمكن أن تؤسّس لدراسة متقصّية أو مسودّة لفيلم سينمائيّ.
ظهرت طيبة في أواخر السبعينيّات في مصر بعضوين أساسيين: حسين ومودي الإمام، لتُصدِر أسطوانتا الدنيا صغيرة والحب حكايتي التي اشتهرت منها أغنية وماله. إضافة إلى إنتاجهم للموسيقى التصويريّة لفيلم أنياب الذي يقع تحت خانة أفلام مصاصي الدماء، من بطولة علي الحجار وطلعت زين وأحمد عدوية، والذي يمكن أن يوصف بشكل أفضل من مشاهدته. ذلك إذا استثنينا إنتاج كل من حسين ومودي الإمام بشكل منفرد.
إن قمنا بالبحث على صفحات الإنترنت، لن نستطيع أن نجد سوى معلومات قليلة جدًا عن أعضاء الفرقة، ومعلومة أخرى غير هامة في مشوار الفريق الفني سأذكرها لاحقًا. سنجد أيضًا روابط أخرى في صفحات الويكيبيديا لتصلنا بصفحة حسين الإمام التي تحتوي على معلومات أكثر نسبيًا من صفحة مودي، وذلك نظرًا لإنتاجه التلفزيوني الأكثر ثراءً، وتوجهّه للتمثيل. يُذكر عنه أيضًا أنّه زوج الفنانة سحر رامي التي نجد عنها، بالمقابل، معلومات أوفر مما نجده عن مودي الإمام.
انشغل حسين الإمام منفردًا لعدّة سنوات بالموسيقى التصويريّة للأفلام، إلى جانب ظهوره كضيف شرف أو ممثل ثانويّ في الكثير من الأفلام. إلى أن أعيد اكتشافه كرافد لم ينضب بعد من الهيافة (بمفهومها الإيجابيّ) والسخرية وعدم التكلّف. ففي السنوات العشرة الأخيرة، استُغلت هذه المواهب في أكثر الصور مباشرة؛ وهي برامج المقالب، مثل حسين عالناصية وحسين في الاستوديو، وغيرها من البرامج التي أتاحت له مساحة للتصرّف على سجيّته وطبيعته البسيطة – لكن فيما يشبه استعباطًا وليس تمثيلًا. لكنّه أيضًا أسلوب التمثيل الذي برع فيه؛ فأسلوب الاستعباط بالنسبة لحالة حسين الإمام هو التصرّف كما لو أنه يمثّل لكن بشكل مفضوح تمامًا، فلا نصدّق حرفًا ممّا يقول. إلا أنه يسدّ خانة، ويكون تلقّي أسلوبه غالبًا بشكل كوميدي، حتى إذا كان دوره شرّيرًا.
في محاولة التركيز على طيبة، نأخذ على سبيل المثال أسطوانة الدنيا صغيرة التي أُنتجت عام ١٩٧٩. تظهر الأسطوانة ثراءً واضحًا في الألحان والآلات المستخدمة والتأثّر بالموسيقى الغربيّة (وليس بالبيتلز كما يشاع فحسب، ولكن بجيل كامل من موسيقى الستينيّات والسبعينيّات الأميركيّة والبريطانيّة). إلى جانب ذلك الثراء نجد فقرًا واضحًا في جودة التسجيل وتحرير وتحويل الصّوت – Mastering، ممّا يترك الأسطوانة في حالة مزرية لا يمكن للمتلقّي التعاطي معها سوى كدراسة حالة بدون الاستمتاع الحقيقيّ بالمحتوى.
قد نتفاعل قليلًا مع فقر إمكانيات التسجيل بنفس التفاعل النوستالجيّ الذي يرافق الاستماع إلى أسطوانة فينيل من القرن التاسع عشر، لكن مع النغمات الحداثيّة وطبقات فوق طبقات من الجيتار والسينثسايزر– Synthesizer، فيفسد حتى ذلك الطقس المصاحب للاستماع إلى أسطوانات تاريخيّة قديمة، وتسامحك مع حشرجة التسجيل.
تنقسم الأسطوانة، من حيث محتواها الفني، إلى نصفين: أولهما المكوّن من أول خمس مقطوعات والجدير بتسميته كـ ألبوم انفصال كما يقال عن بعض الأسطوانات. تتوالى الأغاني حول فكرة الهجر والفراق ووداع الأصدقاء والسفر والهجرة ولقاء الغرباء صدفة. ثم يأتي النصف الثاني الأقل تميّزًا في تمجيد القوميّة وترسيخ الجذور والتأكيد على الهوية، وبعض الأفكار الإيجابيّة والتنمويّة التي تخلو من مضمون لأنّها غير أصيلة وحقيقيّة. منها تلك النغمة الإرشاديّة الناصحة: “اضحك ابتسم حب وعيش، وهكذا“، التي ما أن أستمع إليها شخصيًا حتى أشعر بالاستفزاز. كما لو أنّني مبرمج على الكره الفوريّ لأي مطرب أو أي شخص يقول جملة “الشمس حتطلع بكره“، أو ريبرتوار الشروق والغروب والكنايات المثيرة للتفاؤل أيًا كان مكانه أو زمانه. لكن بالرغم من ذلك، لا يصيبني نفس الحنق من فرقة طيبة، وذلك لأن إنتاجهم على قدر من البساطة التي يُهمل معها الالتفات إلى كلماتهم بأيّ شكل من الجديّة، وكأنها كلمات مترجمة عن لغة أخرى، أو كأنّه تمثيل وتقليد لنوع معين من الأغاني على طريقة حسين الإمام في الاستعباط. فيما يلي، استعراض لبعض المقتطفات الهامة من الأسطوانة كمحاولة لدراسة الفرقة.
تبدأ الأسطوانة بأغنية دي الأصحاب ولا بلاش، التي يعاتب فيها المغنّي نفسه لكونه صديق غير جيّد، نظرًا لتمركزه حول ذاته وعلاقاته. متذكّرًا ذلك فجأةً، بعد أن تركته صديقته لتتزوج – ربما لأنه لم يكن ينتوي الزواج منها من الأساس – فوعى بأن له أصدقاء وبأنّهم أهم من كل شيء، وهم أفضل منه لأنهم دائمًا من يبادرون بالسؤال. كما يجد بأن السؤال عن الأحوال، والنميمة بين الأصدقاء أمتع من كل الصديقات والعلاقات؛ ولكي ينسى همومه فهو يندمج بحوار متخيّل مع صديقه الذي يبدأ بسؤال عن الأحوال ليغرق بدون قصد في موضوع فرعي وهامشي تمامًا عن صديقتهم في الكليّة التي أصبحت ممثّلة تتقاضى أجورًا هائلة.
ثم تأتي أغنية الأسطوانة الرئيسيّة: الدنيا صغيرة، بمقدمة موسيقيّة رقيقة، معلنةً بأنّها، أيضًا، أغنية فراق يودّع فيها المغنّي صديقةً، واعدًا إيّاها بأنّه سيقابلها صدفةً بالتأكيد، فـ الدنيا صغيرة. لنتفاجأ بأن الشخصيّة هنا ليست صديقة، إنّما صبيّة رآها منذ ساعتين، وهو فقط يفترض أنّه سيقابلها مرة أخرى، وقد يكونان أصدقاء بالمراسلة. تمجّد الفرقة في تلك الأغنية العلاقات العابرة والاغتراب في عالم، والابتعاد عن عالم آخر، في محاولة للبحث عن فرص جديدة، مع الندم لأنه قد يهدر الشخص فرصه التي كانت متاحة في الوطن الأول.
أما أغنية أسوان، فهي من أكثر الأغاني ثراءً في اللحن. إذ تبدأ بالإيقاع النوبي الخماسي، في محاولة لصبغ الألبوم بصبغة قوميّة، لكن يتم التخلّي عن ذلك الإيقاع ما أن يبدأ اللحن. تتكلّم أسوان عن علي الذي فارق رفيقته للتوّ بسبب سفرها إلى أسوان. مع تكرار للكلمة وتطويل في حروف المد ما يؤكد على بُعد المسافة – كتأويل انطباعيّ محدود. ها هو علي يسافر وراء حبيبته لأنه لا يستطيع الحياة بدونها، ولا حتى يستطيع العزف على الجيتار. لتنتهي الأغنية بتطويل في اللحن يؤكد، هو الآخر، عن الابتعاد والاغتراب والعزلة، وكأنها موسيقى مصاحبة لرحلة طويلة.
تبدأ أغنية عمل إنسانيّ بصولو طويل بالجيتار الكهربائيّ بنغمات طويلة ونقرات متكرّرة على البيانو. تصف كلمات الأغنية حالة الملل من المسلسلات والأخبار، والحاجة للاستماع إلى عمل إنسانيّ. لكن الأغنية تقع في سطحيّة الجناس شديد الضعف إلى درجة السذاجة ما بين عمل إنساني، وأوعى تنساني، دون أيّة إشارة إلى ما أو من هو المقصود بالتذكّر. ثم تدخل الأغنية بهاجس نشيد وطنيّ غربيّ الطابع بقصد الاستماع إلى عمل مصراوي، بسذاجة بريئة مشكوك في مصداقيّتها، لأنها صادرة عن شخص لا يتميّز، بالضرورة، بانتمائه الوطنيّ الواضح.
من أغاني الفراق أيضًا: شكلك متغيرشي، وهي أيضًا عن رفيقة، تلمّح الكلمات في البداية أنّها كانت مرتبطة بعلاقة وطيدة مع المغنّي، بينما يتضّح بعد ذلك أنّها علاقة سطحيّة لا يعرف صاحب الكلمات عن الرفيقة أكثر من أنّها “بتسمع مزيكا، والدنيا لما تشتي شكلها بيبقى أنتيكا“. وذلك بمرافقة بموسيقى حزينة، لائمًا إيّاها لأنها لا تعرفه ولا تتذكره رغم أن شكلها لم يتغيّر، وبأنها تتكلّم ولكنّه كلام ليس موجهًا إليه بشكل خاص. ويدعوها إذا لم يكن لديها الوقت لاجترار الذكريات وزيارته في البيت.
قد يكون من الظلم والإجحاف التركيز على كلمات أغاني فرقة طيبة، والتي من الواضح تمامًا أنّها لم تكن ضمن مجال تخصصهم بشكل كامل. فلم تكن وظيفة هذه الكلمات إلّا ملء الفراغ الذي تتركه الموسيقى بصوت المغني الأساسي الذي بدا ضروريًا مع ذلك النوع من الموسيقى. وهي لو لم تكن مغنّاة بصوت حسين الإمام الطفوليّ البريء لتمّ التعامل معها على أنّها جريمة.
أعتقد أن الكلمات، في معظم الأحيان، إن لم تكن مفيدةً بالكامل، إلا أنّها لم تكن مضرّة كذلك؛ إذ تأتي هذه الكلمات من تربية ونشأة متأثرة بكلمات فريق البيتلز التي تحثّ على اجتذاب النساء وإثارة انتباههن ومحاولة إقامة علاقات عابرة سريعة بلا تعقيدات. لا تضمر الكلمات، عمومًا، خبثًا أو سوء نيّة، ولا هي مزدوجة المعنى، ولا تصبغ نفسها بالحكمة إلى أن يتّضح منها أغراضًا خفيّة، ولا تدلّ سوى على تبسيط وسذاجة محبّبة يندر وجودها بهذا الشكل المباشر.
تظهر هذه الطريقة بأوضح نماذجها في أغنية الدنيا صغيرة كما ذكرت، إضافة إلى أغنية تبقى جميلة جدًا. ففي الأغنيتين، الكلمات بسيطة ومباشرة وإن احتوت على قدر بسيط من الحكمة لمن يبحث عنها. كلمات مستمدّة من قاموس اليوميّ البسيط، مكتسبةً قيمتها في تكرارها، والفرقة هنا تتبنّاها وتختارها كعنوان للأسطوانة أو الأغاني، مع التركيز على معناها الخفيّ.
ففي أغنية تبقى جميلة جدًا التي تبدأ بألحان من الفولك الغرب–أمريكيّ، تسرد الكلمات فيها ابتعاد أعضاء الفرقة عن الصورة التقليديّة، أي أنّ المغني ليس النموذج المثالي المتّبع في الستينيّات لمعبود الفتيات: ليس متفوقًا علميًا أو دراسيًا أو تكنولوجيًا، ولا هو ضليع بالفرنسيّة، والأدهى أنّه لا يهوى كرة القدم. لكن الأهم من كل ذلك، وهو ما يوضح صدق الفرقة الحقيقيّ، وأنّ السّمة الأساسيّة التي فضّل واحدهم أن ينعت بها نفسه على النقيض من كل المساوئ السابق ذكرها، ليتميز بها عن غيره لجمهور من الفتيات، هو أنّه – إلى جانب اهتمامه بموسيقاه وجيتاره الذي كرّره عدة مرات خلال الأسطوانة – ليس “غلباوي“، أي أنّه خارج لعبة اللف والدوران، ولا يُظهر عكس ما يبطن، وله مشاعر رقيقة: وهو المعروف عن الصورة التقليديّة المصريّة. وإذا ما بادلته صديقته تلك المشاعر، لأصبحت الدنيا جميلة جدًا.
يتأصّل الإحساس بهذا الصدق من خلال تأثيرات الصوت الحداثيّة والسينثسايزر البدائيّة التي تمنح الأغنية انطباعًا عميقًا وصادقًا، خاصة عندما تقول الكلمات: “عارف إني بعيش مرة واحدة، يا ريت تبقى معاكي” – وهي الإشارة الأولى الذي يتمنى فيها علاقة غير عابرة؛ ومع تطويل في القرار والخاتمة الموسيقيّة الحالمة، تصبح تبقى جميلة جدًا من أفضل الأعمال في الأسطوانة.
سقط فريق طيبة سهوًا نتيجة لأزمة هويّة لا تخصّهم. بل أزمة جمهور عريض لم يعط للفريق قدره. قال لي أحد الأصدقاء مازحًا ذات مرّة أنه “بعد كل هذا التراث الموسيقيّ الحداثيّ ولا يزال يقال أنّ هاني شنوده هو مطوّر الأغنيّة المصريّة“؛ وهو قول ساخر نظرًا لما قدمه هاني شنوده – في نفس مجال اختصاص مودي وحسين الإمام – من تطوير محدود نسبيًا، لكنه غاية ما يستطيع الجمهور المصري استيعابه في تلك الفترة. كان بالطبع لفرقة طيبة بعض المريدين، لكنّهم ممّن فضّلوا الاستماع إلى الموسيقى الغربيّة وقتئذ. في الوقت ذاته، دائمًا ما تأتي أزمة الهويّة لإنهاء أي حوار بصدد هذا الفريق؛ فالألحان ليست مصريّة ولا عربيّة أو شرقيّة بشكل عام، إنّما منقولة نقلًا عن الأغاني الغربيّة.
أعتقد أن هذا نوع النقد الذي أنهى فرقة طيبة. إذ كانت محاولاتهم في الأسطوانة الثانية الحب حكايتي بإدخال بعض الإيقاعات الشرقيّة فاشلة، لتنتج في النهاية تجربة ممسوخة لا تعبّر عن انتمائهم ومرجعيتهم، ولا قامت بإرضاء جمهور الموسيقى الشرقيّة. هذه مشكلة أزليّة: فطالما الفنّان عربيّ، لا بدّ أن يظهر ذلك في أعماله بشكل خاص ومباشر. هذه نوعية من النقد لا تجدها سوى في البقاع التي تعاني من أزمة هويّة، ولا يتم تقييم الأعمال المنتجة فيها وعبرها بغض النظر عن بلد منشأها وجنسيّة صانعها. وكان لنقد مثل هذا النصيب الأكبر من تدمير كل ذكرى للتراث الموسيقي الذي قام به هذا الثنائي.
العامل الآخر الذي أرى أنّه أدى إلى انتهاء الفرقة هو الافتقار إلى القصة وراء الأعمال الفنية. إذ يعتمد نجاح الأعمال الفنيّة، ضمن الإنتاج الثقافي الرأسماليّ، على الاقتران بقصّة لبيعها كسلعة مساوية غالبًا للمنتج الثقافي. هذه المنظومة أدّت إلى الحاجة الحتميّة لتسويق قصّة المُنتِج الفنّي التي يمكن للمتلقّي التواصل معه بشكل إنسانيّ: ليتم تأويل الكلمات ومحاولة فهمها بشكل أكثر دراميّة مع القصّة المصاحبة. إلا أن قصّة الفرقة هنا لم تكن المفضلة للشعب المصريّ.
فجيل ما بعد الثورة كان يفضّل قصص الأشقياء الذين حازوا بالموهبة والجد والاجتهاد على نصيبهم من الشهرة والتقدير. كقصة عبد الحليم حافظ اليتيم المريض غير المتوازن نفسيًا وجسديًا، الذي احتل، على النقيض من ذلك، قلوب المستمعين واهتمامهم. كذلك الاختراقات الطبقيّة مثل قصص ابن البستاني الشهيرة الذي يحب بشجاعة بنت الباشا، ضاربًا العادات والتقاليد والفروق الطبقيّة عرض الحائط، ويأخذ نصيبه من الدنيا. تلك هي كانت نوعية القصص المفضّلة.
كانت قصة حسين ومودي الإمام مناقضة لكل هذا السوق. فهما أبناء المخرج المشهور حسن الإمام اللذان حظيا بقدرٍ وافر من التعليم والحياة الكريمة، لكنهما قاما بازدراء كل مظاهر الحياة المترفة وسافرا لدراسة الموسيقى: متسكعان في شوارع أميركا وفرنسا، مفضّلان التسوّل والحياة على الطريق بما تقتضيه الموضة الأوروبيّة: النقيض التام للقصة المفضلة لدى المصريين. إذ لا يسع المصريين سوى رؤية أصحاب هذه القصّة على أنّهم مدللين رفضوا النعمة ولا يتحمّلون مسؤولياتهم؛ وفي كل مرة كان يكرّر حسين أو مودي الإمام هذه القصة، كانت تنخفض شعبيتهما بقدر لا شكّ فيه. لاحقًا، لم يكن من المستغرب أن تقتصر استعادة قصّة الفريق على خبر واحد: وهو أن أحمد عز – صاحب مصانع الحديد والصلب – كان عازف الدرامز في هذا الفريق، وهو الآن في السجن.
لا ألوم أحدًا على تلك المفاهيم، فلا أستاء من شعب مقهور يفضّل قصص النجاح – وإن كنت لا أفضّل نفس النوع من القصص، ولا أشعر بالضغينة تجاه شخص مقتدر آثر التسكع على التمتّع برفاهية الحياة – كما لا أعتبره بطلًا بالضرورة. لكن فقط من خلال محاولة لفك رموز هذه القصة وتحليل أسباب انتهاء الفرقة يمكن الاستنتاج بأن طيبة، وإن تزامن ظهورها مع تغيّرات موسيقيّة عالميّة واكبوها ببراعة، إلّا إنهم لم يكونوا ملائمين للمكان الذي فضّلوا البقاء فيه؛ لا لاختلاف مرجعيّتهم الموسيقيّة فحسب، بل لاختلاف توجهّاتهم الشخصيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة.
من الطبيعي، بالتالي، أن يتعامل أعضاء الفريق مع ذلك الاغتراب بمبالغة أدت بهم إلى مصير أسطوريّ يليق بفيلم سينمائيّ: فأحمد عزّ لا يرى في الفن أيّ مستقبل ماليّ أو جماهيريّ، فيصيبه اليأس ويهجر الموسيقى ويدفن نفسه في العمل، ليصبح واحدًا من أبرز رجال الأعمال ثم يسجن. حسين الإمام يتحوّل، في محاولته للتعايش مع المجتمع، إلى مهرّج يقدّم برامج الطبخ والمقالب، بدون تقدير لتاريخه وقيمته الفنيّة. بينما تصيب مودي الإمام حالة من الاكتئاب الشديد، ويمتنع عن الظهور في أي وسائل إعلاميّة، متحصّنًا في منزله، ومترقّبًا النهاية.